الشيخ حسن اللبدي--سبعة مشاهد من ذاكرة مفقودة
حوليات القدس | العدد السادس | شتاء - ربيع 2008
الشيخ حسن اللبدي
سبعة مشاهد من ذاكرة مفقودة
نظمي الجعبة*
شباط 2007
قد يعتقد البعض، وبحق، بأن القصة المأساة هذه ذو المشاهد السبعة هي من نسيج خيال الكاتب، لكن الكاتب الراوي لم يتدخل في شئ في تركيب أحداثها الأصلية، والراوي هو جزء من
خواتمها فقط. فكل الأحداث والأسماء والأماكن والتواريخ الواردة هنا حقيقية، وقد تكون هي الشئ الحقيقي الوحيد في هذه المأساة. أما قدرة العقل على التصديق، فليس من واجبي نقدها.
على أي حال قد نستطيع في المستقبل استكمال كتابة باقي فصول هذه الملحمة، ان استطاع أحد القراء إضافة أية معلومة قد تساعدني في المستقبل على استكمال الرواية، وإلا ستبقى هذه الشهادة غير المكتملة واحدة من الروايات الكثيرة، وفصل من فصول المأساة الفلسطينية التي لم تكتمل بعد.
المشهد الأول
الشيخ حسن محمد اللبدي، كغيره من أبناء قريته، كفر اللبد، الواقعة إلى الجنوب من طولكرم وعلى بعد خطوات من بلدة عنبتا، غادر قريته ليعمل إماما لجامع أبو ديس )على الحدود
الشرقية لمدينة القدس( على مقربة من المسجد الأقصى. اشتهرت كفر اللبد منذ نهاية القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى زيتونها ولوزها، بعدد المتعلمين الذين غادروا القرية بحثا عن العمل، تماما مثل غيرها من قرى فلسطين في حينه، حيث أصبحت حواضر فلسطين تستقطب الكفاءات، وشكلت
منطقة القدس، بالإضافة إلى يافا وحيفا، إحدى نقاط الجذب الأساسية لأهل كفر اللبد، الذين
اشتغلوا أما في التعليم او في المؤسسات الدينية.
ولا نعرف على وجه اليقين متى وصل الشيخ حسن إلى القدس، لكن أغلب الظن وصلها مع زوجته وطفله الرضيع الوحيد )غازي( حوالي العام 1936 ، والتحق به لاحقا شقيقه عبد الله الذي
عمل محاسبا في القدس، والذي تزوج من سيدة من عائلة خضر المقدسية، وتزوجت أنا لاحقا ثمرة من ثمرات هذا الزواج.
* المدير المشارك، رواق، مركز المعمار الشعبي، ومحاضر في التاريخ الإسلامي - جامعة بير زيت.
48 [ الشيخ حسن اللبدي [
كان الشيخ يقضي معظم أوقات فراغه في المسجد الأقصى مدرسا او قارئا للقرآن او مشاركا في حلقات الدرس والنقاش. واشتدت النقاشات بلا شك في رحاب الحرم
القدسي الشريف خلال هذه الفترة، حيث اندلعت ثورة العام 1936 ، ويمكن الاعتقاد بأن الشيخ حسن كان جزء لا يتجزأ منها،حيث أن أصوله القروية وعلاقاته، لعبت
دورا هاما في انخراطه بنشاط سياسي لانعرف عنه الكثير، سوى بعض التكهنات.
وعلى أغلب الظن أيضا انه في بداية العام 1939 ، حاصرت شرطة الانتداب البريطاني المسجد الأقصى بعد أن طاردت ثوارا التجأوا داخل المسجد، فوقف أهل القدس كعادتهم حتى اليوم مدافعين عن حرمة المسجد ومانعين الشرطة البريطانية من اقتحامه، وكان من ضمن المدافعين الشيخ حسن اللبدي، والذي وقف في فتحة بوابة المسجدمانعا الشرطة والجيش الانتدابي من الدخول. وحين أصر أحد ضباط الجيش على الدخول، استل الشيخ حسن خنجره، الذي لم يكن يفارقه، وطعن في الضابط مقتلا.
اعتقل الشيخ حسن، وحكم عليه بالإعدام كما جرت العادة في حينه، لكن الحكم قد خفف إلى السجن المؤبد، بسبب كونه رجل دين وبسبب أيضا حركة الاحتجاج التي اندلعت على خلفية
هذا الحكم. أرسل الشيخ سجينا إلى سجن عكا، حيث انضم إلى مئات السجناء الذين عجت بهم .1939- أقبية السجن خلال ثورة 1936
استمر والد زوجتي، شقيقه الوحيد، وزوجة الشيخ )ام غازي( التي سرعان ما فارقت الحياة، وولده الطفل غازي بزيارة الشيخ حسن، كلما سنحت الظروف، سواء المادية ام السياسية، بسفرهم
من القدس إلى عكا. وحتى الآن لا شئ غريب، فقد كان هذا حال كثير من العائلات الفلسطينية، التي كانت تتنقل بين المعتقلات الكثيرة التي انتشرت في أنحاء مختلفة من فلسطين الانتدابية.
تربى غازي، ابن الشيخ بعد وفاة والدته، في كنف عمه عبد الله )والد زوجتي(، ولم يصلني الكثير من المعلومات حول هذه الفترة، حيث أن والد زوجتي )عبد الله( قد فارق الحياة في ريعان
شبابه عام 1967 ، ولم تنتقل ذكرياته حول شقيقه الشيخ حسن إلى أبناءه بسبب صغر سنهم، وبسبب انقطاع التواصل مع الشيخ حسن كما سيأتي ذكره.
