التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,826
عدد  مرات الظهور : 162,241,770

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > هيئة النقد الأدبي > الدراسات
الدراسات الدراسات النظرية ( هنا) + التبويب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 20 / 01 / 2015, 17 : 11 AM   رقم المشاركة : [1]
زين العابدين إبراهيم
أديب روائي

 الصورة الرمزية زين العابدين إبراهيم
 





زين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

ملخص البحر في الشعر الجزائري المعاصر

ملخص البحر في الشعر الجزائري المعاصر
الدكتور :محمد الصالح خرفي

المتن الشعري الجزائري المعاصر، ليعبر الشاعر الجزائري من خلاله عن تجربته و همومه ورؤاه.و قد أسبغ الشاعر الجزائري الصفات الإنسانية على هذا العنصر المكاني،و على الرغم من عدم تحديد مكان هذا البحر عند معظمهم،فهو بحر جزائري ، و من الشعراء الجزائريين الذين عاشوا تجربة البحر بطريقة مغايرة للسائد،و ابتعدوا عن الوصف الحرفي و الميكانيكي للبحر،الشاعر عاشور فني و الشاعر عيسى لحيلح و الشاعر يوسف وغليسي... فالبحر عند معظم الشعراء ، هو ملجأ الحلم و الحقيقة ، و مادة تضاف إلى التشكيل الشعري للخروج بدلالات جديدة و متجددة،لأنه رمز للرحلة و المغامرة و البحث السندبادي ،و هو رمز للاتساع و اللانهاية و العظمة و السر اللامنتهي،و الحياة و الحب و اللقاء الجميل...

البحر في الشعر الجزائري المعاصر

تعددت الأمكنة الموظفة في المتن الشعري الجزائري المعاصر، واختلفت الرؤى للمكان، تبعا لأصول الشعراء الاجتماعية و الثقافية،وتبعا لنظرتهم للمكان،و صوره عندهم ورواسبهم الفكرية،و مرجعياتهم الثقافية و أهدافهم من توظيفه.
و قد حاول الشاعر الجزائري ألايكون نمطيا في توظيفه للمكان فركز حينا على تبيان صفاته و أنواعه ،و أحيانا أخرى على حالته و موقعه و ما يحتوي عليه ، أو أبرز تجربته الوجدانية فيه،بطريقة مغايرة لما يأتي في النص الروائي .
و قد استفاد الشاعر الجزائري من تقنية الوصف في الأداء الشعري في الكثير من الأحيان لترجمة رؤيته للمكان ؛ ففي قصيدة "عرس البيضاء "–و التي هي قصيدة حب إلى الجزائر العاصمة - لعثمان لوصيف مثلا تختلط الأشياء على القارئ في بداية النص و لا تنجلي الحقيقة- بالصفات المذكورة - إلا في آخر النص ، المعتمد على الوصف ، عندما يصرح الشاعر باسم الجزائر ،و هي حيلة يلجأ إليها الشاعر ليخلط الحقيقة بالخيال ثم يأتي بالقرينة اللغوية ليمحو المغالطة الفكرية و الفنية التي لجأ إليها في أول النص لتظهر شاعرية المكان* بصورة واضحة :

