رد: أ.رأفت العزي،، ضيفنا في مجلس التعارف
سيدتي الفاضلة ابنتي العزيزة عروبة
سُعدت أن تاتي منك هذه الدعوة فانشري ما ترينه ولك حرية التصرف في أي جملة أو حرف
سألت نفسي مرة: متى اصابني الخوف لأول مرة ؟ ظنا مني بان المرء حين يتذكر متى خاف في حياته أول مرة،
يعني أن ذاكرته صار لها تاريخ ، أو أن التأريخ لحياته قد بدأ منذ تلك اللحظة التي شعر فيها بالخوف ..؟
- كان لي من العمر اربعة اعوام وصورا لمشاهد لم انساها ارتبطت بمشاعري انتابتني لأول مرة من عمر
الطفل الصغير؛ إذ كيف يمحو الزمن من ذاكرتي هذا الاختزان وتلك الذكرى وهي ذكرى أحداث انطبعت
بالذاكرة الجماعية لأطفال فلسطين الذين كانوا في مثل عمري . ما زلت اذكر تلك الليلة التي حملتنا فيها
امي ثلاثة، هاربة بنا كقطة تحمل ابناءها ببين أسنانها ولا تعرف الى اين .. ! صراخ يعلوعبر مكبرات
الصوت بالعبرية والعربية ويختلط بأزيز الرصاص وأصوات الانفجارات: -
" سنقتلكم كلكم إن لم يستسلم المخربون ...!!"
كلمات رددها جنود الاحتلال عبر مكبرات الصوت وهم يقتحمون الأحياء القديمة من حيفا فأين المفر ..؟!
ما تبقى من المقاومين الذين صمدوا، هم في حصار مثلنا .. فاليهود أطبقوا
على المدينة من كل جانب ما عدا البحر!
الطريق اليه كان يجب ان تظل مفتوحة لنهرب، كانت تنتظرنا مراكب الصيادين والسماسرة
لتنقلنا الى مجهول ما زال يبحث عن ارض آمنة لنحط فيها الرحال.
عندما اشاهد اطفال فلسطين اليوم على شاشات التلفزة ، اعاني اشد المعاناة
وأتأثر كما كل انسان .. ولكن .. ما علق بذاكرتي من رعب وهلع عشتهما
في تلك الليلة من شهر نيسان من العام 1948 كان وما زال يضعني مجددا في قلب المشاعر لأن
الحكاية لا تنتهي ويبقى جرح الذاكرة نازف مع نزيف سنوات العمر وقد تجاوزت السبعين بعام هذه السنة .
وما زلت اذكر تلك الساعات التي كنت ومن كان في عمري من الأطفال نصرخ ونصرخ
ثم نصرخ ليس خوفا من اصوات الرصاصاو القذائف .. ولا خوفا من تلك لأصوات الآتية عبر المكبرات
( لم نكن نفهم ما تعني ) .. انما كان خوفنا الأكبر يأتي من ظاهر الرعب على وجوه الكبار من الرجال
والنساء خصوصا الأمهات قال رجل مجهول - " طريق البحر اسلم لكم "واختفى عن الأنظار سريعا ..!
انقلبت جميع الأزقة الى طرق مكتظة تعبرها قوافل الهاربين على خط واحد باتجاه ارصفة الميناء ...!
يروي القصة كثيرون ، لكنهم لم يشاهدوها ، لم يعيشوا تفاصيلها كما رأيتها وعشت مسلسلاتها ،
هي مأساة اكبر وأشمل وأعمق من كل ما تبعها من مآسي !
وهي بالنسبة لي ، كانت يوم ولادة ذاكرتي ، يوم أُليقينا على ظهر مركب صياد عتيق،
نقلنا من ميناء حيفا الى ميناء مدينة أخرى ،وكلما كنا نبتعد عن شاطئ حيفا ، تزداد الناس
صمتا ويرتفع منها الأنين ،اما انا فأتذكر بان وجهي كان باتجاه السماء شاهدت النجوم لأول
مرة تتراقص، كان يحملني رجل غريب حسبته يمرجحني ولم اكن اعلم ان المركب كان يتمايل من
ثقل ما كان يحمل وهو يمخر عباب البحر ببطيء فوق الأمواج وتذكرت بأني كنت في هذه اللحظة
سعيدا في عتمة ذلك الليل البهيم !
على ما حسبت ذاكرة من ولدتني فإني ولدت في السابع من نيسان العام 1944
أما نشأتي فابتدأت في أزقة مدينة عكا حيث لجأنا وهناك تكونت بعض الانطباعات عن وحشية
الاحتلال الصهيوني وتصرفاته حيال الأهل وبدأت كومة من القصص الصغيرة تتكون بالقرب
من سور عكا وقلعتها التاريخية ؛ بعد مضي ثلاث سنوات على وجودنا في عكا هجرنا المدينة
وسرنا نحو الشمال، نحو لبنان الذي سبقنا إليه قسم من الأهل وأقمنا في مخيمات اللجوء
" المية ومية ، وعين الحلوة " ثم انتقلنا للعيش في مدينة صيدا ولم نزل .
كنت في السابعة من عمري حين عبرنا الحدود فوجدت امي تجهش بالبكاء سالتها:
لماذا تبكون يا امي .. ونحن سوف نرى اقاربنا، ووالدي؟
قالت: يا ولدي ان فراق ارض الوطن، بما يتركه من حزن وألم، لا تساوي فرحة لقاء من نحب.
في المخيم تعلمت الكثير، بل أن معظم ما تعلمته في حياتي كان من أثر المخيم.
وأهم ما كان في المخيم هو " الديوان "ف الديوان يجب ان يكون فيه جميع مستلزمات الضيافة،
القهوة والشاي وما شابه ، بعض الطعام الذي يحضر بسرعة عجيبة للضيف الغريب عن المخيم ..
ولا يمكنك ان تشعر ان شيئا ما قد عطّل تلك الخدمة لسنوات .ومن اهم مستلزمات الديوان في ذلك الوقت هو .. الراديو ....
هذا الصندوق العجيب المزين بغطاء منديل مطرز بألوان علم فلسطين تتدلى منه خرزة زرقاء
لحجب الحسد ! وضع على رف عال، ليشاهده الجميع .. ويستمع اليه الجميع حينما ينطق!
وفي الديوان ايضا كانت المهام تتوزع على المختارين من الأفراد، فهذا العم ابا مصطفى
متخصص في سرد القصص، قصة كل يوم . بالرغم من تردادها تظل ممتعة وبكل المقاييس ..
|