1948 ، وانقطعت عائلة اللبدي عن /5/ سقطت عكا بيد القوات الصهيونية بتاريخ 18 زيارة الشيخ حسن بسبب سكناهم في المنطقة التي أصبحت تعرف بالضفة الغربية، ولم تستطع
العائلة عبر الصليب الأحمر او عبر أي واسطة أخرى معرفة مصير الشيخ وما حل به، واعتبرته في عداد المفقودين على أحسن الأحوال وفي عداد الأموات على أسوئها. كبر ابن الشيخ )غازي( وانتقل للعمل في عمان، ومات أخو الشيخ أثناء حرب حزيران عام 1967 ، تاركا حفنة من الأطفال أكبرهم لم تتجاوز الثامنة عشر من عمرها، واشتغلت الذاكرة بمصاعب الحياة والنضال ضد الاحتلالالإسرائيلي بعد العام 1967 ، ولم يعد في الذهن مساحة تستوعب الشيخ حسن او أي شئ من ذكراه. ولم يكن غازي يأتي من عمان إلى القدس إلا في المناسبات الهامة، مثل حفل زواجي، ولم أكن قط قد سمعت قصة والده واختفاءه، ولم يأت أحد على ذكرها أمامي، لا أعرف السبب، قد تكون نسيت تماما، قد تكون بسبب أن لا أحد سوى والدة زوجتي يعرف الشيخ حسن، لا أعرف السبب ولم أعرفه. كل شئ عادي ولا يوحي بجديد. وعجلة الحياة تطحننا جميعا، وهم العيش تحت الاحتلال لا يترك فراغا لهموم أخرى، فان وجدت همشت إلى أقصى درجة. فعائلة اللبدي،
وبالأحرى الشباب والفتيات من أبناء عبد الله، ارتبطت بالقضية الفلسطينية والنضال الوطني بسن مبكرة ومنذ أوائل السبعينات من القرن العشرين، وأصبحت أجندة العائلة لا تتسع إلى شئ آخر
مهما عظم شأنه.
المشهد الثاني
في ليلة ماطرة من ليالي كانون الثاني من شتاء عام 1982 ، كنت وزوجتي هيفاء في زيارة عادية ودورية إلى عائلة زوجتي في أبو ديس. التفت العائلة كبيرة العدد بأنسبائها وأولادهم حول
مدفأة الكاز الشهيرة بعلاء الدين، كعادتنا كلما سنحت لنا الفرصة، وكانت جلستنا التي تستمر إلى الصباح لا تخلوا من الهم الوطني وأين أصبحنا ومن منا في المعتقل ومن منا مرشح للاعتقال.
لم يكن الاعتقال من حظ عائلة اللبدي لوحدها، فقد جرت العادة في السبعينات من القرن العشرين ان يتم الزواج من داخل التنظيم السياسي )زواج داخلي(، هذا الأمر عزز العلاقات السياسية من
جهة، لكنه زاد من المعاناة العائلية من جهة أخرى، حيث أنه لم يكن من النادر ان يدخل المعتقل عددا كبيرا من العائلة وأنسبائها في آن واحد، ولم يكن هذا الأمر نادر الحدوث في حالتنا. في تلك
دخل إلى البيت شاب من أبو ديس اعتاد زيارة العائلة بين الفينة والأخرى، ولم » العادية جدا « الليلة تكن لهذه الزيارة، كما هو الحال في كل زيارته، أية مناسبة، فبيت عائلة زوجتي لم يفرغ من الزوارأبدا، فقد انخرطت كل العائلة بالعمل السياسي، وكان من المعتاد ان يرتاد البيت الكثير من الزوار،حتى لمجرد الدردشات المعتادة، كما اشتهرت العائلة بالليبرالية الاجتماعية مما يعني إمكانية الزيارة بدون موعد مسبق، وقد تتم بلا مبرر، اللهم التواصل الاجتماعي والاطمئنان على الحال وبامتياز، وكلما » حكواتي « او لمعرفة آخر التطورات السياسية. أبو محمود ليس بزائر عادي فهو جمع في جعبته حكايات جديدة، وهي لا تعد ولا تحصى، وكلما عرف بوجودي في أبو ديس،كان لا يتردد الولوج إلى البيت بدون ميعاد ليقص حكاياته المليئة بالطرف والأكاذيب والمبالغات،حتى يبكينا من شدة الضحك، وكنت دائما أنتظر بشغف زياراته عند وصولي إلى أبو ديس. وكان يحلو له دخول مبارزات الكذب التي يتقنها ولا أحد من الكذابين الطريفين في أبو ديس يستطيعمجاراته بها. والحقيقة تقال أنني كنت أنتظر سماعه على أحر من الشوق. في تلك الليلة، وبعد أنأشبعنا قهقهة، هم بالمغادرة، لأن عليه الذهاب باكرا إلى عمله، وقبل ان يقفل الباب خلفه، التفت
متسائلا:
أتعرفون شيخا طاعنا بالسن في مستشفى الأمراض العقلية الواقع في دير ياسين )أصبحت تسمىبعد العام 1948 ب كريات شاؤول( يسمى الشيخ اللبدي. لم ألتفت إلى السؤال ولم أعتقد بأن أحد
قد التفت إلى ذلك.قفزت حماتي من مقعدها ملقية السؤال على أبي محمود:كم يبلغ من العمر؟
لا أعرف فقد تجاوز بالتأكيد سن الثمانين، لكن صحته ما شاء الله، أجاب ابو محمود، وأضاف:
وهو دائم الصلاة والتعبد، أبيض البشرة، خفيف الظل، حجمه صغير لكن لطيف، مثل الملائكة
تماما.جحظت حماتي، وتمتمت بكلمات لم أفهمها في بادئ الأمر، فاستفسرت عما قالته، فتمتمتمرة أخرى، وهي امرأة قليلة الكلام قضت شبابها في تربية أبنائها بعد ان تركها زوجها أرملة في
ريعان شبابها، ولم تعبر عن مواقفها إلا نادرا، لكننا كنا نفهم ما تريد قوله عبر نفثات سجائرها التي لا تتوقف ليل نهار. ولم أكد أرفع حاجبي متسائلا عن سر هذا الاهتمام غير المعتاد من حماتي،
حتى قالت:سلفي )أي شقيق زوجي(، يمكن ان يكون سلفي. وكغيري من الحضور لم نفهم شيئا. بعد التقاط الأنفاس وطرح عشرات الأسئلة، روت حماتي
قصة الشيخ حسن حتى العام 1948 . وبالتأكيد لم يصدق أحدا أن هناك علاقة بين ذلك اللبدي القابع في مستشفى الأمراض العقلية في دير ياسين وبين الشيخ حسن عم زوجتي، والذي لم تكن
زوجتي هيفاء تعرف عنه شيئا سوى أنه ابو ابن عمها غازي، الذي أصبح بمكانة والدها بعد العام
1967 ، أي بعد رحيل والدها، وهو الذي زف لي زوجتي يوم زفافنا. ولم تذكر زوجتي او حماتي او أي من الأبناء والبنات هذا الشيخ الجديد الذي سيقتحم حياتي وحياتنا جميعا. لقد اكتشفت
أنهم على دراية بعمهم المناضل الذي قبع في السجن ومات، ولا شئ غير ذلك.
