ونهض الفاضل . وشيعته بنظري حتى دخل القاعة دون أن أبدي حراكا . ولبثت كذلك مدة غير يسيرة ، ثم انتبهت إلى نفسي .. أين العجوز؟.. هل أنا في حلم ؟ .. نهضت ناويا مغادرة البيت . لكن الرفوف المليئة بالمجلدات استرعت انتباهي ، فعدت أدراجي وجلست في الحديقة أتصفح الكتاب تلوالآخر وأنا أحس بجسدي يتراخى وجفوني تطبق فأفركها . كنت أعمل جاهدا على قراءة أكبر عدد من الكتب . وقد وجدت فيها ما جعلني مشدودا إليها وإلى ما ترويه عن أشخاص ومناطق و أحداث . وأحسست أني أسافر على بساط سحري أجوب به القبائل والمداشر .. قرأت عن بني بوزرة وبني سلمان وبني منصور ، وتسلقت قمم تيزيران والأقرع ثم انحدرت إلى وادي القنار ورأيت القنطرة ، لكني لم أتذكر إسمها .. وتداخلت الرؤى فلم أعد أميز بين اليقظة والمنام . فأسندت ظهري إلى الشجرة ورحت في سبات عميق... رأيت جدي وارتميت في حضنه ، وعانقت عمي الفاضل و أخبرته بما نلته من جوائز قيمة بعد اختيار موضوعي كأحسن موضوع إنشائي ... رأيت دموع لطيفة وهي تهنئني بفوزي فشعرت بالشفقة والود تجاهها، ونسيت منافستها لي وخصامي لها . ثم وجدت نفسي أذرع البيت وقد عادت ملكيته لجدي الذي بكى فرحا . وتقدمت نحو والدي أرجو منهما الصفح لما سببته لهما من قلق و ضممت أخي لصدري ، ثم أقبل كلبي العزيز يلعق ثيابي وينبح غبطة وسرورا ، ولم ينقطع عن النباح، فأشرت له بالسكوت لكنه ، وعلى غير عادته ، زاد نباحا حتى ضايقني فكممت خطمه ،لكن نباحه انبعث من أذنيه . تركته وجريت ، فتبعني لاهثا ، عندئذ شعرت بالخوف منه وصحت مستغيثا بجدي :
- جدي .. جدي .. أنقذني منه.. سيأكلني..
لكن جدي اختفى ، وكذلك عمي الفاضل وأبواي .. وأخي ، ولم يبق قربي سوى الأشجار والطريق إلى القرية.. والمنزل على مقربة مني ببوابته المغطاة بالكرمة المتفرعة في كل اتجاه . كنت ملقى على الأعشاب وفوق رأسي كلب يتشممني . كدت أنتهره لكني انتبهت إلى ما حولي وقد تغير كل شيء . لم يكن الكلب كلبي ولكني عرفته . ولم تعد الحركة تملأ البيت الذي بدا لي من قبل بهيا ساحرا . بل وجدت نفسي كما لو أني أروم الدخول إليه لأول مرة ... إذن فلم يكن ما رأيته إلا حلما بعد أن غلبني النعاس قبل اقتحام البيت حين جلست أستريح .. عصرت ذاكرتي بلم أفلح في تذكر ما قد يخلصني من حيرتي .
في تلك اللحظة ، أطل أول شعاع من الشمس من وراء الجبال البعيدة ، فنهضت أنفض عني الغبار وأنا ألتفت حوالي .. وكان الكلب قد يئس من ملاعبتي إياه ، فانصرف وهو يرمقني بنظرات تنم على خيبة الأمل ... ماذا أفعل ؟.. هل أعاود الكرة ؟ .. لكني انتبهت إلى اختفاء ما جلبته معي من لوازم وفكرت مليا قبل أن أخلص إلى نتيجتين :
- إما أن ولوجي للبيت كان حقيقة ، وإما أني نمت قبل أن أخرج من بيت الجيران . وفي هذه الحالة سأكون قد خرجت نائما ، وهذا ما كان يحدث لي عندما كان لي من العمر خمس سنوات .
