[د. منذر أبوشعر]

يحلق الصقر عالياً ،واثقاً بجسم أجدل ،تامٍّ ،حسنِِ الطي ،كأنّه فُتل فتلاً شديداً .ولمَّا يأنس الصيدَ ،يرفع طرفه ينظر إليه بعينين نافذتين حادتين ، فتركض الطريدة مذعورة ،فيدوِّّّّم فوقها ويجول حولها،ثم ينقض عليها ، مُدلاًّ هاوياً من جوِّ السماء.
ولمَّا تحسُّ الفريسةُ بالهوان والبلاء والمكروه والموت والإشفاء على خطر هَلَكٍ ،وهي في مفازة واسعةٍ مستويةٍ بعيدةِ الأطراف ،تُدَوِّي فيها الرياحُ والأصداءُ والأصواتُ ،تعدو عدو المستميت وهو فوقها يصوِّت ويمدُّ صوته ويرجِّعه فرحاً،تيأس تماماً وتعطي بيدها ،وتقعي وتنقاد وتعنو له،ثم ينكسر لسانها وتعجزعن النطق. لكنها،وكما في الروايات ،تُفاجأ بحنوِّ الصقر وكرمِه ،وأنه لا يريد الصيد أبداً ،فمهمته ملاحظة الطرائد ومتابعتها وكشف مكامن سحر جمالها ! وأنه وهي يُتممان بعضهما:غايتهما الإبهار وسامي المتعة وآفاق الجمال والفائدة وإثارة روعة الحلم والخيال ،وصياغة كلِّ غد بشكلٍ جديد !
فتشدُّ الطريدة على يدي قوة جناحيه ،وهي تقول له: أخفتني حقًّا ،ولم أدر أننا صنوان يتلازمان أبد الدهر !
** ** **
نعم ،هذا هو أخي الأستاذ عبد الحافظ بخيت متولي ،وجه مصر الصادق ، وحكايته مع الأشكال الأدبية التي يتناولها بمنتهى الحذق والدراية !
وكم يسرني أن تكون لي وقفة مع فضاءات اسمه ،فهو(حافظٌ) ضابطٌ ،(يتولى) كلَّ باب خير.
** ** **
والمُحافظة: المواظبة على الأمر .يقال :حافَظَ على الأمر ،وثابَرعليه :إذا داوم عليه ، قال تعالى:( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) ، يعني:واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن،وتعاهدوهن والزَمُوهن ،وعلى الصلاة الوسطى منهن .
واستحفظته الشيءَ :جعلته عنده يَحْفَظه ويأمنه،فهو حافظ وحفيظ . قال تعالى:( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ،أي حافظون من أن يزاد فيه باطلٌ ما ليس منه ،أو ينقص ما هو من أحكامه وحدوده وفرائضه .
وقال تعالى :( والحافظون لحدود الله ) يعني: المؤدُّون فرائض الله ، المنتهون إلى أمره ونهيه ،الذين لا يضيعون شيئاً ألزمهم العملَ به ،ولا يركبون شيئاً نهاهم عن ارتكابه . وقال تعالى: ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) يعني :حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهم،في فروجهن وأموالهم ،والواجب عليهن من حقِّ الله في ذلك وغيره .
ويقال :حَفِظه ،إذا حَرَسه .قال تعالى :( بما استحفظوا من كتاب الله )،أي: اسْتُودِعوه وائتُمنوا عليه . وقال :( أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ) أي حافظوه من أن يناله شيء يكرهه أو يؤذيه .
وقال تعالى:(له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله )، المعقبات: الحرس والجند.والآية في قومٍ أهل معصية وأهل ريبة، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم، ومَنْعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله . فأخبر الله تعالى أنه إذا أراد بهم سوءاً لم ينفعهم حَرَسهم ،ولا يدفع عنهم حِفْظُهم .
ورجلٌ حافظ من قوم حُفَّاظ وحَفَظة :هم الذين رُزقوا حِفْظ ما سمعوا ،وقلَّما ينسون شيئاً يَعونه .ومنه قيل للذي يحفظ القرآن الكريم ،أو يحفظ عدداً عظيماً من الحديث الشريف :حافظ .
ورجل حافظُ العَيْن :أي لايغلبه النوم ،لأن العين تحفظ صاحبها إذا لم يغلبها النوم .
والحافظ :الطريق البَيِّن المستقيم الذي لا ينقطع ، وأمَّا الطريق الذي يَبين مرة ثم ينقطع أثره فليس بحافظ .
والحفيظ :من أسماء الله الحسنى ،الذي لايَعْزُب عنه شيء مثقال ذرَّة لا في السماوات ولافي الأرض ،حَفِظ على عباده ما يعملون من خيرٍ أو شرٍّ ، وحَِفظ السماوات والأرضَ بقدرته .
والحفيظ :الأمين ،الموكَّل بالشيء ،الذي لا يخفى عليه شيء من الأعمال . وتكون في معنى ( فعيل ) .قال تعالى :( وما أنا عليكم بحفيظ ) ،وقال: ( وما جعلناك عليهم حفيظاً ) ، يعني :حافظاً لما يعملون محاسباً .
والحَفَظة :الملائكة ،يتعاقبون العباد ليلاً ونهاراً ،يحفظون أعمالهم ويحصونها ،لا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يًضَيِّعون .قال تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ).
** ** **
والبُخْت :الإبل الخُراسانية ،توصف بطول الأعناق ،وهي من مراكب الأمراء.قال الدَّميري(محمد بن موسى ،ت:808 هجرية ) :الإبل من الحيوانات العجيبة ،وإنْ كان عجبُها سَقطَ من أعين الناس لكثرة رؤيتهم لها ، وهو أنه حيوانٌ عظيمُ الجسم ،سريعُ الانقياد ،ينهض بالحِمْل الثقيل ،ويبرك به ،وتأخذ زِمامَه فأرةٌ فتذهب به إلى حيث شاءت ،ويُتخذ على ظَهْره بيت ،يقعد الإنسان فيه مع مأكوله ومشروبه وملبوسه وطُرُوفه ووسائدِه كأنه في بيته ،ويُتَّخَذ للبيت سقفٌ ،وهو يمشي بكل هذا .ولهذا قال تعالى :( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت ) ،وقد جعلها الله تعالى طِوالَ الأعناق لتثور بالأثقال .. وقال تعالى: ( وعليها وعلى الفلك تُحملون ) فقرنها بالفُلْك التي هي السَّفائن ، لأنها سُفُن البرِّ ( حياة الحيوان الكبرى 1 / 74 ).
ومن كلام علي بن أبي طالب ( ولي الخلافة سنة 35 هجرية ،واغتيل سنة 40 هجرية ): إنّ الخُطَب من شَقاشِق الشيطان .
شبَّه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر ،ولسانَه بشِقشقته ،وهي الجلدة الحمراء التي يُخرجها من جوفه ،وينفخ فيها فتظهر من فمه ،إذا هاج وهدر.
والجمل من طبعه الصبر والصَّوْلة ،أي السَّطوة والإقدام والجرأة .ويُكنى: أبو أيوب .
ومن أمثالهم: أشبعتُهم سَباًّ وراحوا بالإبل .يُضرب لمن لم يكن عنده إلاَّ الكلام .
ويا إبلُ عودي إلى مَبارِكك .يُضرب لمن يفرُّ من الشيء الذي لا بُدَّ منه .
والعرب إذا شبَّهت الرجل بالإبل ،فهي تعني وصفه بالاطمئنان في المشي ، وإشراف هامته ،وأنه من بيت سؤدد وركانة ورزانة ،كأنه لا يحفل بشيء من وقاره وعتقه .وكان هاشم بن الحارث وأولاده- وهم من ولد الزبير بن العوَّام - يُسَمَّون :الأجمال الشُّرُف ،لعظم أجسامهم ( جمهرة نسب قريش 1 / 345 ط ، حمد الجاسر ).
وآل بُخَيت :وهو تصغير بُخْت ،نسبة إلى بُخَيت بن عبد الرحمن بن الأسود القرشي ،من ولد عبد العزى،آل الزبير بن العوَّام حواري الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمته .وأمه :سودة بنت الزبير بن العوام .سكنوا مدينة ينبع (وهي اليوم ناحية واسعة في الحجاز، غرب المدينة المنورة،تبعد عنها حوالي 150 كم شمالا )وخرجوا منها إلى صعيد مصر .
** ** **
والتصغير في بُخَيت ،ضربٌ من ضروب التحبب ،كقول الأب لابنه : يا بُنيَّ، ولابنته: يا بُنيَّتي ،تعبيراً عن حبٍّ لهما أو تحبب إليهما ،مثل تسمية الشعراء الغزليين لمحبوباتهم ببثينة ،وسليمى ،ولبينى ..تصغير بثنة ، وسلمى ،ولبنى ،وما إلى ذلك .
** ** **
والرحلة مع فضاءات اسم الأستاذ عبد الحافظ لا تنتهي ،وكلها متعة وفائدة.