المشهد الثالث
وحتى نكسر الشك باليقين، اصطحبت زوجتي ووالدتها في اليوم التالي إلى دير ياسين، فأنا أتقن العبرية ويمكنني تدبر أمري مع الإدارة الإسرائيلية.
يقع مستشفى الأمراض العقلية في قرية دير ياسين على السفح الشمالي الغربي لتلة دير ياسين المطلة على بقايا قرية لفتا المهجرة. ومبنى المستشفى هو من المباني العربية القليلة التي
بقيت شاهدة على دير ياسين وقصة مذبحتها الشهيرة، تم تحوير المبنى، بإضافات جديدة وفتحات إضافية لا تتلاءم وشكله التاريخي بحيث يصعب تشخيص صورته الأصيلة، إلى مستشفى للأمراض
العقلية، وكأن دير ياسين لم ينقصها سوى هذا!!. والمبنى المتطاول الشكل مبني من الحجر المقدسي الصلب مازال محافظا على لون حجارته البيضاء الزاهية، فقد أبى ان يفرض الدهر عليه
شروطه.قرعت جرس الباب، فخرج علينا شاب يهودي في مقتبل العمر، سألنا بالعبرية عن هدفالزيارة. فطلبت مقابلة الشيخ اللبدي الذي يقبع في المستشفى، فسأل عن العلاقة، فكان من
السهل إثباتها باستخدام هوية حماتي. دخلنا إلى حجرة مربعة، سقفها عقد عربي متقاطع، ناصعة البياض، نظيفة، يحيط بجدرانها مقاعد خشبية بسيطة، لا تتلاءم وارتفاع سقفها الشاهق، ولا
أبهة المبنى في أيام عزه. ما هي إلا دقائق حتى دخلت علينا سيدة في نهاية العقد الخامس من العمر، وسألت ان كنا نتقن العبرية، وبعد الإجابة بنعم، قدمت نفسها كمرشدة اجتماعية تعمل في
المستشفى، ثم سئلت، ان كنا نزور الشيخ اللبدي لأول مرة، فأجبت بنعم، ثم أردفت تتساءل لماذا لم نزره قبل ذلك. لم يكن باستطاعتي رواية القصة التي سمعت جزء من فصولها في الليلة السابقة، فقد خفت أن تحولني إلى أضحوكة، وتدخلني مستشفى الأمراض العقلية، فلم يعد أي شئ ينم عن أمر عادي. تحججت أمامها بأننا نريد أولا التأكد من صحة التشخيص، وبعدها سنروي لها الحكايةمن البداية حتى لو غربت وطالت روايتها، وحتى لو حولتني إلى أضحوكة. فطلبت منها زيارته أولا ان لم يكن لديها مانع، فقالت:
لا شئ يضر الشيخ، فهو بالكاد يدرك ما يدور حوله، وقد يساعده مشاهدة وجوه جديدة.
المشهد الرابع
مضت دقائق قليلة على وصولنا، لكنها كانت الدهر كله او لنقل ردحا طويلا منه، ماذا لو كان فعلا بطلنا هو الذي يقبع في الغرفة المجاورة؟ ماذا يمكن ان يقول لنا بعد هذا الغياب؟ هل هو فعلا
مجنون حتى يقبع هنا وكيف يا ترى سيكون هيكله بعد كل هذه السنين وهل ستستطيع حماتي تشخيصه؟ عشرات الأسئلة دارت في ذهني، لكنها مشوشة ولا أستطيع أنا نفسي فهم محاورتي
لذاتي، فكيف سأستطيع ان أدير نقاشا مع من خلف جدران هذه الغرفة؟
ما هي إلا بضع دقائق حتى دخل الغرفة رجل صغير الحجم نحيف يلبس جلابية بيضاء، لا يمكن تقدير عمره، فقد تخطى الأعمار التي أعرفها، تتدلى من ذقنه لحية ناصعة البياض واصلة
بين رأسه وصرته، لف رأسه بقطعة قماش بيضاء مشكلا بذلك عمة على طريقة أئمة المساجد،احدودب ظهره بعض الشئ، لكن بشكل أقل بكثير ممن هم في سنه، خطواته واثقة تدل على ثقة
وعزة وشدة بنيان، بسمة طبيعية غير مصطنعة بريئة مرسومة على محياه وكأنها لم تفارقه منذ قرون عديدة، عيناه صغيرتان لم أدرك لونهما لشدة غورهما في واد سحيق، على الرغم من عدم وجود تجاعيد كثيرة في وجهه. لم أتمالك نفسي، فقد لفت بي الأرض حتى أوشكت على السقوط، لم أدرك للوهلة الأولى ما أرى، ملاك، تماما مثل تصاوير الكنائس لجبريل وغيره من الملائكة، بالفعلنسخه ليوناردو دافنشي ووضعه في قباب الكنائس التي زخرف. ولم أدرك أين أنا ولا لماذا أنا هنا.
سرعان ما تمالكت نفسي ورممتها او لنقل رممت ما يمكن ترميمه في مثل هذه المواقف، أما زوجتي فقد فقدت القدرة على الكلام واحمر وجهها وانكتم نفسها، أما حماتي فقد تهاوت على
الكرسي، وخيل لي أنها استشاطت غضبا، وهي التي لا تغضب او لا يبدو عليها الغضب أبدا. انتقل نظري بينها وبين ذلك الواقف بين أيدينا ولا يدري لماذا هو هنا ولماذا نحن هنا وما الذي جمعنا
ببعض بموعد او بدون. وبالرغم من أنه لم ينبس ببنت شفة، إلا ان علامات الاستغراب قد بانت علىمحياه، لكن دون ان تفارقه البسمة البريئة التي كادت ان تقتلني. وأخيرا نطقت حماتي:
سلفي، هذا الشيخ حسن، هذا ابو غازي.
