قصة قلب ينبض / نجاة المريني
الأربعاء 01 أبريل 2015 -
أن تحب الأدب العربي وتعشقه أمرٌ غير ميسر، ولا مهيّأ كما قد يخيل إلى البعض، بل هو مستعصٍ ، دون ذلك شوك القتاد كما يقول المثل العربي ، أن تحب هذا الأدب يعني أن تنصرف إليه وتـتعبدّ في محرابه قراءة ودرسا ، تـتبّعا وفحصا ، ومن ثم أجد نفسي كلما اعتقدت بأنني أجوب أزقـته ودروبه أو أمسك بحباله وخيوطه ، أو أرتاد مسالكه وشعابه ، إلا وتأكد لي بأنني أزداد به جهلا، وعن مظانه بعدا ، مما يدفعني إلى أن أتوغل في أحراشه ، وأسبح في بحوره، أو أنزوي في محرابه الأيام والليالي ، مستنفذة وقتا وجهدا، مؤملة الحظوة بقراءة درره والاستفادة من رائق كلمه .
لم يخطر ببالي ، ولم يرد على خاطري ، منذ تهمّمتُ بالأدب العربي في المشرق والمغرب ، ومنذ وعيت ، في علاقة حميمية بهذا الأدب العربي الذي سكنني وملك عليّ وجداني وأنا أقرأ لرواده ومبدعيه ، ومحققي نصوصه ودارسيها ، أن أقرأ لأحد مؤرخيه ولغوييه وأدبائه وشيخ كتاب" الرسالة " مصطفى صادق الرافعي ما قرأت له من رسائل رقيقة ، فيها من معاني الحب والوجد ما يروق ويعجب ، ومن زفرات العاشق المهجور ما يوجع ويرعب في كتابه " أوراق الورد " ، فأدهشني قلمه ببيانه ورائق عباراته ، وراقني حديثه بمضامينه وأفكاره ، ومشاعره وعواطفه ، يتحدث عنها حديث الكلف بها ، المعتز بِنَيْسَمِها ، مؤكدا أن " الحب كورق الورد في حياته ورقته وعطره وجماله "( ص 25 ) .
لقد أكدت لي قراءة هذا الكتاب سمو الحب وصفاءه ، وطهره وبهاءه ، وأنصفت الشيوخ من أحكام جائرة أهمها الانصراف عن التعلق بالجمال وعن التعبير عن المشاعر الملتهبة ، إذ لابد دوما من أن تبقى الصورة الراسخة في الأذهان عنهم لا تعدو وقارا وهيبة وفي بعض الأحيان تجهما مقيتا ، وقد نجد بعضهم في المغرب العزيز يرى في التجهم والعبوس الصورة الأمثل للعالم والمسؤول ، مما يدعوك إلى الابتعاد عنه في حضوره وغيابه مسافات ومسافات .كنت أرسم للشيخ مصطفى صادق الرافعي صورة شيخ وقور ، شغله الدرس الأدبي والتاريخ العربي عن أي شيء آخر ، فحبّر فيهما أروع الكتابات ، وخلد أبهى الدراسات، أشهرها " وحي القلم بأجزائه الثلاثة " ، ومقالاته الملتهبة في مجلة " الرسالة " .
وعلى الرغم من إعجابي بكتابه " وحي القلم "،وقراءتي المتعددة له في فترات مختلفة،كانت هيـبة الشيخ الوقور تملأ عليّ المكان ،وإن كنت أجد في مقالاته تارة "فكرا وخلقا،وأخرى تزمتا ووقارا،وثالثة فكاهة ومرحا"،كانت شخصيته تفرض عليّ _ وإن في القراءة _ أسباب الوقار والاحترام ، والهيبة والانتظام .والرافعي كما وصفه محمد سعيد العريان في تصدير الجزء الأول من " وحي القلم / ص 7 " { أديب عسر الهضم عند طائفة من قراء العربية ، وهو عند كثير من هذه الطائفة متكلف لا يصدر عن طبع ، وعند بعضهم غامض معمّى لا تخلص إليه النفس ، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب وذوي الذوق البياني الخالص ، أديب الأمة العربية المسلمة يعبر بلسانها وينطق عن ذات نفسها } .