[عبد الحافظ بخيت متولى]

الرائع الأجمل الدكتور منذر أبو شعر
لك على َّ اعتذار وجب أن أؤديه لك على الملأ , فقد كنت مقصرا فى سرعة الرد على هذه المقالة التى وضعتنى فيها فى عنان السماء بوعيك وغزير علمك وفيض مشاعرك وبوح حرفك والعربية التى هى من سرِّك باتت نشوى طربا على يديك فاقبل عذرى واصفح بسعة صدرك
ما أسعدنى - سيدى - إذ جعلت من اسمى دالة الخير والفخر وسبرت عمقى الفكرى بلوحة جمالية اكاد اقبض عليها لأصنع منها تيجانا أزهو بها وما بينى وبين نهر من الحب له موج أنا أصغر قطرة فيه وأنت عنفوان جماله ورونق البهاء الذى يحار المحار بما يحمل من صدف كيف يتوارى من جمال بهائك سيدى الرائع
وما أسعدنى إذ جعلتنى نسرا وكنت الأسد الذى يرفض أن يقبل الطعام هدايا وكنت الأسد الذى يترك للآخرين البقايا أنت بقلبى وعينى فحدِّق - سيدى - تنظرنى فى كل المرايا
وما أسعدنى بهذا الشرف المقدس الذى طوقتنى به وكأنك الكوكب الذى أستمد من نوره كل العطايا ولا أعرف كيف أتوارى خجلا من تقصيرى فى الرد على هذا النيشان العظيم الذى رسمت فيه حدودى بلا حدود للوعى والجمال المحبة وأحنى الجبهة وأنا كلى فخر لعظمة حرفك ونقاء روحك وجلال وعيك وجمال خطابك وهنيئا للعربية بك وهنايئا لنا بك وبالعربية متى تخرج من بين يديك
كل محبتى لك وكل تقديرى لك أستاذى الرائع الجميل

[د. منذر أبوشعر]

أخي الأستاذ عبد الحافظ :
مراراً دعوتُ إلى تلازم النقد والأدب ،وأنهما يتممان بعضهما ويتواكبان في المسير، وعجبتُ من تأذي البعض من النقد واتهامه بالجور والإجحاف ! لكنك استطعت ،بأناقة ،جمع الحسنين :رقيُّ الحوار ،ورقيُّ صياغة العبارة باحترافية مثلى .
وكل الشكر لك ،ونبقى مع طيب المسير.