آهٍ !
جسمُك فاكهةُ البحرِ
جسمك عيدُ المرايا
و جسمك مجرى المجراتِ..
أنتِ الحقيقةُ بين يدي
و أنتِ البراءةُ تفترُ عن ليلةِ القدرِ
يا نحلةَ الضوءِ و النوء
يا زهرةَ الثلجِ عند الخليجِ
و يا امرأة تنتمي فيقالُ الجزائر !
(01)
فالشاعر- في كل الحالات الشعرية - يحاول بقدر الإمكان، الابتعاد عن النمطية و مفاجأة القارئ الذي تكتنز ذاكرته جملة من الأسئلة التي يبحث عن إجابات لها في ذاك النص، أو في غيره لأن " القارئ قبل شروعه في القراءة لا يكون ذهنه مجرد صفحة بيضاء تنطبع عليها متواليات النص ،بل فضاء تعتمل فيه جملة من الأسئلة تتعلق في آن واحد بالشعرية الاجناسية التي ينتمي إليها هذا النص .و بتفاعله الشكلي و المضموني مع نصوص أخرى ،و بإستراتيجية التخيلية التي تحقق انزياحه عن الواقع ، أما حين يشرع في القراءة فهو ينتظر من النص أن يجيب عن أسئلته تلك ، بحيث يكون مهيأ مسبقا لتلقيه بطريقة معينة ... أما الكاتب فلا يكون قبل شروعه في الكتابة ، خاضعا لاشراطات و إكراهات الشعرية الاجناسية و السجل الجمالي اللذين سيصدر عنهما نصه بحيث لا تعدو كتابة النص كونها إجابة عن هذا السؤال ، لذلك يقتضي فهم النص فهم السؤال الذي يعد النص جوابا له " (02)
فوجود القارئ مرتبط بالنص،و هو ضروري له،ليشكله و يعطيه الحياة و الكمال،ويربط الصلة بغيره من النصوص الشعرية ، إِنْ للشاعر نفسه أو لشعراء المرحلة نفسها أو بالمتن الشعري العربي كله من القديم إلى الآن،فـ " علاقة القارئ بالنص هي علاقة مزدوجة : من النص إلى القارئ و من القارئ إلى النص-و- هنا يتأسس الحوار و التبادل، و تتبلور تلك الجدلية اللانهائية التي تعمل على المحورين الزمني و الفضائي،حيث يكون النص متوفرا – بالضرورة- على استراتيجية ينبغي للقارئ أن يستثمرها لا لفهم النص ، بل لبناء معناه المتعدد و استراتيجية النص هذه، هي التي تنتظم في الحقيقة المنظورات المتعددة الممكنة للنص ذاته، و تأخذ على عاتقها المساهمة في بناء المعنى"(03)الذي يشكله المكان،أو المفتاح الهام في استراتيجية القراءة النقدية الواعية الباحثة عن الجماليات المختلفة ، التي تلتقي فيها الأجناس الإبداعية ،حيث يقترب الشعر من القص ،للتأثير على القارئ .
و يشكل البحر- دون غيره من الأنماط المكانية - علامة محورية، و بؤرة مركزية في المتن الشعري الجزائري المعاصر ، لطبيعة الجزائر الساحلية،و لأن معظم الشعراء من الشمال الجزائري الساحلي ** فشاعت الزرقة في أشعارهم، و حملوا البحر على أكتافهم و في أشعارهم على حد تعبير الشاعر علي مغازي:

رأيتُ البحر محمولاً...
على أكتافِ من كانوا يغنونَ هوانا
فلتذهبِ الدّنيا تماما
فغدًا تأتي ..
غدا
يأتي سوانا ...
..(04)
و يتخذ البحر أشكالا و ألوانا و صورا شعرية مختلفة، ليعبر الشاعر الجزائري من خلاله عن تجربته و همومه ورؤاه ، فهو غير محدد بالمكان المنسوب إليه –أي بحر كان- تغير طعمه، و الشوق إليه مات في بلاد الأعاريب الضائعة ، التي ضاع فيها كل شيء، فتضاريس الفضاء البحري تغيرت مع تغير الإنسان و المكان، و طبيعة المكان في حقيقتها مرتبطة بكل هذه التغيرات، ليكون البحر عنوانا لعودة جديدة لهذا الوطن الضائع،كأنّّه لشدة دلالته على بلادنا يستطيع اختزالها و تقليصها إلى عنوان واحد هو " البحر"نفسه،و يصبح ما يحدث للبحر دالا على ما يحدث للوطن عموما، و في ذلك يقول الشاعر أحمد شنة :
تكلّمْ ..
أنا منذ أن أصبح البحرُ ... لا يستفزُ الجسدْ
و منذ انحناءِ الجبالْ
ومنذ انهزامِ الصعاليكِ... و الأنبياءْ
و منذ احتراقِ الأمدْ
أنا منذُ أن أصبح البحرُ... أرجوزةً للرمالْ
و منذ الفرارِ الأخيرِ
لكلّ الأعاريبِ من صهواتِ أحدْ
أقاتلُ كي .. أستردّ البلدْ .
(05)
فالشاعر أحمد شنة أصيب بالدهشة و المفاجأة،عندما فقد المكان خصوصياته و سماته التي يتميز بها،بفقدانه أعز الأصدقاء و الأحباب في أزمة الجزائر في التسعينيات، فالفقد تجاوز الإنسان إلى المكان ، و لم يكن البحر إلا فضاء يدل على الضياع ، و العودة لن تكون إلا من خلاله، فمثلما ضاعت الجزائر من قبل عن طريق البحر ، سوف تعود في رأي الشاعر من جديد عن طريق البحر والقتال ، فالبحر عنده عنوان لعودة أكيدة.
بل إن الشاعر الجزائري يسبغ الصفات الإنسانية على هذا العنصر المكاني ، فمصطفى دحية*** يجعله عاقلا يشعر بالسعادة مثل الإنسان أو أكثر عندما يحاصره الملاحون ،والبحر شعور جميل يخالج الإنسان ، بل هو الحب عند الشاعر حمري بحري :
فالحب تحول إلى بحر ، لكنه بحر ميت ، و هو دلالة على حب مفقود، أو حب من طرف واحد ، و لم يجد الشاعر الصورة المعبرة عن هذا الحب إلا صورة البحر الميت .
و على خلاف الشاعر حمري بحري الذي يحمل البحر عنده دلالة سلبية،يكون الحب عند الشاعر الأخضر فلوس بحرا بمفهومه الإيجابي؛وبأوجه متعددة،حيث يأخذ الشاعر من البحر بعض الصفات ليسبغها على حبه المتجدد الذي لا ينام،ليعطي الصورة الحقيقية له لمن يحب، و هي ظاهرة تتكرر كثيرا، إذ تأتينا من التقاليد الرومانسية فكرة الربط بين البحر و المرأة، و يبدو أن ذلك يعود إلى أنوثة ما كامنة في ملمس الماء و الخصوبة المرتبطة به،و الشبه الكبير بين البحر الحاوي للمخلوقات و رحم المرأة الحاوي للحياة، و هو معنى يصرّ عليه غاستون باشلار، فلنقرأ مع الشاعر الأخضر فلوس:
البحرُ لا ينامْ
والحبُ يا حبيبتي
كالبحرِ لا ينامْ
قريبًا من النيلْ
بعيدًا عن النبعْ(
07)
و على الرغم من عدم تحديد مكان هذا البحر عند معظم الشعراء الجزائريين ، فهو بحر جزائري ، و هو عند الشاعر عزالدين ميهوبي ، يختزن الكثير من الأسئلة و الاستفسارات التي يبحث الشاعر عن أجوبة لها عنده ، لعله يعوضه عن الغائب ، و يجري الشاعر شبه مقارنة بين خوف الأرض من البحر ، و رحيل الأسماك إلى البحر ، فهو مخيف من جهة ، و مكان للجوء من جهة أخرى، و البحر هنا يحمل الدلالة الحقيقية و الدلالة النفسية :
ناديتُ البحرَ ..
لماذا يخافك قحط الأرضِ
و قافلةُ الأسماكِ
تشد إليك زعانفَ تحملُ روحَ الماء ؟!
ناديتُ البحرَ..
ففاضَ الموجُ ..(
08)
كما يصبح البحر واعيا و مدركا لما يحيط به عند الشاعر الجزائري الشريف بزازل ،الذي يخاطبه و يرسل له التحية ، و يطلب منه فرصة للعبور،و كأنه حارس على الطرق المؤدية للحب ، لكن بحر الجزائر التي ضيعت قلبها في خضم النزق ،يحيل إلى الحزن و الألم، و إن لم يصرح الشاعر باسمها:
كلّ عام ٍ.. و جرحُكَ واجهةٌ للأنينْ
كلّ عامٍ .. و وجهُكَ عاصمةٌ للغمامْ
و أفقك أرشيفُ حزنٍ جديدْ !!
و يا أيّها البحرُ مهلاً .. ،
لتمنحني فرصةً للعبورْ
إلى حب هاذي التي ضيّعت قلبها
في خضم النزقْ !(
09)
فعندما ترتبط تجربة الشاعر بالبحر يصبح هو الملهم و الموجه لهذه الشخصية التي تغترف منه ، فهو الصديق و العدو ، و القريب و البعيد ، و الملهم للإبداع الفني للشاعر ،يناجيه و يناديه ، و يخاطب ماءه وموجه، هو المملكة المانعة التي يهرب إليها دون رقيب،و لولاه لما رأينا هذا الكم الشعري في متننا الجزائري ؛فهو المثير للتجربة و المؤثر على الشاعر بطريقة أو بأخرى – مباشرة أو غير مباشرة- ، يحمل دلالة الاتساع والانبساط وحفظ الأسرار من جهة و الضيق و التقلب والحزن و الألم من جهة أخرى.
و من الشعراء الجزائريين الذين عاشوا تجربة البحر بطريقة مغايرة للسائد،و ابتعدوا عن الوصف الحرفي و الميكانيكي للبحر،الشاعر عاشور فني في ديوانه "زهرة الدنيا "عبر العديد من القصائد: "عرش الملح "،" و بعد"،" نجوى الشاطئ المكسور "...وقد جعل الشاعر نفسه كالبحر،فتقاسما معا التورط في الزرقة و الإبحار، و الثورة على النفس :

