مذكرات المناضل فيكتور!
بقلم المهندس/ علاء زايد فارس
أهديها لروح مناضل السلام الإيطالي فقيد الشعب الفلسطيني البطل/ فيتوريوا أريغوني "فيكتور"
الذي سقط على يد الغدر والحقد الأعمى...!
خُضْتُ أَمْواجَ البِحارِ....
وَجِئْتُ مِنْ بَعيد..
لأنْصُرَ شَعْباً...
يَرْزَحُ تَحْتَ احتلالٍ بَغيض...
ضاقَتْ عَلَيَّ الدُّنْيا بِمَا رَحُبَتْ..
فَتَرَكْتُ عَالماً فَسيحاً أنْتَمي إليه...
لأَشُدَّ الرِّحالَ نَحْوَ تِلْكَ البُقْعَةِ الصَّغيرَة!
شِعَارِي "أَيْنَما يَقْطُنُ المَظْلومُ فذاكَ مَوْطِني"..
اسْمُها غَزَّة...
أَحْبَبْتُها وَعَشِقْتُها حَتَّى الثَّمالة...
وَعَشِقْتُ أَمَّها فلسطين حتى الجُنُون...
وَحِينَما انْفَضَّ مِنْ حَوْلِها الكَثيرُ مِنَ البَشَرْ...
وَأَرْهَقَتْها أَحْقادُ قُلوبٍ أَقْسَى مِنَ الحَجَرْ...
أَرَدْتُ أَنْ أَبْقى وَرَفَضْتُ أَنْ أَعُودْ!
أَأَتْرُكهُمْ في الخِيامِ شِتاءً تَحْتَ المَطَرْ؟؟!
أَأَتْرُك مرْضاهُمْ بِلا دواءٍ تُحَاصِرُهُمْ أَشْباحُ الخَطَرْ؟؟؟!
نَعَمْ، قَدْ عَادُوا إِلَى دِيَارِهِمْ وَرَفَضْتُ أَنْ أَعُودْ...
فَأَنا فِي هَذا القِطَاعِ الصَّغيرِ تَذَوَّقْتُ طَعْمَ الحَياة!
لَرُبَّما لأَنِّي وَجَدْتُ نَفْسِي فِي ابْتِسامَةِ جَرِيحٍ مُكَابِر..
أوْ وَجَدْتُ ضالَّتِي فِي ثَوْرَةِ مُسْتَضْعَفٍ قَوِيٍّ مُثَابِرْ!
هُنَا عِشْتُ أَجْمَلَ أَيَّامِ عُمْرِي...
تَرَكْتُ أَحْلامِي وَاسْتَلْهَمْتُ مِنْهُمْ حُلماً بَسِيطاً..
أَسْكَنْتُهُ أَعْمَاقَ قَلْبِي..
وَلِكَيْ أَتَذَكَّرَهُ كُلَّ يَوْم...
حَفَرْتُهُ وَشْماً عَلى ذِراعِي...
وَجَعَلْتُهُ دَوْماً شِعَارِي وشِراعي:
الحُرِّيَةُ لِغَزَّة..
الحُرِّيَةُ لفلسطين...
سَأَلَتْني أُمِّي ذَاتَ يَوْم:
لِمَ تَرَكْتَ وَالدِكَ المريضَ هُنا ورحلت؟؟!
فَأَجَبْتُها:
وَالِدي لَيْسَ وَحِيداً فِي بِلادِنا يا أُمِّي...
أَمَّا فِي بِلادِهِمْ هُناك..
يوجدُ شَعْبٌ مُحاصَرٌ بِالهَلاكْ!
نَعَمْ يا أمي تَرَكْتُكُمْ وَرَحَلْتْ..
رَمَيْتُ وَرَاءَ ظَهْرِي حياتي الهادِئَة مُغَامِراً وَرَحَلْتْ..
وأَطْلَقْتُ العَنَانَ لِروحِي المُحِبَّةِ لِلْعَدَالة..
فَحَمَلَتْنِي عَلَى بِسَاطِ الرِّيح...
وأَخَذَتْني إلى بلادٍ يَغْمُرُها الحُزْنُ والأَلَمْ...
رَحَلْتُ يا أمي إلى هناك لأَرْسُمَ الأَمَلْ..
فَما أَجْمَلَ أَنْ نَصْنَعَ ابْتِسامَةً على شِفَاهِ بائِسْ..
وَما أَجْمَلَ أَنْ نُعِيدَ الحَياةَ لقِلْبٍ يائِسْ...
جِئْتُ مُتُحَدِّياً آليَّةً خرقاء تَقْلَعُ الليمون..
تَقْمَعُ التِّينَ وتَسْحَقُ الزَّيْتُون..
جِئْتُ لأحْمِيَ زَهْرَ القُرُنْفُلِ قَبْلَ أَنْ يُداسْ ..
تَحْتَ مُجَنْزَرَةٍ تَكْرَهُ الحَياةَ ...
لا تَعْرِفُ الإِحْساسْ!
كُنْتُ حَاضِراً لأُطْعِمَها جَسَدِي كَمَا فَعَلَتْ رفيقتي "كوري"..
فَقَدْ فَدَتْ بِجَسَدِها الزَّيْتُون..
أَتَعْرِفِينَ يَا أمي "رايتشل كوري"؟؟
إِنَّها فَتَاةٌ مُحِبَّةٌ للسَّلامْ...
إِنَّها لَطِيفَةٌ كَوَرْدَةِ الجوري..
اعْذُريني يا أُمِّي ..