أصابني إحباط كبير وخيبة أمل لا مثيل لها . كيف أقص ما حدث لي من غرائب ؟ .. هل أعترف أن كل ما جرى كان حلما ؟ أم أرويه كحقيقة ؟.. لكني أعرضت عن الفكرة الأخيرة رغم يقيني أن تنفيذها سوف يمهد الطريق للفوز.. وانبعث من داخلي صوت يصيح بشدة "الفائز الكذاب.. الفائز الكذاب .." عندئذ غلبني البكاء وجلست على صخرة أفكر في حالي ، وإذا برجل ينبعث من الغابة ويتقدم نحوي مستغربا قعودي وحيدا في هذا المكان المنعزل ونحيبي في صمت :
- ماذا حدث أيها الصغير؟ ولم تبكي ؟
مسحت دموعي بكم قميصي ولم أجب . كنت خجلا من نفسي ولم أرض أن يراني أحد أبكي . كانت كلمات جدي ترن في أذني:"إن الرجال لا يبكون .. الجبناء هم الذين يبكون..". ولما لم أرد ، أعاد الرجل السؤال وهو يربت على رأسي :
- هل تهت ؟ .. ألست ولد الجندي ؟
أشرت له برأسي أن نعم ، فسكت هنيهة وهو ينظر حواليه ثم يصوب نظره نحو البيت . و أخيرا تنهد وانحنى بتفرس في قائلا :
- ماذا تفعل هنا ؟ هيا معي ، فالشمس قد تضرك وأنت لم تفطر بعد على ما يبدو.. ثم إن وجودك قرب هذا المنزل قد يعرضك للأذى .
- لماذا ؟- قلتها متلهفا لمعرفة المزيد عن المكان- هل هناك خطر ؟
تردد الرجل قبل أن يجيب :
- هذا المنزل مسكون.. ألم ينبهك والدك لذلك ؟.. انهض وتعال معي .
نهضت وتبعته نحو القرية وأنا ألتفت ورائي بين الفينة والأخرى ، فيخيل إلي أني أرى عمي الفاضل واقفا في إحدى شرفات البيت وأنني أسمع ترنيمته الشجية .. حتى وصلنا إلى منزل الجيران . هناك ، عند عتبة الباب ، وقفت جارتنا وقد بدا عليها القلق والتوتر:
- أين كنت يا ولدي ؟ و إين ذهبت باكرا هكذا . ألا تعلم أن والديك أوصياني بالحرص عليك وعلى أخيك ؟.. لماذا تفعل بنا هكذا ؟
وتغير صوتها حتى صار أقرب للبكاء ، فتقدم الرجل ودفعني إليها برفق وقال :
- وجدته في الناحية الأخرى من... الدار .
- الدار ؟... يا للمصيبة.. ماذا كنت سأقول لهما لو.. العياذ بالله.. تعال وادخل .. عما قليل سيصلان ... ماذا جنيت ياربي حتى أعاني كل هذا القلق والخوف ؟
ضايقني لومها ووددت لو تصمت . فقد كنت في حالة يرثى لها من الذهول والإعياء ، ناهيك عن مشاعر الإحباط و اليأس . لكني كنت متفهما لحالتها خاصة وأني أعرف طيبتها وحرصها الشديد علينا ، حتى من عقاب والدي . ولا أدل على ذلك من كتمانها لما جرى حين عادا من رحلتهما . ولاحظت أمي تغير سحنتي فاستفسرت الجارة ، لكن أبي بادر يطمئنها باسما :
- ماذا تنتظرين منه وقد تركناه وحيدا ؟ لا قرين يرعبه ولا رفيق يؤنسه...
- لكن أخاه معه... لا.. لا شك أن شيئا حدث له .
- حقا.. لكن فارق السن بينهما كبير شيئا ما ...
التفت إلى الجارة وجلا فوجدتها تبتسم .. ولم تعقب . أما أمي فظلت تنظر إلي بريبة . وعندما لم تجد الجواب الشافي تركتني لشأني وانشغلت بأمور أخرى تتعلق بالرحيل . إذ لم يبق على انقضاء العطلة سوى يومين . وكان أبي قد رتب الأمور وحصل على إذن بانتقالي .