هل هذا صحيح ؟ هل أنت مدركة ومتأكدة مما تقولين؟ سألتها بعصبية بالغة لا تخلو من
الخوف والتردد، ولعلني كنت أتمنى ألا تتعرف عليه.
واردفت وقد اغرورقت عينيها: بالتأكيد، هو، هو، ولا يمكن ان يكون إلا هو.
أطبقت كفي على كفه اليمنى وقد اقشعر بدني حين لامستها وتمنيت من كل قلبي ان لا يكون هو، هروبا من قصة لن تفارقني باقي حياتي. أجلسته على الكرسي بيني وبين حماتي بعد
أن ظل واقفا يراقب مشهدا في غاية الغرابة، ولم يفتح فمه، فقد ظل يحملق بنا، وازدادت بسمته
اتساعا. بادرته السلام، فرد بلسان عربي فصيح على عادة الأزهريين ورجال الدين، وبمخارج أحرف
واضحة ومكتملة، وأكملت قائلا:
هذه زوجة أخوك عبد الله وأنا صهرهم، متزوج من ابنة أخوك، هذه هيفاء، أنت لا تذكرها فقد كنت في السجن حين ولدت.
دقق الشيخ النظر فينا متنقلا بيننا واحد تلو الآخر، وبتركيز واضح على حماتي، وازدادت بسمته إلى حد بدا أنه يزدريني او لنقل يزدري ما أدعي.
مرة )زوجة( عبد الله صبية صغيرة وهذه ختيارة، مقهقها وهازا بدنه النحيف الشفاف الذي
لا يكاد يكون إلا هيكلا عظميا مغطى بجلابية بيضاء.أدركت الأمر بسرعة، فقد أفصح عن اسم أخيه، كما أن حماتي قد تعرفت عليه، لا بد اذا أنه الشيخ المنسي، الذي نسيته النكبة من ضمن ما نسيت على شاطئ المتوسط بين أسوار عكا
الجزار. لا أعلم ماذا حدث لذاكرته، أين توقفت، وفي أي مرحلة؟ لا بد من الكشف عن الأمر، فقد زاد الشيخ فضولي. لم تعد القضية قرابة تجمعنا، فالأمر أعظم من كل القرابات، فقد أيقظ
في الشيخ حسن فضول المؤرخ الذي تقع يديه على وثيقة نادرة لم يشاهدها أحد من قبل، لكنه أيقظ في أيضا المآسي الإنسانية التي خلفتها نكبة أهل فلسطين. ولطالما استمعت في صباي إلى
قصص العائلات المنكوبة التي فقدت أبنائها وبناتها في مكان ما وبتاريخ ما او فقدتها في اللاتاريخ واللامكان. ما أكثر أهل فلسطين الذين فقدوا أقرباء لهم دون أن يعلموا متى وأين. وكان من النادر ان تنتهي قصصهم نهايات سعيدة، على طريقة الأفلام، كما هو الحال بهذا الفيلم الذي أحياه. أما المؤرخ الذي هو في داخلي فقد نظر بعقله، كلما استطاع استعادته، على ان الأمر لا يتعدى
مخطوطة تعج بمعارف لم يسبقني إليها أحد، فهل سأنجح في الكشف عن المكنون؟
وبعد نقاش مع الأطباء والإدارة حول أية معلومات توضح تاريخ الشيخ حسن، استسلمت للأمر، لا وثائق ولا سجلات في المستشفى تثبت شخصيته.
اذا هل سقط عليكم الشيخ حسن من السماء؟ لا، حول إلينا من مستشفى للأمراض العقلية في تل أبيب.
ألم يحول معه ملف؟
كلا، فقط حوالة استلام.
هل لي بعنوان المستشفى في تل أبيب فقد أجد عندهم ملفه؟
طبعا.
دكتور، هل أستطيع أخذه معي إلى البيت؟
ولم يتردد الطبيب المشرف على المستشفى:
بكل تأكيد وقع واستلم.
ان استلام طرد من البريد في إسرائيل يحتاج إلى .» وقع واستلم « لم أستطع تصديق ما أسمع
جهد كبير وإثباتات ووثائق كثيرة، ما الذي يجري، وهل فعلا ما سأستلمه هو عم زوجي الذي لا
مازالت تتردد في أذني منذ » وقع واستلم « ؟ تعرفه ولا تعرف عن قصته شيئا، وبماذا أورط نفسي
.» وقع واستلم « ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا
وأدار مدير المستشفى ظهره وذهب. وأنا وقعت فعلا واستلمت، ثم غادرت ومن معي بمعية الشيخ حسن. إحساس لا يوصف، وفخر ليس له حدود، ان صحت القصة، فانا أقوم بتحرير أقدم
سجين فلسطيني!!! رأسي يعج بالأسئلة...، صداع...، مشاعر متضاربة... هل ما يدور حولي مسرحية من باب الخيال الهلوودي؟ يا لنفسي التي تتعبني، ولطالما وعدت نفسي بعدم توريطها
بقصص جديدة، إلا أنها كانت تفشل دائما أمام أول امتحان، او حتى بدون امتحان.
المشهد الخامس
في السيارة، ما بين دير ياسين وأبو ديس، تفادى الشيخ حسن النظر إلينا، ولو أنه كان يختلسه بين الفينة والأخرى، محدقا عبر نافذة السيارة بكل ما نمر به من بنايات وسيارات وناس،
ولكن دون تعليق، وكلما توغلنا في القدس ازداد تحديقا، ولم يتجاوز حديثنا كلمات المجاملة الغنية في اللغة العربية. ويبدو أننا جميعا، ما عدا الشيخ حسن، كنا تحت صدمة الحدث او غير
مصدقين لما حدث. وصلنا إلى أبو ديس قبل الظهر بقليل. لم يكن أحد باستقبالنا، فلا زغاريد ولا
ذبائح ولا مهنئين بتحرير السجين على عادة أهل فلسطين. لا أحد يدري بغنيمتنا، وحتى نحن لا
ندري، حتى اللحظة، بما عدنا به. هذه أبو ديس يا شيخ، ألم تكن شيخها وإمامها؟
نظر الي مقربا عينيه الصغيرتين بعضهما إلى بعض ومجمعا تجاعيد جبهته حتى ازدادت الجبهة صغرا على صغرها:
امبلى )بمعنى بلى(، كنت إمام أبو ديس، لكن الذي أرى ليس ابو ديس، هذه اليابان، ابو ديس خربة صغيرة، وهذه بلد، بسم الله وما شاء الله، كبيرة.
