~* الحلقة الأولى *~
أطلت "شذى" من نافذة عبر الزمن طالما أغلقتها في وجه الذكريات، خاصة تلك النافذة التي بعثت الغرابة وأثارتها في نفسها .
كانت أقرب ما تكون إلى الخيال ,لا تعرف لها إلى اليوم مدى أومسمى .
كانت تلك النافذة هي كراستها ذات السلك المعدني الذي أحاطها سياج الزمن بالساعة والتاريخ والعام . لتفتح كراستها الخاصة مبتدئة من آخر صفحاتها حيث كتبت :
" في اليوم الأخير الثالث والعشرين رمقني بنظره خالدة طالما احتفظت بها في ذاكراتي . وكأن عيناه الواسعتين ونظرته الحادة تنظر لي بذلك الصدود وهو يرمي الملف
بحسرة وغضب ذاك الذي يوضع على سرير المرضى، دون أن ينظر لي أو حتى يحييني أو يسأل عن صحتي لكي يتم واجبه !!.. لحقته عيناي وهو يهرول فلم
أر منه إلا كنزته البيضاء الانيقه ..
-الممرضات والطبيبات اللاتي حولي كن يباركن خروجي من المستشفى بفرح ، بينما أنا لم آبه بهن ...
فحين هرول ذلك الطبيب أحسست بوخز في داخلي , إحساس عجيب لا أعلم كيف جاء هذا الشعور ؟؟؟
هل لأني كنت معتده بنفسي ومحط اهتمام ثم يأتي هذا الطبيب فجأة في آخر يوم والجميع يحتفي بي وهو لا يبالي ؟! كونه الطبيب الأول المسؤول عن حالتي وهو لا يبالي !!
لا أفهم ما هذا الشعور وما مصدره فانا في حيره . ولكن ما اعرفه وما أحس به شعور جميل لا يزيد بالاهتمام ولا ينقص بالجفاء بل هو رأس المشاعر الإنسانيه .. هو الاحترام ...
و برشاقة أخذت " شذى " تقلب الصفحات الأماميه وتقف عند ورقة البداية وهي تقرأ بسعادة : "عندما رأيته أول مرة عرفتني به الممرضة التي تعمل تحت رئاسته قائله :
" شذى" هذا الدكتور .. " إبراهيم " أنه معروف و ممتاز ....
في تلك اللحظة أحسست بالخوف من يكون مرضي خطيراً لدرجة تستدعي مجيء هذا الطبيب ، شعرت بالقلق أكثر عندما أكملت كلامها وهي توكزني على كتفي وتطلب مني أن أدير نظري إليه :
هو سيفحصك أنتِ محظوظة جداً .
بدا الطبيب مسترسلاً بالكلام و فجأة و بسرعة خاطفة نظرت إليه وبسرعة أكبر أعدت نظري إلى الاتجاه الآخر نحو الممرضه .
بدا ظريفاً متواضعاً مرحاً, وأنا أفكر في قرارة نفسي : لماذا ارتد نظري بتلك السرعة عندما نظرتُ إليه ؟!
إجابتي كانت حاضره لنفسي وهي أن الطبيب يشبهني كثيراً ليس بالشكل ولا الملامح ....
بل روحه مثل روحي ... نظرة عينيه تمتزج بنظرة عيني فتقف عندها في ذهول ... حديثه جميل ويخرج بعفويه كعفويتي , حركاته و إيماءته كلها تفيض بالحيوية كحركاتي و إيماءتي .
عندما نظرتُ إلى عينيه وأنا أحدثه عن حالتي الصحية وما ينتابني من أعراض
أجدني أقرا عينيه بسهوله .وهو يحاورني ببساطه كنت من نظرت عينيه -فقط-
اعرف واسمع ما يقول وكان يجاوبني دونما سؤال مني لأنه كان يعرف ما أريد .
كانت عيناه ... تبتسم .. تضحك .. تعاتب .. تتكلم و تحنو و بمعنى آخر :
كانت عيناه .... واحة فياضة .
كان الجميع مندهشين تعلوا وجوههم الغرابة وتكتسي ملامحهم الذهول.
فانا صامته وهو مسترسل بسعادة .كانت ملامح وجهه تقف أمامها روحي بإكبار,عندما أراه أجزم إننا ولدنا معاً, كبرنا سوياً, تحدثنا عن أحلامنا , تمازحنا وتخاصمنا كثيراً .
رأيت كل هذا وأنا لا أعرفه . ولمفارقه المضحكة ..!!! أني في العشرينات من العمر بينما هو على عتبات الخمسين .
قلبت " شذى " الصفحة بسرعة وتوقفت برهة وهي تضع يدها على فيها وتضحك ,
ثم تنظر مرة اخري إلى الكراسة لتبتسم وتقرأ :
كان لطيفا معي يثني عليّ دائما ويصفني بأني أفضل مريضاته , كان يغمرني بفيض من
الاهتمام الرائع , كان يهون عليّ كثيراً .. رغم أني أظهر اللامبالاة بالمرض وعدم الخوف والقلق على صحتي , بينما هو يهون عليّ تارة بالكلام وتارة بالمزاح ,كل ذلك يجعلني أرتاح , فانا بأمس الحاجة إلى مثل ذلك الكلام . كنت أظهر التجلد أمام سيل المزاح والنكت التي كان يخترعها خصيصاً ليّ بينما لا أجاريه بأحاديث خارج المرض والعملية . كنت أجاوب على أسئلته باختصار , وباختصار كنت اقفل كل الأحاديث بمهارة .. لأني محافظه واعرف حدود كل شي...
انتقلت " شذى " إلى الاريكه المجاورة لمكتبها وهي ترفع شعرها المنسدل -بغزارة-على كتفيها ,وبقلمها الذهبي تقلب الصفحة التالية وتقرأ :
كانت المجموعة التي تعمل معه دائما منشغلة - فيما بينهم- بأحاديث عني , فهم يرون الدكتور " إبراهيم " سعيد في زيارته الاعتيادية حين يتحدث معيّ بعفوية لدرجة الثرثرة دون تعليق
مني أو إجابة إلا بكلمتين .. لا .. نعم .. وأحيانا بكلمة يمكن . ويرونه وهو يطيل الحديث ليتسنى له المكوث دقائق أخرى ليظفر مني بحديث أو إيتسامه . يرون اهتمامه الكبير بي ويرون عدم مبالاتي واكتراثي به , بينما هم جاهلون !!! حتى الدكتور " إبراهيم " نفسه لايعلم . فانا أرتاح إلى أحاديثه وأضحك لنكاته وأتحرى سماع خطواته وانتظر زيارته اليومية لي بفارغ الصبر , ولكن من الداخل دون أن يشعر بي أحد فأحاديثه ونكاته وزيارته تخفف عني الكثير من الألم والوحدة والقلق ,
لذلك كنت أود أن تطول مدةمكوثه هنا ,فهو يشعرني بالأمان والسعادة عندما يحضر .
اعتدلت " شذى " في جلستها و هي تردد بصوت هامس : طالما قدّرت له ذلك .. طالما احترمته فأنا من ذلك اليوم إلى الآن أنا أقُر بمعروفه معي ليس كطبيب فقط ولكن
كإنسان.
كن ... مع شذى في الحلقة الأخيرة
نوره الدوسري