لأنِّي كَثِيرُ الكَلامِ عَنْ عَائِلَتِي الجَدِيدَة...
فَأَنَا أُحِبُّ فلسطين الجريحة...
وانْتَمِي إِلَيْها كَمَا انْتَمِي لِوَطَني الأم إيطاليا...
لِذَا أَخْبَرْتُكِ عَنْها كُلَّ شَيءْ...
أَخْبَرْتُكِ أَنَّ أَهْلَها طَيِّبونْ..
مُناضِلُونَ وَصَامِدونْ وصابرونْ...
وَقُلْتُ لَكِ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّ الفلسطيني حَادُّ المِزاجِ بِطَبْعِهِ مِثْلَنا!
وقلت لكِ أيضاً أنَّ مَلامِحَهُ شَرْقُ أَوْسَطِيَّةٍ كَمَلامِحِنا...
وكَرَّرْتُ عَلَيْكِ مِراراً أَنَّ غَزَّةَ تُمَثِّلُ لِي رُوحاً جَدِيدَةْ..
إنَّها رَمْزٌ لِثَوْرَةِ المَظْلُومِ عَبْرَ العُصورْ..
إِنَّها مَنْطِقَةٌ يَغْمُرُها التَّواضُع ..
لا تُوجَدُ فِيهَا قُصُورْ...
هُنا يا أمي..
تَجِدينَ دَمْعَةَ الرَّحْمَةِ تَنْسابُ فَجْأَةً مِنْ مُقْلَتي مُقَاتِلٍ جَسُورْ!
هنا يا أمي..
يَقْذِفُ الطِّفْلُ حَجَراً على دَبَّابَةٍ بِلا خَوْف..
بَلْ يَقِفُ أمامَها مُتَيَقِّناً بأنَّها مَهْزومةٌ وأنَّهُ مَنْصُورْ!
هنا يا أمي يُقاوِمُونَ الحِصارَ بِأَبْسَطِ الأَشْياء..
يُعِيدُون تَصْنيعَ النِفَايةِ..
يَصْنَعونَ لَوْحَةً فَنِّيَةً مِنْ زُجَاجِ النَّوافِذِ المَكْسُور!
أُنَاسٌ لا يَعْرِفوا الكَهْرَباءَ إلا سُوَيْعات...
يُنَاشِدونَ الغَيْمَ أنْ يَتْرُكَ السَّماءَ للقَمَر...
لِيَنْهَلوا جُرْعةً مِنْ نُورهِ المَنْشُورْ..
هنا يَحْفِرونَ تَحْتَ الأَرْضِ كالخُلْدِ..
يُحْضِرونَ ما اسْتَطاعُوا من طعامٍ ميسور!
في كل بيتٍ هاهنا يا أمي..
تَجِدينَ شَهيداً أو جَريحاً أو مُناضِلاًٍ مَأْسُورْ!
لا تَلومِيني يا أُمِّي،
فَكُلَّما حَدَّثْتُكِ تَجاهَلْتُ نَفْسِي..
لأحْكِي عَنْ أطفالها وأشجارها وعن الزهور...
فَهُمْ هَوِّيَتي الأولى ووَطَني الثَّاني...
لذا سامحيني سأبقى هنا ..
فَقَدماي مُتَمَسِّكَةٌ بأرْضِها حتى النُّخاع كعُمْقِ الجُذور!
عِشْتُ مَعْ أَهْلِها..
جُعْنا وَأَكَلْنا سَوِيَّا..
تظاهرنا وقُمِعْنَا سَوِيَّا..
وبَمَا أَنَّنِي لَمْ أُولَدْ هُنَا..
سَأَمُوتُ هُنَا!
يا عائلتي الكبيرة:
تَرَكْتُ لَكُمْ كُوفِيَّتي لِتَشْهَدَ على انْتِمَائِي لِهَذا المكان..
وتركتُ لكمْ صُوَراً تَنْقُشُ ذِكْرياتِنا على مدى الأزَْمان...
يا رَفِيقَةَ الدَّرْبِ "رايتشل كوري ":
مُدِّي يَدَيْكِ إِلَيَّ..
فَنَحْنُ سَقَطْنا فِي دَرْبِ النِّضالِ الشَّريف...
سَقَطْنا سَوِيَّا...
نَعَمْ تفَرَّقَ مِيلادنا بين خَطِّ طُولٍ
ودائِرَةِ عَرْضْ..
لكنَّ هَمَّ قَضِيَّةٍ وَحَّدَنا على هذه الأرضْ...
إلى أن لقينا نَفْسَ النِّهايةِ مِنْ أَجْلِها...
أَنْتِ سَقَطْتِ ضَحِيَّةَ الاحتلال..
وأنا سَقَطْتُ ضحية ظِلِّ الاحتلال...
ضَحِيَّةَ عَقْلٍ ظَلامِيٍّ مريضْ ...
يُعانِي كُلَّ جُنونٍ واعْتِلالْ..
لقد رَسَّخُوا انْتِمائي لِهذا المَكانْ...
وهذا عزائي الوَحيدْ...
فكما وُلِدْتُ هناكَ في وَطَنِي "إيطاليا"
هنا أَمُوتُ في وَطَنِي "فلسطين "...
أيها العالمُ إليكم وَصِيَّتي الأَخِيرة:
مَنْ يَحْتَرِم العَدالةَ فَسَوْفَ َيَعْرِفُها مِنْ فَلَسْطين!
أُحُبُّكِ إيطاليا..
أحبك فلسطين...
م.علاء زايد فارس
16/4/2011م