ولعل ما يستفيده القارئ من هذا الكتاب التحفة أسلوبه وبيانه ، وطرائق عرضه للموضوعات المختلفة التي يتناولها بسطا وتطويلا ، اختصارا وإيجازا ، وكنت كلما أعدت قراءة هذا الكتاب بمقالاته وفصوله ازددت به تعلقا ، وبالنظر فيه ولعا ، ، فقد كان صانعا فنيا ، كما تحدث في صدر الكتاب عن خصائص الصناعة الفنية التي " تستدرك النقص فـتـتمّه، وتـتناول السر فـتعلنه ، وتلمس المقيد فـتطلقه ، وتأخذ المطلق فـتحده ، وتكشف الجمال فـتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى ، وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلا يعيش به " ج1/ 12 .
وعلى الرغم من مقالته " ورقة ورد " في الجزء الأول ، ص 108 من وحي القلم ، التي استهلها بقوله :{ وضعنا كتابنا أوراق الورد في نوع من الترسل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كـتبناه بها ، في المعاني التي أفردناه لها ، وهو رسائل غرامية تطارحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة _ على ما قدمناه في مقدمة الكتاب _} فإنني لم أنـتبه إلى حرقة العاشق في أسلوبه الملتهب ، وكلماته النارية في هذا المقال، معتقدة أن كـتابته نسيج مما يكتبه هذا الفقيه تعبيرا عن حادثة أو واقعة أراد بثها في أوساط القراء وعمومهم .
غير أن اطلاعي مؤخرا على كتابه " أوراق الورد " أكد لي عكس ما كنت أتصور، وبدّدتْ فاتحة الكـتاب (ص 5،) كل التصورات التي كنت أحفظها في الذاكرة للرافعي ، مما أكد لي أن للحب سلطانا قويا ، وأنه أقدر على امتلاك المشاعر من أي سلطان آخر ،يقول الرافعي: " إنه ليس معي إلا ظلالها ، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي … تـتكلم ساكنة وأردّ عليها بسكوتي ، صمتٌ ضائع كالعبث ، ولكن له في القلبـين عمل كلام طويل ".وعن هذه الأوراق ، يقول محمد سعيد العريان ص 8 :" طائفة من الخواطر المنـثورة في فلسفة الجمال والحب ، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته ، ويثبت تاريخا من تاريخه في فـترة العمر ، ولم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخا ولا من بعد " .
ويضيف العريان :" كتاب يصور نفسه وخواطره في الحب ، ثم يصور فنه وبيانه في لغة الحب ، ثم لا يصور شيئا من بعد مما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته إلا أن يتدبر قارئه ويستأني ليستخلص معنى من معني،على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء"( ص 9 )، ويتابع العريان تقديمه للكتاب قائلا :" من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئا ، ومن أراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئا، ومن أراده تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئا ، ومن أراده نموذجا من نماذج الرسائل يحتذيه في رسائله من يحب لم يجد شيئا،ومن أراده ( قصة قلب ) ينبض بمعانيه على حاليه في الرضى والغضب،ويتحدث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان وجد كل شيء".(ص 10) ولعل أرق ما قدم به الرافعي لكتابه قوله ، ( ص 27 ) :" إنك لا تجد في هذه الرسائل معاني النساء متمثلة في امرأة تتصّبى رجلا ، ولكن معاني الحب والجمال متألهة في إنسانية تستوحى من إنسانية أو توحي لها " .
ولعل الحب في أسمى معانيه صفة سامية ، يجتمع فيه الطهر والفضيلة ، والصفاء والصدق،غير أنه كما ذكر الرافعي " متى نزل إلى الدهماء والأوشاب وهذا الهمج الهامج في إنسانية الحياة ، نحلوه اسما من طباعهم لا من طباعه ، فأصبح اسمه فسقا ! … "( ص 27 ).
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|