و يا أيّها البحرُ
كلانا تورط في الزرقةْ
خاضتْ مراكبهُ في اللهيبْ
و لم تحترقْ
كلانا تطرّفَ في عِشْقِهِ..
كلانا نزقْ
يفيضُ بما يتسرّب فيهِ
و يغرفُ ممّا تسرّب منه
و من ذاتِه ينبثقْ
كلانا يثور على نفسهِ
و يحطمُ شطآنه

و على رملهِ يستريحونَ حين يَرُقْ (10)
لقد أخذ الشاعر من البحر جملة من الصفات ، و جعل نفسه ندا له ، و إن كان الاختلاف بينهما فهو اختلاف غير مؤثر ، لأن كلاهما يفيد الآخرين ، و قيمتهما لا تتحدد إلا بالآخر،
فالشاعر جعل نفسه في مقام البحر، و أعطى لنفسه حق المقاربة ليبرز عظمته،إدراكا منه إلى أن الصورة لا تكتمل إلا بالبحر، لما يحمل في نفسه من قوة و تحد .
و قد يلجأ الشاعر الجزائري في بعض نصوصه إلى التحديد المكاني للبحر ، فالشاعر عثمان لوصيف ، كتب عن بحر وهران في نصه الطويل " وهران" دون غيره من البحار ، بالرغم من أنه متشابه مع الشواطئ الجزائرية الأخرى ، لكن ما صنع الاستثناء، هو مدينة وهران التي تختلف عن غيرها من المدن الجزائرية ، فاختلف حتما بحرها الذي لجأ إليه الشاعر ليغسل عنه الأدران ،لأنه النبع الحقيقي،و عنوان المدينة التي أحبها الشاعر و لجأ إليها و إلى بحرها ليعرف اسمه الحقيقي ،و ليعرف جوهر كينونته و روحه ، فبحر وهران منطلق الشاعر للبحث عن الحقيقة ، و وهران هي وجه البحر ، و الشاعر هما معا ، تشكّلا ليعليا من قيمة الإنسان و من قيمة الشاعر، و كأن لا بحر في الجزائر إلا بحر وهران :
آهٍ يا بحرَ وهرانَ ..يا نبعَهَا القُدُسي !
أناشدُكَ الدمعَ و الزفراتِ
أناشدُكَ العشقَ و الكرمةَ الفارضيةْ
آهٍ ! دعني أمرغُ فيكَ هُمُومِي
و أغسلُ قلبي و أوردتي
آهٍ ! دعني أعانقُ في مائك اسمي الحقيقي
معنايَ .. روحي.. وجوهر كينونتي
(11)
بل إن الشاعر عثمان لوصيف يسقط صفات البحر على المرأة، و يجعلها تأخذ منه العمق و الغنى والفرح، و اليوم الجديد في نصه " كالبحر أنت " ،حيث جعل المرأة صورة مصغرة للبحر ،لينطلق في فتوحاته الجديدة، ليصل إلى فجره الجديد،و لن تكون المرأة البحر إلا طريقا لسفينته:
كالبحرِ أنتِ عميقةٌ
كلّ الدروبِ تضيعُ فيك
كالبحرِ أنتِ غنيةٌ
في مقلتيك مواسمُ تصحُو و أعراسُ تقومْ
كالبحرِ أنتِ عصية ٌ
و أنا
أنا ربانُك المشحونُ بالهوس العنيدْ
اجتاحُ ليلَكِ
أطعنُ الأمواجَ فيكِ
و فيكِ أرقبُ مطلعَ الفجرِ الجديدْ
(12)
فالبحر عند معظم الشعراء ، هو ملجأ الحلم و الحقيقة ، و مادة تضاف إلى التشكيل الشعري للخروج بدلالات جديدة و متجددة،لأنه رمز للرحلة و المغامرة و البحث السندبادي ،و هو رمز للاتساع و اللانهاية و العظمة و السر اللامنتهي،و الحياة و الحب و اللقاء الجميل...،يلجأ إليه الشاعر ليصل الآخر ،وهذا الآخر غالبا ما يكون قلب أنثى ، علّ الرسالة تصل إليها ،و علّ البحر يعطي الشاعر الجواب الذي يبحث عنه منذ زمن بعيد، فالبحر رسول الشاعر الذي أرسله ، و هو الذي يعلم سر الفاتنة ،تصادق معه و جعله إنسانا واعيا يدرك ما يعانيه:
يا بحرُ يَمّم نحو جُرح الفاتنهْ
ازرعْ ترانيمَ الأمانِ بقلبِها
أمطرْ بأحلامِ الحياةِ أديمَها
إني أراهَا
فأرى الجرح يضّمها
يا بحرُ من أرّقها ؟
يا بحرُ من أغرقَها ؟
(13)
و لكن على الرغم من هذه الكثافة الشعرية لشعر البحر****،لم يكن البحر هو المادة الأساسية الوحيدة في الشعر الجزائري، و لا النمط المكاني الوحيد ،بل كان مادة مساعدة ، أو جزئية من الجزئيات المرتبطة بالعناصر الطبيعية الأخرى التي يستقي الشعراء منها صورهم الشعرية المرتكزة على التجربة المعاشة ، و المحاكاة الطبيعية ، ليتجسد من خلال شعر البحر، الإكبار للطبيعة و لبديع صنع الله ، و يكون المثال الأعلى الذي ينشده الإنسان في أي زمان و مكان ، لأنه في الحقيقة هو الجوهر و الجزء الأكبر من فضاء الشاعر .