لنقل بأن أبو ديس التي كانت حتى العقد الرابع من القرن العشرين قرية صغيرة وأصبح بلدة كبيرة
واسعة الامتداد، فلا غرابة اذا لم يشخصها الشيخ او يتعرف عليها بعد طول الغياب، فلا بأس، لا بد أنني سأنجح في المحاولات القادمة.
شوف يا شيخ، هذه فدوى، وهذه ماجدة، وهذه عائشة، وهذا محمد، وهذه هيفاء، وهذا ماجد،
وهذه هناء، هؤلاء أبناء عبد الله.
سرح الشيخ قليلا وأمعن الفكر، لا أدري أين ذهبت به الذاكرة، هل حاول حثها على الاستذكار، ولكن يستذكر ماذا؟ أي ذاكرة تلك التي يطلب منها أن تستجيب بعد غياب دام أربعة
وأربعين عاما؟ فقط ابن أخت زوجتي، الذي كان في ربيعه الأول، استحوذ على انتباه الشيخ، الذي تناوله ووضعه في حجره، وقد استمر الطفل باللعب بلحيته الطويلة البيضاء. ألم يكن غازي، ابن
الشيخ حسن، في سنه عندما اعتقل الشيخ؟ الشيخ يستهتر بنا جميعا ويتجاهل أسئلتنا. انه يبحث
في وجوهنا وفي حيطان المنزل عن شئ، لكن عن أي شئ؟ لا أدري ويبدو أنني لن أدري. قلت في نفسي، لا بد من معرفة الحقيقة. اتصلت بسلطة السجون الإسرائيلية، بل ذهبت
إلى هناك لمعرفة ماذا حدث للشيخ، لا شئ في السجلات، ثم ذهبت إلى وزارة الصحة الإسرائيلية، لا شئ حتى تنقلاته بين المستشفيات ومن ضمنه مستشفى برديس حنا )إلى الشمال الغربي من
طولكرم( لم تتم بأكثر من مذكرة نقل. فهل فعلا لا يوجد ملف أم أنهم يخفون المعلومات حتى لا تتحول إلى قضية قانونية من الممكن ملاحقتها، لا أدري أين تقبع الحقيقة. أين كان الشيخ حسن
كل هذه السنوات، ماذا مر عليه، ألا توجد طريقة لنبش ذاكرته؟ أم أنه لا يريد؟ أيريد ان يعاقبنا لتركه كل هذه السنوات؟ هل أدرك النكبة وما حدث لأهل فلسطين، وهل أدرك ان زيارته كانت
مستحيلة؟ لكن لا بد من استمرار المحاولة، والوقت ملكنا، كما اعتدنا القول كلما فقدنا الحيلة.
لم أستسلم للقدر، ومن لا يبحث لا يصل إلى الإجابات، ولا بد ان أعرف الحقيقة او لنقل لا بد من الاقتراب من الحقيقة. ثم جاءت الفكرة الألمعية: الحرم الشريف لم يتغير فسيسارع الشيخ
بالتأكيد التعرف عليه. ذهبنا سويا ونفسي مليئة بالأمل. دخلنا الحرم من باب الأسباط )البوابة الشرقية للقدس والتي تقود إلى باب الحرم الذي يحمل نفس الاسم(، حيث نفس الطريق التي كان
يسلكها الشيخ بين الحرم وأبو ديس، سارع الخطوات داخل الحرم الشريف وبهمة بالغة ملتفتا إلى كل الاتجاهات، مما زاد في الأمل بنبش الذاكرة من أعماقها، صعدنا الدرجات المؤدية إلى قبة
الصخرة حتى انبثقت كل القبة شامخة متلألئة أمام عينيه، ولم أتمالك نفسي بالرغم من وعدي لها ان لا أتدخل تاركا الشيخ على سجيته، وأنا سأراقبه عن بعد فقط، فسارعت إلى طرح السؤال:
يا شيخ، أليست هذه قبة الصخرة التي تعرفها ؟
امبلى، نفسها تماما.
رقص قلبي فرحا لهذا التقدم الدرامي، وقلت في نفسي أن الوصول إلى الحقيقة أصبح في متناول يدي، الآن سأجعله يروي، وسأحفز ذاكرته لأسجلها بدقة، وستكتمل الفصول المفقودة من
الرواية، وسأحظى بسبق سأحسد عليه بالتأكيد. ولكن قبل أن استرسل في أفكاري فاجأني الشيخ
حسن:
بس هذه اليابان... شوف لابسة الناس مثل الفرنج، مش بس الرجال حتى الحريم ببنطلونات...
كمان اليابان بنو قبة صخرة!! والله مسخرة.
لم أعرف لماذا هذا الإلحاح على اليابان وما علاقة اليابان بالشيخ. لقد أضاع الشيخ في نفسي الأمل فلعنت اليابان التي أصبحت تلاحقني بلا مبرر. ولاحقا عرفت ان بعض مناطق الريف
وهو على ،» اليابانجي » الفلسطيني تسمي الغريب، حتى لو كان من قرية مجاورة واستقر عندهم، بالأغلب اصطلاح دخل العامية عبر اللغة العثمانية، حيث أن كلمة يابانجي تعني الغريب باللغة
العثمانية. وبالرغم من هذا جلس الشيخ إلى عامود من الأعمدة الكثير في المسجد الأقصى وافترش محرمته وتيمم، ثم أقام الآذان، وصلى تحية المسجد، وصلى ركعات كثيرة لم أقم بعدها. لقد
عمل كل شئ، إلا ما تمنيت أن يقوم به، التذكر. اتصلنا بعمان بولده غازي، الذي لم يصدق خبر العثور على والده بعد كل هذه السنين، وكان غازي قد تجاوز في العقد الخامس من العمر، وحضر غازي إلى القدس لرؤية والده وكله شوق.