ثم بدأنا نحزم الأمتعة . ها قد انتهى كل شيء . وجدت نفسي أتعجل الرحيل حتى لا تبدو هزيمتي أمام الملأ . وأخذ فضولي يزداد حول ما أعدته لطيفة من جديد . وشعرت بدبيب الغيرة يسري إلى قلبي ، لكني تمالكت نفسي وأخذت أفكر جديا في ما حلمته . أليس هذا أفضل من لا شيء ؟ .. وعلى التو شرعت في الكتابة بكل حماس غير آبه بالحركة من حولي . وينتبه أبي لانشغالي فيتوقف و العرق يتصبب من جبينه ويقول مبتسما :
- ماذا أعددت لمعلمك ؟.. لا شك أنك وجدت شيئا خارقا أثناء غيابنا .
- لا شيء.. سأقص حلما رأيته أول أمس .
- حلما ؟ .. لكنه طلب منكم واقعا..
- سوف أخبره بحقيقة الأمر .
- هذا أفضل .
وعدت للكتابة وانصرف هو لحزم الأمتعة ، بينما أمي تعينه تارة وتعنى تارة أخرى بأخي الذي لا يكف عن الصراخ .. وهمت بخيالي أجول في المنزل المهجور الذي أحببته و ألفته ، بحيث لم يعد يخيفني .. أصف جنباته وما حوته من نفائس ، وحديقته و ما زانها من أشجار و أزهار . وتطرقت بالتفصيل إلى كيفية ولوجي للداخل في تلك الليلة التي لن أنساها... وفي تلك اللحظة قطع أبي علي حبل أفكاري وهو ينادي في حدة :
- هيه... أين الملقط والحبل ؟.. ألم أنبه إلى عدم مس هذه الأشياء ؟ ها نحن محتاجون إليها... حتى المصباح اختفى .
وقف شعر رأسي وجحظت عيناي .. ما معنى هذا ؟.. لملمت أدوات الكتابة و أسرعت أعدو كالمجنون صوب المنزل هناك على ضفة النهر . كان فكري منصبا على شيء واحد .. هل أجد الحبل والملقط والمصباح عند أسفل السور ؟ .. إذا لم أجدها فذلك يعني... أني لم أكن أحلم ، وأن ولوجي المنزل كان حقيقة .. يا للفرحة .
حين وصلت ، بحثت وقلبي يخفق بعنف . في نفسي أمل بعدم العثور على تلك الأدوات .. وفعلا لم أجد شيئا . توقفت عن البحث وجسمي ينتفض.. مهلا.. ألا يكون عابر مر من هنا والتقطها ؟.. خمد حماسي قليلا ، لكني تشبثت بالأمل وعدت أدراجي مترنما بالأغنية "الدار اللي هناك.. عاليمين..." . وجدت أمي لا تزال تهدئ من روع أخي الباكي ، بينما أبي يواصل حزم الأمتعة في عصبية واضحة .
- أين كنت ؟ وأين ذهبت مسرعا ؟
- ذهبت لأبحث عن الحبل والملقط والمصباح.. ربما كانت هناك .. قرب النهر .
- قرب النهر ؟ و من الذي أخذها إلى هناك ؟
- لا أدري.. ولكن ..
- يبدو أن انغماسك في كتابة أحلامك قد أثر عليك.. هيا خذ هذه الحقائب وضعها عند عتبة الباب .. عما قليل سيأتي جارنا بالبغال..
- سنركب البغال ؟
- أجل..- قال وهو يشير إلى قمة الجبل المجاور للقرية من الناحية الشرقية – انظر.. من هنا طريقنا.. سترى أن امتطاء البغال أمتع من ركوب السيارة .. ثم.. هاهي فرصة حقيقية لإعطاء موضوعك متعة وتشويقا واقعيين .. سوف نمر بمناطق لم تشاهدها من قبل .
سهمت قليلا قبل أن أجيب مكلما نفسي :
- حقا.. من يدري؟.. لعل الحلم يصير حقيقة .