و قد استمد الشعراء الجزائريون صورهم المرتبطة بالبحر من التراث الشعري العربي،و من المخيال الجمعي ، و من الواقع الجغرافي و الطبيعي الجزائري و العربي الممتد من الماء إلى الماء ، ولذا " يندر أن نجد شاعرا عربيا قديما أو حديثا لم تنعكس في أشعاره نداءات هذا العاشق المتسرب بالزرقة أو هذا الفحل المضيء الذي يلقح الأرض و الريح بالمسرة فتعلن ساعة الإخصاب دقتها و يهزج الأزرق المخضر بالعنفوان معلنا أن اللانهاية و العمق و الحلم خواص و سمات تتجوهر فيها ماهيته"
(14)
البحر جزء بيئي هام من الطبيعة العربية و الجزائرية، وظفه الشعراء في نصوصهم ،و كأنه إنسان عاقل و واعٍ،يتحاور معه الشعراء ،و قد شملت الأنسنة كل مظاهر الطبيعة في الفشعر الجزائري المعاصر ؛ وكان البحر من أكثر الأنماط المكانية التي أنسنت و تحولت على أيدي الشعراء ، إلى كائنات تملك الحس و العاطفة و المشاعر . ولأن البحر كان بديلا لأمكنة كثيرة ،ولا يمكن تملكه فقد أصبح مزارا شعريا، و دواء لأمراضنا المستعصية على حد تعبير الشاعر الشريف بزازل :
آه لو تبصرُ عينُ الناظرين
أن للبحرِ حنايَا
تحتوي السّر اليقينْ
و مراياهُ التي قد أبصرتْني
ترصدُ الأدواءَ فينَا !
آه لو يَدْرِي الجناةْ ..
أن للبحرِ أريجًا
بَلْسَمًا يشفي جراحَ المُتْعَبِينْ !
(15)
فالبحر و ضع بيئي حتمي،تعامل معه الشاعر الجزائري بصور مختلفة، و جعله معبرا لذاته و لشجونه،و رمزا للظروف التي تمر بها الجزائر ،مقارنا بينه و بين النهر الذي يمد البحر، فيأخذ البحر رمز الكبير و النهر رمز الصغير ، لكن لا غنى لهذا عن ذاك. وقد تمثل هذه الصورة الشعرية الشاعر حسن دواس في قصيدة "غرور "، في حوار شعري بين النهر والبحر ؛ هذا الأخير الذي لا يستغني أبدا عن قطرات النهر، فهو ظامئ إليه دائما ، حاول الشاعر أن يبرز تلك العلاقة التلازمية بينهما في هذا المقطع الشعري الذي يقترب فيه من عالم القصة :
منذُ دهرٍ
و نهرُ المدينةِ في البحرِ ينسابُ مسترسلاً
ما انعطفْ
مرة قبّل الموجَ في وله و قالْ :
أيها البحرُ جئتك أحملُ كلّ عبيري معي
ضحك البحرُ مستهزئًا ثم أجاب
أنا هذا المدى
أنا هذا العبابْ
ثم أردفَ : ما ضرّني أن تجيء أيَا
قزمُ أو تنصرفْ
غضِبَ النهرُ ، غيَّر وجهتَهُ
قهقه البحرُ لا يرعوي و مضى ..
و تأججتِ الشمسُ في الأفقِ تمتصُ أعماقَه
قطرةً .. قطرةً .. في شغفْ
بعد صيف قصدَ الناسُ شاطئَه
وجدُوه نشفْ .
(16)
و يحمل المقطع دلالات إنسانية واضحة ، يمكن تفسيرها على عدة أوجه ؛ و أبرزها حاجة الكبير للصغير،و أن المجتمع بجميع أبنائه ، و الدولة لا يقوم لها قرار إلا بالمشاركة الجماعية..
وتبقى لهذه المقطوعة قيمة فنية لا شك فيها، لأن الشاعر استطاع إعطاء بعد رمزي للبحر لم نكن متعودين عليه..وذلك في إطار حكاية قديمة من الحكايا الخرافية التي تمتلئ بالحكمة و البعد التأملي..وهذه إضافة للبحر في الشعر الجزائري المعاصر لا شك فيها.
لقد اختلفت رؤية الشعراء لهذه المساحة المكانية التي تشغل الجزء الأكبر من الكرة الأرضية ، فالبحر حارس أمين لمعظم المدن الجزائرية ، و من أجله كانت المقاومة ،حتى لا يدنسه الأعداء، -من ناحية الرؤيا الجمعية - و هو الملجأ الأول و الأخير للشاعر الجزائري-من الناحية الذاتية-بعد أن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت ، فهرب إليه ليأويه و عله يجد عنده السلوى و السكينة.
و هو ما حدث للشاعر عثمان لوصيف، الذي استبدل المكان الضيق-الأرض- بالمكان الواسع-البحر- في خطاب شعري شفاف ينبض بالحياة والبحث عن استمرارها، ليتحول البحر عنده إلى طريق للخلاص أو إلى منفذ ينسرب منه:

واقفٌ عند الشواطئْ
في خشوعٍ و سكينهْ
أبتني فيها مرافئْ
و شراعًا و سفينةْ
واقفٌ ألهوُ بدمعي
إذْ جرى من مقلتيا
ها أنا قد ساقني الوجدُ إليكْ
جئتُ لما ضاقت الأرض عليا
آوني يا أيّها البحر لديكْ !
(17)
و إضافة إلى البحر، نجد القرية،الصحراء،الجبل، السماء،المقهى، المطار، السجن،الفندق..- الأمكنة غير المحددة جغرافيا، و الأمكنة العامة و الخاصة- قد تواتر توظيفها في المتن الشعري الجزائري المعاصر لكن بصور متفاوتة.
يبقى في الأخير أن نشير إلى هيمنة المكان على نصوص بعض الشعراء الجزائريين،و على معانيهم ،و كأنهم ما كتبوا إلا ليعبروا عن المكان مثل:محمد مصطفى الغماري،عثمان لوصيف،عزالدين ميهوبي،يوسف وغليسي،عبد الحميد شكيل...حيث سيطر المكان بصورة واضحة على نصوصهم –إن على المستوى الموضوعي أو التشكيلي-،مما جعلنا نولي عناية خاصة لنصوصهم، لأنها نصوص تحفر الذاكرة و تسبر أغوارها و تربط بين الحاضر و الماضي، و بين الذات والجماعة، فـ " المكان حينما يكون موضوعا جماليا متخيلا يكتسب خاصية الأثر المبدع الذي تؤول ملكيته إلى القارئ أولا و أخيرا، فالشاعر لا يقدم سوى الإشارة إليه في إبداعه ،يعمل الاقتصاد الشعري على اختزالها و حذف أجزائها. بيد أن التخييل يعيد إليها المحذوف ليس بالطريقة الآلية التي يمكن أن نتصورها سريعا و إنما بالإضافة الجديدة التي لم تكـن للمكان من قبل "
(18)
ومن حقنا كقراء، أن نعيد تشكيل النصوص من جديد،وأن نعطي للنص فاعليته و للشاعر مكانته ،سواء أكان هذا النص يتعلق بالمكان أو عبر عن التجربة الإنسانية المشتركة.فالنص الشعري يشكلنا من جهة ،ونسعى لتشكيله من جهة أخرى في علاقة تبادلية ، فهو بوصفه أداة اتصالية" تتدخل في تشكيل هذا القائل،مثلما تتدخل في تشكيل المتلقي،و من هنا،فإن النص يصبح مهما و خطيرا في الدرجة نفسها ،و لن نتمكن من ملامسة خطر النص و أهميته إلا من خلال تشريحه تشريحا نصوصيا بهدف فهمه أولا ثم تفسيره بعد ذلك "(19) عن طريق فك رموزه و عناصره الجمالية وربط الداخل النصي بالخارج النصي،لإعادة صياغته من جديد ،لأن النص المكاني المتجدد لا ينتهي مع كل قراءة ،و لا يستنفذ محتواه من الوهلة الأولى .
إحالات الدراسة:
* يعتبر الروائي و الناقد غالب هلسا صاحب الروايات السبع ( الضحك،السؤال ، ثلاثة وجوه لبغداد،سلطانة ، البكاء على الأطلال،الخماسين ) أول من ترجم كتاب غاستون باشلار 1882-1964 "شاعرية المكان " مقسما المكان في الرواية العربية إلى أربعة أنماط : 1-المكان المجازي 2- المكان الهندسي 3- المكان ذو التجربة المعاشة 4- المكان المعادي . لمزيد من التفصيل حول روايات غالب هلسا راجع : كتاب شاكر النابلسي . جماليات المكان في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ،. ط 01 ،1994.
(01) عثمان لوصيف : اللؤلؤة .دار هومة، الجزائر، ط01، 1997،ص 31.
(02) رشيد بن جدو : القوام الابستمولوجي لجمالية التلقي . مجلة علامات ج 36مج 09، ماي 2000، النادي الثقافي بجدة ، المملكة العربية السعودية ، ص 404.
(03) حسين نجمي : شعرية الفضاء . المركز الثقافي العربي ، لبنان ، المغرب ، ط01، 2000، ص 79.
** للأستاذ الشيخ المرحوم زهير الزاهري- عميد الملتقيات - رؤية خاصة عبر خطوط العرض و الطول يربط فيها بين منابت النخل و منابت الشعر ، فأجود الشعر يوجد مع أجود التمر في رأيه .
(04) علي مغازي : في جهة الظل.منشوات إتحاد الكتاب الجزائريين، دار هومة، الجزائر،ط01، 2002،ص 76.
(05) أحمد شنة:طواحين العبث.دار هومة، الجزائر، ط01، 2000،ص38.
***مصطفى دحية : قصيدة إقليم المبتدئ .ص 29
(06) حمري بحري أجراس القرنفل . م و ك ، الجزائر، ط01، 1986،ص 51.
(07) الأخضر فلوس :مرثية الرجل الذي رأى . المؤسسة الوطنية للطباعة .الجزائر ط1،2002 ص75
(08) عزالدين ميهوبي : النخلة و المجداف.منشورات أصالة،طبع دار هومة ، الجزائر ،ط01 ، 1997 ، ص 13.
(09) الشريف بزازل : بعوزتي وطن من ورد .-ديوان مخطوط-ص 21.
(10) عاشور فني : زهرة الدنيا .دار هومة، الجزائر،ط01، 1994،ص 149.
(11) عثمان لوصيف: براءة . دار هومة، الجزائر،ط01، 1997،ص 61.
(12) عثمان لوصيف : شبق الياسمين .م و ك ، الجزائر، ط01، 1982،ص 33.
(13) الشريف بزازل : بعوزتي وطن من ورد .ص 16.
****قدم أحمد عبد القادر صلاحية رسالة ماجستير بجامعة دمشق في السنة الجامعية 89-90 بعنوان البحر في الشعر الأندلسي .
(14) فائز العراقي : البحر في نماذج من الشعر العربي المعاصر " السياب ، محمد عمران ، فايز خضور" م المعرفة السورية ع 399، كانون الأول 1996.ص 109.
(15) الشريف بزازل : بعوزتي وطن من ورد .ص 06.
(16) حسن دواس: أمواج و شظايا.منشورات رابطة ابداع،طبع دار الوفاء،سطيف،الجزائر،ط01، 2002،ص 13.
(17) عثمان لوصيف : الإرهاصات. دار هومة ، الجزائر، ط01، 1997،ص 69.
(18) حبيب مونسي : فلسفة المكان في الشعر العربي " فراءة موضوعاتية جمالية " .منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق ،سوريا ، ط01، 2001.
(19) عبد الله الغدامي: القصيدة و النص المضاد.المركز الثقافي العربي ،لبنان،المغرب،ط 01 ،1999،ص 113.