كيف يكون لغازي أبا بعد هذا العمر؟ ولم يتعرف الشيخ على ولده، لكن فرحة غازي تجاوزت كل الحدود، أيعقل أن يلتقي بوالده الذي لم يعرفه أبدا، معتقدا أنه يتيم الوالدين؟ كان المنظر الأحادي
الجانب لا يمكن وصفه. غازي يقبل كل بقعة في جسد والده والدموع تغمره، بل أن بكاءه قد
وصل الى مسامع من الجيران الذين حضروا جزء من المشهد. الكل يبكي ويفرك عيونه، لم يعد أحدا يخشى البكاء او يستحي منه. لقد وحد البكاء جميع من حضر، إلا الشيخ فقد وقف في وسط
الجمع مستغربا ما يدور، ولا يدري لم يبكي الجميع. لا أنكر أنني رأيت نظرات الشفقة علينا في عيونه، لكن الاستغراب كان أقوى وأوضح، وسيطر صراخ غازي على الموقف:
يابا أنا ابنك، يابا أنا غازي، يابا رد علي.
وكلما زاد الصراخ، زاد العويل.
دون تحقيق أي تقدم، وان كانت هناك ألفة ،» لإطلاق سراح الشيخ حسن « انقضت الأيام الأولى
نسبية قد نشأت بينه وبين محيطه الجديد، لكنه ما انفك الطلب العودة إلى المستشفى: الضيف ثلاثة أيام وثلث، وها أنا قضيت معكم أطول من ذلك، رجعوني.
لا أدري ما كانت عليه شروط الحياة الشيخ أثناء اعتقاله او بعد تنقله بين المستشفيات.
كان يحمل في جيبه قطعة قماش )منديل( يلف داخلها حفنة من التراب، وقبل الصلاة كان يفردها
ويتيمم عوضا عن الوضوء، كما يقتضي الشرع الإسلامي في حالة عدم توفر المياه او لنجاسة المياه، وعندما كان ينتهي من التيمم، كان يلف المنديل بحرص شديد ويربطه كصرة ويضعه بكل تأنيوحرص في جيبه من جديد، ولم ندري أبدا من أين هذا التراب ولماذا يحمله معه أينما ارتحل. وحين عرضنا عليه الوضوء، بدلا من التيمم، رفض بشدة، مع أنه كان يستحم يوميا، وكان شديد
الحرص على نظافته. وبعد الانتهاء من التيمم، كان يعتلي السرير ويؤذن للصلاة بمواعيدها، ثم يقيم الصلاة على السرير. ولم أره أبدا يقيم الصلاة على الأرض، حتى لو فرشنا له سجادة الصلاة.
المشهد السادس
لم أستسلم أمام إصرار الشيخ عدم فتح ذاكرته لسجلي، ورحت أفكر في أسلوب آخر، واعتقدت أنني وجدته:
لنشد الرحال إلى كفر اللبد، فلم تكبر القرية ولم تتطور، لأن أبنائها يتركونها دائما باتجاه المدن
الفلسطينية بحثا عن لقمة العيش، ولا بد أن تستيقظ ذاكرة الشيخ هناك.
شددنا الرحال، الشيخ، وغازي، وأنا وآخرون من العائلة. لا شئ يثير الشيخ أثناء رحلتنا من القدس عبر نابلس إلى الطريق المؤدية إلى طولكرم، لكنه كان يمعن النظر ويراقب بدقة متناهية،
وأحيانا ينظر إلى الخلف عندما تمر السيارة عن حقل مغروس بالزيتون، ويلصق نظره بالحقل إلى أن يغيب خلف المتعرجات. حين اقتحمت السيارة مدينة نابلس لم أشعر بأن شيئا قد تغيير، لكن
ازداد تركيزه على المباني والناس، لكن لا شئ يوحي بمشاعر جديدة، كل شئ عادي وكأن الشيخ يمر من هناك كل يوم، ويشاهد نفس المناظر. وصلنا إلى بلدة عنبتا، ولا جديد يمكن تسجيله،
ومن منتصف البلدة انعطفنا إلى الجنوب الغربي وصعدنا الجبل باتجاه كفر اللبد، طريق صعب ضيق يصعد بشكل فجائي وحاد بين مباني أهالي عنبتا، وفي قسمه العلوي يقطع حقول الزيتون إلى
نصفين. لم تقطع السيارة أكثر من مئتي متر صعودا، حتى انقض الشيخ على معصمي صارخاكف )أي قف( هنا، وكف العربية )أي السيارة(.
فرملت في منتصف طلعة الجبل، وفتح الشيخ باب السيارة، ولا أعرف من أين له مهارة فتح باب السيارة، وبدأ يهرول صاعدا، وكأن قوة غريبة قد دبت فيه. لحقنا به بعد أن ركنت السيارة
على قارعة الطريق. وبعد أن صعد أكثر من خمسين مترا، وفجأة تمدد الشيخ على الأرض وبدأ ينثر التراب على رأسه منتحبا بشدة حتى احمرت عيناه، ولم تكن عيوننا أقل حمرة من وقع ما شاهدناه،وذلك للمفاجأة التي لم نكن قد تحضرنا لها. صحيح أننا بحركتنا هذه أردنا مساعدة الشيخ على
استعادة ذاكرته المنسية، او ذاكرته المكبوتة تحت سنوات من الوحدة والعزلة والقطيعة والمعاناة،
لكننا لم نكن مستعدين لهذا الشكل من الدراما، فقد كان وقعها في نفوسنا شديد جدا.
