المطر غزير والبرد قارس، الظلام الحالك يسود فضاء سور المحكمة العتيق، آثر البوهالي مغادرة فراشه البالي إلى مكان آخر تعود فيه الحصول على وجبة ساخنة وقليل من الدفيء، إنها قلعة منفردة بين الساحل والجبل، تعرف بحانة الصيادين، نصف بنيانها الشاهق شيد على حافة الصخور بين الماء واليابسة، تارة تقسو الأمواج على جدرانها العالية.. يلقى ترحابا خاصا من صاحبها، جلس على كرسي قريب من الباب، قدمت له النادلة وجبته الشهية ومشروبه المفضل دون محاسبة، كان المكان ملجأ له من الظلام والمطر الغزير المتساقط وشارع المحكمة الطويل الذي نصبت على جنباته أعمدة النور الخشبية المتباعدة؛ يأتي ضوءها خافتا كوهم طيف يداعب عتمة السكون، وسبيلها موحش بعواء يخترق فضاء الصمت، مخيف حين وميض البرق ودوي الرعد وهطول المطر. هنا على أجمة هذا الركح، الطاولات والكراسي الخشبية موزعة بشكل عشوائي في القاعة الفسيحة، الجهة الأمامية مرتفعة عن الأرض؛ تتوسطها منضدة طويلة وقطعة من شباك الصيد تفصل الأرض عن السقف، تتدلى من خلالها طيور النورس المحنطة وأدوات الصيد العتيقة، حراب وحبال ومقود سفينة.. الجدار الأيمن رسم عليه منظر بحر هائج وحوت ضخم محنط يحمل سفينة على ظهره، ضوء أحمر خافت وأصوات طيور النورس يعلو شيئا فشيئا يملأ المكان.. خمس زبائن يجلسون حول المنضدة متقابلين خلف رفوف عليها قوارير مختلفة الألوان والأشكال، تتوسطها نافذة مغلقة، والبوهالي في الزاوية اليمنى وقد أحضرت له النادلة وجبة أخرى مفضلة لديه فتسمع طرقات متتالية تليها ثلاث طرقات على إثرها يفتح الباب، يدخل رجل مسن يرتدي معطفا ويضع قلنسوة على رأسه؛ يجلس في وسط القاعة يتابع ما يدور حوله باهتمام دون أن يطلب شيئا، بينما البوهالي منشغل بوجبته غير عابئ بما يدور من حوار بين الزبائن الخمسة، تسمع طيور النورس وهدير البحر تلتطم أمواجه بقوة وعنف على شفير الصخور المحاذية للقلعة، تقف النادلة خلف المنضدة تسقي زبائنها وتصغي باهتمام لما يدور بينهم من نقاش: الأول:"- خرجنا يوما للصيد وصادفنا لون البحر أحمر.. أجلنا رحلة الصيد" الثاني:"- كان الفلاح حينها يصنع قاربا لأن أيام الحرث اقتربت" الثالث:"- يقال أن "هول اكو" عندما احمر ماء البحر كان يتجول في الشوارع المجاورة خلف الساحل الغربي من النهر" الرابع:"- زار نيرون في حصنه قبل مجيئه.. كان غاضبا.. جدا.." الخامس:"- عندما يحمر ماء البحر تؤجل الرحلة، لابد للفلاح أن يصنع قاربا للنجاة فموسم القطاف قد اقترب" الأول:"- الفلاح باع.. الجميع باع..؟ الأول: باع بقرته الدلول.. اشترى محراثا بثمنها قبل موعد الإبحار.. فالمناجل يزداد ثمنها إبان موسم الصيد" الثاني:"- يبحث عن زوجتين اثنين قبل مجيء الطوفان" الثالث:"النيران تراجعت عن التهام المدينة فعمها الطوفان" الرابع:"هل كانت وحيدة ؟" الخامس:" كان قيس قد أحبها قبل أن تخونه" قهقهت الفتاة وأضافت: "سوف أزيد ك كأسا على حسابي لأنك عاشق" الأول:" عاشق..!؟ لو كان الحب رجلا لقتلته" الثاني:" عندما يبكي يكون ضعيفا وعندما يتجلد يكون مستحوذا وجبارا ترقص الحيتان عارية تحت قدميه فأنا للفلاح اصطياده حينئذ" الثالث:" نحن الصيادون نغتال السمك ولا نقتل الحب بل نشفق عليه" الأول:"آه ليتني أراه.. آه لو أمسكه بيدي هاتين لكان لي معه شأن آخر.. الثاني:- آخ ليت الحب والكره ليسا خيالا .. الثالث:- لكن الخوف يمكنه التحول إلى نقيض كالقرش من خوفه يهاجم بكل شجاعة... الخامس:- أو من شدة الجوع يقاتل بشراسة. الأول-.فأيهما الأرجح الخوف أم الجوع أم كلاهما خيالا ..؟ الرابع: أو ليست سوى أسماك تسبح في قعر المحيط؟" الثاني:" إنها تماثيل عملاقة لآلهة انقرضت في قعر بلا... قاع" الجميع : قاع..؟ تعود أصوات النورس من جديد؛ وكأنها تقترب أكثر فأكثر من المكان، والموج يرتطم بالصخور ويعم السكون. تفتح الفتاة النافدة فينطفئ ضوء القاعة وينير خلف النافذة..إنه حاجز حديدي يظهر خلفه رجل يجلس على السرير كأنه البوهالي في هيأته يعزف على الكمان، موجها نظره داخل القاعة.. تختفي المنضدة الطويلة والزبائن الخمسة وتتغير الإنارة في حين ينزل كرسي من الأعلى باتجاه دائرة مشتعلة ودقات مطرقة على السندان..في الواجهة صورة حية لمدينة قديمة تحترق.. وإطار مستدير لظل امرأة تصارع ألم المخاض.. عازف الكمان وسط الصورة المشتعلة يعزف لحنا تتناغم على إيقاعه ألسنة اللهب تلتهم المدينة القديمة، يشتد المخاض لتأتي الولادة عسيرة، يهدأ العزف بطيئا فتخبو النيران، يعم الصمت..وتنطفئ الأنوار، تسمع صرخة عالية يليها بكاء الرضيع منفردا يملأ القاعة..فيطغى صوت قوي من خارج القلعة على المكان: -"ألم أقل لك أن تحرر الأسود.. فالطرائد جائعة" يمتزج الزئير بفرقعات السياط ونباح الكلاب المستعرة.. تعود أصوات طيور النورس من جديد وتشتعل الأنوار.. ينزل من الأعلى رجل وامرأة يلبسان لباسا يلتصق بالجسد؛ يظهران وكأنهما يحلقان عاريان ملتحمان كجسد واحد باتجاه الإيوان؛ يتدليان وإيقاع الموسيقى الهادئة إلى أن يقفا على حافته ثم يفترقان، يرقصان باتجاه مختلف كغزالين جامحين ثم يلتقيان في الوسط ، يمسكان طرفي الكرسي ويتجاذبانه يمينا ويسارا في حركات رشيقة وإيقاع السامفونية الصاخبة بتعبير جسدي ينعم بالقوة والرشاقة، فجأة تتحول الموسيقى من إيقاع صاخب إلى نغمات حالمة وتتغير الإنارة يلتحمان على إيقاعها ويرتفعان إلى الأعلى كأنهما يحلقان في السماء، مقلدان رقصة طيور النورس التي تعود أصواتها من جديد تتعالى رويدا رويدا إلى أن يختفيا ويعم الصمت والسكون، ثم يعلو ارتطام الموج بقوة، ينهض الرجل الذي يرتدي المعطف والقلنسوة؛ يفتح كيسا يخرج منه طائرا يذبحه ويرميه باتجاه الكرسي المنفرد.. تتسع بقعة ضوء دائرية تسلط نورها على الطائر الذبيح في حين عازف الكمان تحتد وتيرة عزفه خلف الحاجز الحديدي، لم يتمالك البوهالي نفسه عندما رأى الطائر يتضرج في دمه تحت حوافر الكرسي، اتجه صوب الباب مهرولا وسط الشارع المظلم.. البرد القارس والمطر، يركض بكل قواه صارخا:".. مازالت دماء الطائر تختلط بماء المطر.. دماء ومطر.. نار دمار ومطر..أين المفر أين المفر أين المفر؟ ...مطر مطر مطر..إن كل الأصوات الصامتة هنا حجر.. الحقيقة المكتومة.. صخر وحجر.. أهازيج الهول ورائحة الموت والدمار مطر.. تنهال من السماء مطر..قبور تحترق هياكلها تحت المطر..مدينة الساحل أغرقها الخوف والحزن والمطر.. ذبحت الأبابيل في المهجر مطر.. لا علم ولا خبر.. مطر.. دموع تنهمر من العيون مطر.. لا تسألوني من أنا واسألوا كل البشر..مطر مطر مطر.."... جموع غفيرة من الدراويش يدخلون تباعا من باب المحكمة المنيف وتغلق الأبواب.. يدق الباب بقوة يحاول فتحه لكنه محكم الإغلاق يعيد الكرة من جديد.. يتناول حجرا يدق ويدق ويدق لكن الستار أبى أن يسدل الحجاب عن الخشبة.. خارت قواه فسقط على عتبة أبوابه تحت وابل المطر..
شكرا لك أيها الشاعر العصامي فنحن دائما نسعى لما هو أحسن ... فكما تعلم أن المسرح حمل أتعاب الإنسان منذ نشأته كونه مجهر للحقائق المسجونة فلا أخزانا الله بذنوبنا فوجودك هنا أسعدني كثيرا وشعرك أطربني كثيرا وقربني من ما بعد كثيرا