المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي
ذاكرة لا تنام
[frame="10 98"]
[align=justify]
يقرب الصورة ويبعدها.. في العينين دموع وأسئلة وشرود.. المذياع يطرق أذنيه بأخبار وأخبار.. كان الوالد دائم الضحك.. تشع ابتسامته وهو يحكي عن بيت وشارع وشباك يطل على البحر.. الأم تسمع وهي تصبّ الشاي الساخن اللذيذ.. أخته الكبرى تبري قلم الرصاص وترسم فراشة وأشياء غامضة، أخته الصغرى تحرك قدمين ناعمتين وترسل صرخات حلوة.. كان يشعر أنه من أسعد أطفال الدنيا وسط هذه العائلة الجميلة.
يقرب الصورة ويبعدها.. يتذكر اليوم الذي تصوروا فيه.. وقفوا باستعداد شبه عسكري أمام عدسة المصور العجوز.. آلة التصوير الشمسية تقف باعوجاج غريب.. المصور يدخل رأسه في الكيس الأسود ويخرجه.. يطلب منهم أن يبتسموا.. وحدها الأخت الصغيرة كانت لا تبالي وهي تصيح وتتراقص بحركات بهلوانية بين يدي الأم.. حاولوا أن يكتموا الضحكة.. أن يوقفوا سيلانها.. الوجوه زمت وضغطت بانفعال، ثم انفجروا بضحك متواصل ما استطاع المصور العجوز إيقافه، فكانت هذه الصورة التي لا يمكن أن تشبهها أية صورة أخرى.. جميلة.. دافئة.. مليئة بالحياة.. حتى المصور العجوز اعترف أنه لم يصور واحدة مثلها من قبل.
يقرب الصورة ولا يبعدها.. الأخبار تضغط القلب.. يومها كان الوالد يتحدث عن بيت وشارع وشباك يطل على البحر.. بعدها طلب منه أن يذهب لشراء دفاتر وأقلام وطبقي تجليد.. كان يوم الجمعة.. أسرع بعض الشيء لأن المحلات تغلق أبوابها بعد صلاة الظهر.. شوارع المخيم ساكنة إلى حد ما.. اقترب من المكتبة.. وقف صاحبها أمام الباب.. خطوة.. خطوتان.. ودارت الدنيا.. انقلب كل شيء.. الطائرات الإسرائيلية أخذت تقصف المخيم.. اندلق مثل عصفور جريح أمام المكتبة.. وجهه ارتطم بزاوية حجرية فانكسرت بعض الأسنان.. الطائرات ترسل قنابلها.. الخطوات الراكضة تختلط.. الصراخ يعلو.. زجاج واجهة المكتبة يخرج إلى الشارع متناثراً تغيب الدنيا.. تسقط الأشياء.. لا يعرف عندما يفتح عينيه أحداً من المحيطين.. يحاول أن يرفع جسده فلا يستطيع.. تربت يد حانية على كتفه.. يعرف بعد لأي أنه مصاب.. يغيب ويصحو.. تختلط الأيام.. وعندما يترك المشفى، يحمل جسده إلى هناك، إلى البيت الدافئ الذي أحب، فلا يجد غير صورة وركام.. لأسرة اختنقت.. وآثرت الرحيل.. الصورة التي اختبأت تحت حجرٍ استطابت الركون إلى لمسات أصابعه، وغامت قليلاً حين اغتسلت بدموع عينيه..
يقرب الصورة.. الأخبار تطرق الروح وتدهسها.. كان الوالد الواقف أمام عدسة المصور يحكي عن بيت وشارع وبيارة وشباك يطل على البحر.. المصور العجوز يدخل رأسه في الكيس الأسود.. الوالدة تسمع وتهز رأسها.. وتأخذ الأخت في بري القلم، ترسل دموعها وترسم بركة دم.. أما الصغيرة فكانت تجلس تحت إشارة استفهام.. الوالد في الصورة يمد يده ليمسح دمعة سقطت على الخد.. الأخبار تدهس العمر.. يحكي عن بيت وشارع.. تبري القلم وتنهض مثل مارد، تأخذ ورقة وترسم بندقية وبركة دم.. فجأة تمتلئ الصورة بالصراخ.. الطائرات تغير على المصور وتقصف كل ما في العالم من زهور وابتسامات وصور.. ككبر البنت الصغيرة ذات القماط وتركض.. يخرج الوالد من الصورة ويقف باستعداد معلناً أن هناك بيتاً وبيارة وشباكاً يطل على البحر.. الأم تحمل العلم المصبوغ بدمها وتصرخ في الشوارع.. البنت تبري القلم.. تبريه.. ترسم علماً وتبريه.. ترسم بندقية وتبريه.. ترسم شارعاً وتبريه.. ترسم صرخة وتبريه.. يحاول الولد بعد أن غادر الجميع الصورة وتركوه أن يفهم.. الأخبار تطن.. صرخات أهله تملأ الزمان والمكان.. الطائرات.. الصورة.. المذياع.. ينهض.. يصرخ.. يصرخ الأهل.. وتمتد الأيدي لتقبض على جمرة ذاكرة لا تنام.
[/align]
[/frame]
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: ذاكرة لا تنام
يالروعة هذه الصورة و يا لسحرها ..
بيت و شارع و شباك و وبيارة وشباك يطل على البحر .. أسماء تتكرر كلازمة لنشيد أوملحمة .. بلى ..إنها ملحمة الدم والذكريات المؤلمة .
يقرب الصورة ويبعدها .. يقرب الصورة و لا يبعدها .. حركتان تحملان دلالات ومغزى .
وكأني بالصورة قد اختزلت الماضي والحاضر .. وصارت وحيا وإلهاما لمن تبقى من هذه الأسرة الراحلة في لحظة قصف وحشية .. حتى تلك الأشياء البريئة انقلبت سهاما ترفض الاستسلام .. القلم.. المبراة.. الفرشاة ... لينبت علم .. وتنطلق بندقية و يمتد شارع .. و تعلو صرخة ترفض كل شيء .. ويتردد صداها في نفسه :" هل فهمت ؟..عليك أن تفهم ."
أقف تحية وإجلالا لروعة النص
لك كل التقدير
أديب وشاعر جزائري - رئيس الرابطة العالمية لشعراء نور الأدب وهيئة اللغة العربية -عضو الهيئة الإدارية ومشرف عام
رد: ذاكرة لا تنام
(يقرب الصورة ويبعدها.. في العينين دموع وأسئلة وشرود.. المذياع يطرق أذنيه بأخبار وأخبار.. كان الوالد دائم الضحك.. تشع ابتسامته وهو يحكي عن بيت وشارع وشباك يطل على البحر..صرخات أهله تملأ الزمان والمكان.. الطائرات.. الصورة.. المذياع.. ينهض.. يصرخ.. يصرخ الأهل.. وتمتد الأيدي لتقبض على جمرة عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] لا تنام...)
وما بين الدّفتين أروع!! يمكن لأسطر البداية والنهاية تصوير المشهد الدرامي لذاكرة حية لا تنام..إنه الإبداع في أبهى وشاح!! رحم الله طلعت..نشعر بعده بالفراغ فعلا..