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
زين العابدين إبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20 / 01 / 2015, 24 : 11 AM   رقم المشاركة : [2]
زين العابدين إبراهيم
أديب روائي

 الصورة الرمزية زين العابدين إبراهيم
 





زين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond reputeزين العابدين إبراهيم has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

رد: ملخص البحر في الشعر الجزائري المعاصر

مرثية الرجل الذي رآى

جرحتك- إذن - و إستدارت إلى أهلها

طفلة تتخاطف خصلتها الريح فوق المدى

و القتيل على روحه تركع الشمس

ترتيلة سقطت..

و تساقط فوق السطوح،القريبة

نصف ملاك..

تحفز في مقلتيه الهدوء!

عبـر النــاس

حطت على الحائط المتهدم إغفاءة

رشقتها الحجارة،،فاختبأت بين ضلعين..،

قال:سأدفئها..

( و الطريق بما حملته تنـوء)

نفّّّّّرَّّت حجل الروح أغنيـة

" أي حزن أرى إذ أرى الصمت أغنيتي

أي شيء يعيد الى الروح بهجتها

( و الزمان رديء)

أبصر الأرض مائلة

فأعاد براءتها..و بكى..

حينما انحدرت دمعتاه..

تناثر بين الفجاج القريبة

( هذا دم عاشــق،،

و الشموس مسافــرة..

كلما ارتعشـت شفتـاه تضــيء)

و تسامـى علـى جرحـه إذ رأى نخلــة

بسقـت ثــم مالـت قليــلا

فقـال أعـدلهـــا..

ربمـا-في الخريـف-عراجين هذا الفضاء تجيء

ضـمّ-عمـرا-يديه الى قلبــه..و ارتجـف..

قلـت:خفـت الفجـاج البعيــدة

قال إني أرى عاشقــا تتخطفـه الطيــر

( لكنـه لـم يخــف)

قـال: مازالـت الأرض تجـرح حيـن تعـانقهـا

قلـت:تفرح حين يعـود الصغار إلى أمهم

فانخطف

قــال: إنــي أرى قمـرا داخلا فـي المحــاق

و دربي الذي اعتـدته ينحـرف

الشاعر الأخضر فلوس
زين العابدين إبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لميس, المعاصر, البحر, الجزائري, الشعر


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
البحر الحلو // مهداة إلى الغالي محمد الصالح الجزائري إبراهيم بشوات الشعر العمودي 10 02 / 03 / 2021 29 : 04 PM
أليس الشعر في الأنثى حراما؟ محمد حمدي غانم الشعر العمودي 6 28 / 06 / 2020 03 : 11 AM
مقتطف من قراءتي لكتاب'الترجمة والتحديث /الشعر العربي المعاصر في معبر الثقافات' د. رجاء بنحيدا نقد أدبي 4 06 / 06 / 2018 49 : 09 PM
أنيس صايغ يكتب عن أنيس صايغ (مذكراته) بوران شما شخصيات لها بصمات 4 09 / 09 / 2010 52 : 09 PM
قراءة في الشعر العربي المعاصر عنوان برَّاق لكتاب باهت محمد توفيق الصواف نقد أدبي 0 01 / 08 / 2009 09 : 02 AM


الساعة الآن 38 : 05 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|