نظر إلي أبي مبتسما رغم عيائه ، ثم هز رأسه وعاد لعمله ، ووقفت أنا أنتظر صاحب البغال حتى أتى . ولكي أبدو جريئا سألته:
- هل تستطيع هذه البغال السير حتى الريف ؟
- الريف ؟..- قال الرجل وهو يغرق في الضحك حتى أربكني – اسمع ما يقول ابنك .. الريف ؟
وانتبه أبي لحرجي فقال دون مبالاة :
- هو بالنسبة إليه كل المنطقة ريف.. فهذه الجبال جبال الريف كما درسوا ..أليس كذلك يا بني ؟
- أجل- قلت بسرعة – ونحن الآن في الريف الغربي .
وضحك أبي وهو يغمزني بعينيه . وفي اللحظة التي شدت فيها الأحمال وتهيأنا لامتطاء البهائم ، تراءت لنا سيارة جيب آتية نحونا ثم توقفت . خفق قلبي بعنف حين رأيت القائد يترجل ، فيهرع إليه أبي مصافحا ، ثم ابتعدا قليلا ليخوضا في أمور تخص القيادة . التفت إلى السيارة لأجد لطيفة هناك مع أمها . كانت تبتسم ، ولم تكن ابتسامتها تحمل أي تحد أو عداء . ابتسمت بدوري ولوحت لها بيدي مودعا فلوت رأسها . ولمحت أمها تشير إلي بالاقتراب ..
- كيف حالك يا بني ؟.. يبدو أنكم راحلون اللحظة .
- نعم .. وكنا على وشك الانطلاق .
- سوف نفتقدكم كثيرا.. أين أمك ؟
- في الداخل تطعم أخي .. هاهي قادمة .
ونزلت المرأة من السيارة وسرعان ما هرعت أمي نحوها لتتعانقا ، و لم أعد أسمع إلا شهيقا ونحيبا.. كانتا تتبادلان القبلات وتهمسان بصوت مختنق..و التفتت إلى لطيفة .. كانت هي الأخرى تبكي في صمت ، فتقدمت نحوها قائلا في تجلد :
- هل أعددت شيئا لمعلمنا ؟
- نعم.. و أنت ؟
- وأنا كذلك .. لكني لا أدري ما الفائدة منه الآن .. ربما لن يثير اهتماما .
ابتسمت قائلة وهي تجفف دمعها بمنديل :
- هذا ما أحسه أنا كذلك.. وقد لا أجرؤ على تقديمه .
اختفت كلمات الخصام و التحدي من حديثنا ، و شعرت لأول مرة بأن لطيفة هي أولا و قبل كل شيء زميلة لي يجدر بي احترامها و مساعدتها.. وأحسست بالندم لما بدر مني تجاهها في الماضي ، فاستجمعت شجاعتي وقلت وأنا أغض بصري :
- كنت أريد أن أقول لك شيئا..
- أعرف.. أنا بدوري فكرت في ذلك.. لكن .. كما ترى .. ها نحن معا.. لا حاجة لأي اعتذار ..
كانت تتكلم جاهدة على أن يظل صوتها طبيعيا ، لكنها لم تفلح في إخفاء تهدجه ، فكان له وقعا على نفسي و غلبتني دموعي أنا أيضا ومددت لها يدي مصافحا :
- رغم كل شيء .. أعتذر عما مضى..
- لا تعتذر..ألم أقل ألا حاجة لذلك ؟
- بلى .. و لكني..
- لا تقل شيئا..خذ.. هذه هدية أعددتها لك من قبل.. و الحمد لله أننا لحقناكم قبل الرحيل .
مدت إلي بأوراق ملفوفة بعناية وقالت :
- لا تقرأها إلا و أنت بعيد عن هذا المكان .. عدني بذلك .
- أعدك.. لكني..
ابتسمت في حنو وقالت وهي تربت على كتفي :
- هديتك قبلتها .. مع السلامة .. هاهو والدك يناديك .
وقفت مشدوها و أردت أن أستفسرها ، لكنها كانت قد ابتعدت ولحقت بأمها ،ولم أشعر إلا و أبوها يدنو مني ويضع يده على رأسي قائلا:
- لطيفة تشكرك على لطفك وظرفك .. لا تنس أن تكتب أليها وتخبرها عن أحوالكم.. مع السلامة .