وكما استلقى الشيخ على الأرض فجأة، وقف الشيخ على قدميه فجأة أيضا، وبدأ يهرول من جديد، وبسرعة لا تقل عن الأولى:
هذه حبلة خالتي ظريفة، هذه خلة عمي أحمد، هذا مارس...، هذا جدار...، هذه حاكورة....،
هذه صبرات...، هذه لوزات... )أسماء قطع الأراضي في الريف الفلسطيني، وهذه الأسماء
تعكس على الأغلب الشكل الطوبوغرافي للأراضي(.تسمرت في مكاني ولم أتمالك نفسي، فانفجرت بالبكاء من جديد، لكن ليس بغزارة بكاء
الشيخ. وأخيرا وصلنا إلى مرادنا، لقد نطق الشيخ، وانطلقت ذاكرته، ولم يبقى بيننا وبين الحقيقة
سوى جلسة تدوين، هكذا منيت نفسي على الأقل. استمر الشيخ الصعود حتى وصلنا إلى قمة الجبل، وحين طلت بيوت كفر اللبد، حث الخطى بعد أن أصبحت الأرض شبه مستوية، إلى أن وصلنا إلى بيت الشيخ، البيت الذي شهد مسقط رأسه، وهو البيت الذي كان الشيخ يسكنه كلما عاد إلى كفر اللبد، خاصة في موسم الزيتون من كل عام. دفع الشيخ الباب بيده، فانفتح، فدخل، وكأنه لم يغب عنه أبدا. وجلس في صدر البيت المعقود بعقد عربي مفترشا الأرض وتربع. فهل بدأت الآن رواية الحكاية وما علي سوى شحذ قلمي وتسجيل الحكاية بعد العودة إلى البداية؟
لم تمضي دقائق على وصولنا حتى انتشر الخبر في القرية كانتشار النار في الهشيم، فتدفقت الجموع وكأنه يوم الحشر، لم يبقى أحدا في بيته، والكل يروي للكل، لا أعرف عدد صيغ الحكاية
الواسع، في حين تحولق كبار السن » العقد « التي كانت تروى، الكل يحاول اختلاس النظر الى داخل
حول الشيخ وعجت بهم الغرفة الواسعة. الكل يحاول أن يثبت صلة القرابة بالشيخ:
أنا ابن عمتك فاطمة.
وأنا سيدي )أي جدي( ابن خالتك.
وأنا.......
وأنا....
لم أعد أتذكر كل القرابات التي ظهرت فجأة في سماء القرية، لكن القرية اتحدت في هذا اليوم كعائلة واحدة، ولم يعد أحد لا يرتبط بأحد بقرابة ما. لقد ارتبط كل سكان كفر اللبد بالشيخ
حسن، وحولهم عبره إلى عائلة واحدة. شئ لم يتكرر بالتاريخ المديد لكفر اللبد. الكل يتبارى في تذكير الشيخ بشئ مشترك يربطه به، وصغار السن من سكان القرية لم يفهموا ما يدور حولهم، لكن الأمر كان أشبه بسيرك جدير بالمشاهدة، والشيخ أشبه بتحفة يمر من أمامها كل عشاق الفن، ويمر من أمامها كذلك كل من لا يفقه بالفن شيئا، لكنه يجب أن يشاهد اللوحة.
مرت ساعات ونحن على هذا الحال وبالكاد نبس الشيخ ببنت شفة سوى رد السلام وهز الرأس والتحليق بفكره بآفاق لا أحد يعرفها. ومع كل ما يدور، لم تفارق تلك البسمة الطفولية
البريئة ثغره، والحق يقال بأنني الآن، بعد مرور كل هذا الوقت على قصتي هذه، التي أضعها بين أيديكم، لم أعد بقادر على تحليل تلك البسمة، وان وصفي لها سابقا قد يكون سذاجة مني، أهي
طفولية أم سخرية؟ لم أعد أعرف. لقد تعرف الشيخ على الأرض لكن ليس على الناس، ولم يربط بين الاثنين، تغيير الناس وبقيت الأرض في ذاكرته كما هي، كما كانت بكل تقسيماتها وملكياتها، لم تنتقل، لم تتحرك،» يابانجية « لم تتغير، ولم تصبح اليابان، لكن الناس أصبحوا ،» أطلق سراحه « نام الشيخ في بيته، في مسقط رأسه، ولم أشاهده قد نام بذلك العمق منذ ان أهو الإحساس بالطمأنينة والعودة إلى الديار، ام أنه التعب من هول ما رأى في يوم واحد، يتجاوز ما رآه في أربعين سنة ونيف؟ وصباح اليوم التالي لم يختلف عن مساء اليوم الذي سبقه، كل شئ عادي
ومدونتي لم تزد كثير سوى وصف الأحداث، لكن لا حقائق جديدة عن الماضي. وفي اليوم التالي ذهبنا جميعا لزيارة أرض الشيخ )الخلة( التي تبعد عدة مئات من الأمتار
عن وسط القرية، وتكرر المشهد، نثر للتراب على الرأس والمسح على أشجار الزيتون وتقبيلها، وانهمار لدموع الشيخ ودموع كل من شارك في تلك الرحلة إلى البرية، لقد كان المشهد جللا،
مسيرة جماعية لسكان القرية، كأنه موسم لولي من أولياء القرية، مئات من الشباب وكبار العمر، ولم تخلو المسيرة من النساء. واشترك الجمع بذرف الدموع، وكأنها كانت مناسبة لإطلاق دموع حبست لعقود، وفي مثل هذه الأحداث يسمح البكاء دون أن يلام الباكي. مرة ثانية قام الشيخ بكل شئ يمكن توقعه إلا الكلام، وزادني بذلك إحباطا.
المشهد السابع والأخير
غازي يصر على نقل الأب إلى الأردن ليقضي معه ما تبقى له من أيام. وهذا حق لا يستطيع أحدا منا إنكاره عليه، حتى أنا المتشوق جدا إلى البحث عن نهاية سعيدة لهذه الرواية التي لم
أستطع كتابة إلا خاتمتها، وحتى هذه لم أستطع كتابتها بشكل كامل بعد. وهنا بدأت المشكلة. للسفر وثائق ثبوتية لا بد من توفيرها، فالشيخ لا يحمل أية وثيقة. فحين أصدرت الجنسيات
الأردنية لسكان الضفة الغربية بعد العام 1951 ، لم يكن الشيخ من سكانها فقد كان في مكان ما لا نعرف أين، لكن بالتأكيد لم يكن في الضفة الغربية.
