[كمال خوجة]

مذكرات ضابط المخابرات العثمانية أشرف بك
مدير دائرة الجزيرة العربية وسيناء وشمال أفريقيا
في المخابرات العثمانية

شاب تركي في خيبر
أشرف قوشجى باشى

أعدها للنشر
د. فيليب هـ . ستودارت
ح. بصري دانشمان
ترجمة : كمال خوجة
كان اليوم الثاني من وصولنا، وقع أحد أصدقائنا وهو يوزباشي حلبي اسمه عزت أفندي مع خمسة عشر من الجنود في قبضة العدو خلال إحدى المعارك قرب المدينة، وعومل بكثير من الإهانة، حيث جرد من ملابسه وجيء به على هذه الحالة إلى ينبع ، رموا هذا الضابط مع الجنود في أحد الأقبية. علمت بذلك، فأرسلت خبرا إلى فؤاد أفندي وعبد القادر أفندي وطلبت إيصال الأفراد عند الأفراد التابعين لي والضابط عندي ، فجاءوا بالضابط فلما جيء بعزت أفندي المسكين لم أميزه من الجنود ، حتى إنني ظننته جنديا فسألته:" من أين أنت يا ولدي؟ " فدهشت عندما أجاب:" أنا يوزباشي يا سيدي" قلت له:" تفضل" وكان المسكين مجروحا من عدة أماكن في جسمه ، وخاصة هناك رصاصة دخلت في وركه من جانبه فهو لا يحس بها ، فلا يتذكر سوى الضرب والسقوط، أما الجرحان الآخران فهما متورمان ومتقيحان، فبحثنا عن أية ملابس فكسوناه بها فهذا الصديق هو الآن معنا. وكنا نظن حتى الآن بأننا سنذهب إلى مصر بعد أن زودنا الأمير عبد الله بوثيقة وتقدم بطلب إلى الجنرال ويلسون كما قدم استعطافا إلى أبيه. لكن الحقيقة كانت غير ما نظن. فما أن أخبرت المراقبة بالبرق اللاسلكي بوصولنا إلى ينبع، حتى علمت بأن القائمقام تلقى أمرا من الشريف يقول فيه:" اهتموا به ولكن كونوا يقظين ، فهو وجه معروف، فر من قلعة المدينة كما تفرد وتميز بكثير من الصفات غير العادية ، لا تغفلوا عنه أبدا ، لأنه إذا وجد أية فرصة فسيفرمن أيديكم . إننا نراه رجلا مهما ، فلا تقصرا في تكريمه ولكن لا تفسحوا المجال لفراره وأرسلوه إلى جدة في البارجة نورسيس بورغيس.
ومن الطبيعي أن يعتريني الحزن الآن قليلا لأنني سأذهب إلى مكة ، ولأنه من المحتمل أن نبقى هناك بصفة أسرى. لكن أعرف أيضا أننا ما إن ندخل السفينة الإنجليزية حتى يكون إرسالنا بصفة رسمية ولن تكون هناك أية مساعدة كي نعاد إلى بلادنا. فهذا لن يحصل كما لن يكون هناك أي جزاء أو عقوبة. كنا في يومنا السادس التاسع عشر من كانون الثاني 1332، عندما جاءت السفينة المذكورة فقبلوني في السفينة بمراسم ، وتم تنويم الضباط والأفراد الجرحى في مستشفى السفينة. أما القبطان فقد تلطف بتخصيص مقصورته لي. هذه المقصورة عبارة عن غرفة نوم وصالة وحمام . وأركب فؤاد أفندي وبسيم أفندي مع الأفراد في السفينة. تحركت سفينتنا وقت العصر، وفي ضحى اليوم التالي وصلنا رابغ.
في رابغ
20 كانون الثاني 1332 الساعة بعد الثانية.
كان في رابغ مقر عسكري للشريف وقادة هذا المقر هم ضباط شاميون وبغداديون فروا من عندنا ، ويرأس أركان حربهم نوري بك البغدادي( وهو نوري السعيد رئيس وزراء العراق الذي قتل أثناء ثورة 1958. وكانوا جميعا من القوميين أما القائد العام فهو عزيز بك المصري الذي عهدت إليه وزارة حربية الحجاز. وقد أصبح برتبة باشا. وكان يشرف على المقر اللفتيننت كولونيل إي. سي ويلسون باعتباره موظفا سياسيا معينا من قبل الإنجليز. صعد هذا الكولونيل ووزير الحربية عزيز باشا المصري إلى السفينة وزاراني، وما إن رآني عزيز باشا حتى عانقني وقبلني وقال:" الحمد لله على سلامتك يا أشرف" كنت حائرا ومندهشا. فبالأمس كان عزيز علي بك ضمن قواتنا مكلفا بالدفاع عن بلادنا والآن هو ضد ما كان عليه. أمر عجيب حقا! إنه شخصية تعرفها الروميلي، وكافح من أجل الدفاع عن درنة ، ووقع في المحاكم وحكم عليه بالإعدام ونجا بعفو السلطان عنه ثم انسحب إلى مصر . عرفته كذلك. أما الآن فإنني أستغرب أن يكون هذا الرجل وزيرا للحربية.وبعد أن بقي عزيز بك فترة من الوقت مع الكولونيل الإنجليزي ، انتقل الكولونيل لمشاهدة الأفراد.وبقي عزيز بك وحده. فكان يعبر أن حزنه وأسفه لي، قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:" آه يا أشرف! بالأمس كيف كنا، واليوم كيف أصبحنا. إنني أحس بأنك لما رأيتني على هذه الحالة حكمت بخيانتي، ولكن عزيز هو عزيز الذي يحب الأمة التركية ويحب بلاده التي عاش فيها ويحب الإسلام ، إنك تراني بما أنا عليه الآن لأن سياستنا تقتضي ذلك.وإذا كان من أحد يبكي دما من أجل تلك الأمة فهو أنا ، لأنني نشأت فيها ودرست في مدارسها ، ومن النذالة أن أنكر هذا، تعال يا أشرف ننزل ونذهب إلى المقر، وإذا قبلت تبقى ضيفا عندي عدة أيام. وبعد ذلك تذهب إلى مكة ، ثم إن لي أمورا خاصة أبحثها معك" وجاء زورق فنزلنا أنا وعزيز باشا والكولونيل إلى الميناء بهذا الزورق. ثم أوصلتنا سيارة إلى المقر.

في مقر القوميين برابغ
20 كانون الثاني 1337
وصلنا المقر وتحادثنا مع عزيز باشا طويلا، وقد أكرمني بروح الصديق ، حتى إنه إذا مر اسم خصمه أنور باشا أثناء الحديث ذكره بكل احترام وقال" حضرة أنور باشا" ولا أعرف إذا كان ذلك بسبب أريحيته أم تكريما لي.وجاء كافة الضباط القوميين، كانوا قادمين لزيارتي. ويمكنني أن أقول بأنني فهمت بعد أن تفحصت وجوههم أنهم مجموعة سفلة لا تنفعنا ولا تنفع الشريف. إلا أنني حزنت على أحدهم واسمه سعيد البغدادي الذي التحق بمجاهدينا في المرحلة الأخيرة من حرب درنة( وهو نوري السعيد رئيس وزراء العراق فيما بعد) فقد أظهر شجاعة في مهامه أثناء الحرب ليغطي نقصه في الإجتماعيات. وهذا تنكر لمسلكه وخان الأمة التي عاهدها في الدفاع عنها . تذكرت ذلك وأضفته أيضا إلى مجموعة السفلة هذه. شربنا الشاي مع هؤلاء وتحادثنا معا . ثم وجه عزيز بك كلامه إليهم قائلا:
" هيا يا رفاق اسمحوا لنا فإنني سأجلس مع أشرف بك قليلا"
الحقيقة أنني في أول الأمر ظننت بأن هذا اللقاء يهدف إلى كسبي إلى جانبهم، لكنني فهمت بعد ذلك أنني أخطأت في هذا الظن. وختمنا اللقاء بكل احترام وتقدير. كان عهدا بيننا على أن يظل الحديث سرا. وإنني أرى ضرورة في أخذ موافقته قبل نشر ما كان بيننا من حديث .
وبعد ختام الحديث أراد أن يطلب لنا طعاما، فقلت له بأنني أكلت ، قال : "إذن يا أشرف بك ابق هنا بضعة أيام" ، قلت :" أبقى إذا كان مناسبا" . وركبنا السيارة مرة أخرى وقمنا بزيارة الشريف زيد ابن الشريف الأصغر الذي يقيم في البيت المصادر من الشيخ حسين بن المبيريك شيخ المشايخ الذي حارب الشريف إلى جانب الحكومة العثمانية. فأكرمني الشريف زيد . وعندما عدنا إلى مقر عزيز باشا كان الأمر البرقي من الشريف حسين قد وصل حيث يقول فيه:" عليك ألا تبق أشرف بك في المقر أرسله بالسفينة المذكورة" ومن الطبيعي أن يكون هذا الأمر خلافا لرغبة عزيز باشا ، فودعت عزيز بك وعدت إلى السفينة بالزورق الذي جاء بنا ، ورافقني رجل اسمه بكري وهو من وجوه الشام الذين جاءوا إلى المقر بعد أن فروا من عندنا.وبعد ساعتين من وصولي أبحرت السفينة ، وقد عرفت من البحث الذي أجريته مؤخرا أنهم جاءوا إلى اليوزباشي عزت وأصروا على بقائه لكن هذا العسكري النظيف رد عليهم:" أنا عسكري لا أعرف العروبة ولا الحلبية" . تحركنا ذلك اليوم وبعد…. ساعة وصلنا قبالة جدة.