فأين كان الشيخ حسن يا ترى؟ ما الذي حدث له؟ من الممكن انه قد بقي في سجن عكا حين سقط السجن بيد اليهود أثناء حرب عام 1948 ، وقد فتحت أبواب السجن وهاجر من
هاجر وهجر من هجر، لكن الشيخ لم يكن يملك ذاكرة يعود إليها، كما عاد من رافقه بالسجن. على أغلب الظن، وذلك وفق أكثر الاحتمالات، فقد ذاكرته في مرحلة ليست بعيدة عن العام
1948 ، لكن بالتأكيد قبلها. وحين تم الاستيلاء على سجن عكا لم يملك اليهود سوى تحويله إلى مستشفى للأمراض العقلية، لتبدأ رحلته من جديد في أقبية مجهولة له ولنا. لقد خرج الشيخ
حسن من التاريخ ولا نعرف أين وصل في رحلته وحيدا. لم يكن صعبا على الشيخ حسن تذكر ما لم يتغير من الأشياء، الأرض مثلا، لكنه لم يتذكر حتى أولئك الذين عاصروه وقابلوه لاحقا، فهل
لم يتذكر فعلا ام أنكر الذاكرة، تحميلا لنا المسؤولية عما جرى له. لم يعرف الشيخ حسن بأن اليهود قد سيطروا على غالبية أرض فلسطين مشكلين دولة إسرائيل، ولم يكن يضمر لهم حقدا ولا
كرها، ولكن كل حقده كان متوجها اتجاه الإنجليز، المسؤولين عن كل شئ. لم يفهم شرحنا له عن الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 والذي مكننا الالتقاء به. انني أستطيع أن أسجل قائمة طويلة
بما لم يفهمه او يستوعبه الشيخ حسن، ولكنني لا أستطيع إلا تسجيل قائمة صغيرة بما ما زالت ذاكرته قادرة على حمله. لكنه كان حملا ثقيلا بكل المعايير. وبقيت الأرض هي خزان الذاكرة
الوحيدة لدى الشيخ حسن. وبمساعدة مختار القرية، قمنا بتحضير الأوراق الثبوتية الضرورية لتعبئة طلب لاستصدرا
جواز سفر أردني، يؤهله الدخول إلى الأردن. لكن كيف سنخرجه عن الجسر باتجاه، وهو لا يحمل هوية إسرائيلية. هنا كان لا بد من العودة إلى المستشفى لاستصدار وثيقة تثبت شخصيته ومكان
استطعنا ،» لمن يهمه الأمر « وجوده. وبمساعدة هذه الوثيقة المكتوبة باللغة العبرية والمعنونة
.» إسرائيل « استصدار تصريح مغادرة للشيخ عبر جسر اللنبي على اعتباره كان مقيما دائما في » الحقيقة » وبالفعل، وبمساعدة هذه الأوراق التي لم يكن لها أي شكل قانوني، وكلها لا تمت ل
بصلة، غادر الشيخ، بعد وداع حافل في أبو ديس إلى عمان. وبعدها، لم أرى الشيخ أبدا، وكل ما أعرفه عنه جاء من روايات ابنه غازي وأحفاده.
لقد أخبروني ان الشيخ كان يغادر منزل ولده، الكائن في طلعة المصدار المؤدية إلى منطقة الوحدات في عمان الشرقية، يوميا ويحث السير في كل الاتجاهات بحثا عن شئ لم يعرفه أحد، ولم
يتأكدون من أنه يعرف عما يبحث. وكان أحد أحفاده يسير في أعقابه إلى أن يتعب، فيأتي بسيارة تعيدهما إلى البيت من جديد، ليتكرر المشهد في اليوم التالي وهكذا يوميا بلا كلل وبلا ملل.
وعلى ما يبدو فقد افتقد الشيخ حسن رتابة حياته الهادئة والوديعة في المستشفى فكان يحاول العودة اليها، العودة إلى ذاته التي افتقدها في خضم الاستقبالات ومقابلة وجوه لا تعني له شيئا،
ذاته التي افتقدها في ظل الضغط الهائل عليه ليتذكر ما نسيه او تناساه، ذاته التي هربت من الواقع وحلقت في سماوات لم نبلغها، ولن نتمكن من بلوغها.
ولم تكن عمان بأقل قدرا وحظا من ابو ديس والقدس وكفر اللبد. فقد انتشر خبر الشيخ في أرجاء المدينة المليونية، وتهافتت الصحافة عليه، الكل يريد ان يصل إلى الحقيقة، والكل كان
نصيبه منها ليس بأكثر من نصيبي. كما لم تتوانى المؤسسات الرسمية والشعبية عن القدوم إلى بيت العائلة المتواضع، فوصول الشيخ إلى بيت ولده حول البيت إلى مزار لم يعهده من قبل، فتدفقت
الوفود وكل محب للاستطلاع. وطلعت الصحف الأردنية بتغطيات صحفية غطت صفحات كاملة: الشيخ حسن اللبدي يتحرر من « وكتبت صحيفة أخرى ،» الشيخ حسن يخرج من بين الأموات «
عمان تحتضن السجين المحرر الشيخ حسن » و ،» سجون الاحتلال بعد قضاءه أكثر من أربعين سنة وهكذا. اذا لم يعد الشيخ حسن شخصية ....» مأساة فلسطين تتجسد بالشيخ حسن « ،» اللبدي غريبة، فقد أضحى من أعلام عمان، ومن رموز القضية الفلسطينية، هكذا أصر على الأقل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان. لم يشاور أحدا الشيخ حسن في هذه المكانة التي اكتسبها، لكنها كانت بالتأكيد غير مريحة له، فاستمر الهروب إلى حيث لا ندري. أكثر من ثلاثة أشهر حتى فارق الحياة. وسار في جنازة الشيخ » تحرر الشيخ « لم يمضي على
آلاف المشيعين وامتلأت الصحف الأردنية نعيا، لا أعرف ماذا نعو الرمز، الضحية، البقاء، الكارثة
النكبة، الانتداب، سجن عكا، المستشفيات الإسرائيلية...لا أعرف، لكن الشيخ رحل دون أن
أستطيع معرفة ما اكتنز في داخله من جزء هام من تاريخ القضية الفلسطينية. فهل فعلا فقد الشيخ
الذاكرة؟ وان كان الأمر كذلك متى؟ أم أنه رفض التذكر احتجاجا علينا وعلى غيرنا؟ وهل قتلته
الحرية التي لم ينعم بها أبدا؟
لكنه رحل حاملا أسراره وروايات ثمينة عن مأساتنا. رحل ومعه، او ليس معه، إجابات على
ألف سؤال وسؤال.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|