الطريق إليها
[frame="3 98"]
[align=justify]
جلس "وليد" في ركن من الزنزانة، ذات الأبواب الحديدية الصدئة، والجدران المتآكلة، تكاد تطبق على أنفاسه، يفكر في أحداث ذلك اليوم وكأنها وقعت منذ أجيال.
كانوا قد تركوا له قلماً وأوراقاً، كي يكتب فيها تاريخ حياته، وعلاقاته وصداقاته، والمنظمة التي ينتمي إليها، وكل ما يعرف عنها .. ! لكنه بدلاً من ذلك راح يكتب قصة تلك الأحداث، ربما تحديّاً .. ربما لأنه أحب أن يسجل ما حدث، للحقيقة أو للتاريخ، حتى لو لم يكن واثقاً من وصوله إلى حيث يبغي أن يصل.
كانت الريح تهب رخاء، وأمواج البحر تترقرق كأحلام فتاة نقية. وقرص الشمس يقترب من صفحة الماء عند الأفق، يتلاشى شيئاً فشيئاً، كما رأيناه آلاف المرات من قبل، خلف غيوم بنفسجية قاتمة، إلى أن يختفي أخيراً، فتتحول المياه إلى دكنة معتمة، وتسود الكون كآبة تغمر النفس بحزن شجي، يُشعِر المرء بالحنين إلى غامض مجهول لا يعرف كنهه، بيد أنه يود لو يعانقه .. أن يحتضنه .. أن يذهب بعيداً معه حتى أعماق الكون ..
صوت الترنزستور يردد متموجاً، علّواً وانخفاضاً أناشيد .. أخبار .. أغنيات .. أحاديث عن الصحة والحياة .. عن فضيلة الصيام .. المرأة والرشاقة .. الرياضة .. ! كرة القدم .. كأس العالم .. !
تتكاثف الظلمة. تسقط من السماء رقائق مخملية. تنبع من جوف المحيط. والنجوم القليلة التي استطاعت أن تطل من ثغرات ضيقة بين السحب لم تلبث أن انطفأت بعد قليل.
خامرنا إحساس بأننا قد غدونا ذرات ضائعة في غياهب الكون كحبيبات الرمال في صحراء مترامية الأطرف على المدى اللانهائي، أو كنقاط الماء في بحر لجي بغير شطآن.
بدأ الموج يتعالى ويصطخب، بغتة وبغير مقدمات، لكأنما استنفره أحد على حين غرة، وهدير صاخب يضيع في خضمه صوت المذياع. الريح القادمة من الشمال تلفح وجوهنا، وتزداد عنفاً في كل لحظة. نحاول اتقاءها، دونما جدوى في ذلك العراء المطلق، تحت رحمة الطبيعة الهائجة والمفاجآت القادمة من غياهب المجهول.
ساد الصمت فترة غير قصيرة. ما من أحد يتفوه بكلمة. لا يسمع سوى صوت القارب يمخر العباب وهدير الأمواج المتصارعة كما البشر فوق اليابسة. ونشيد ارتطامها وهي تتكسر على جوانب القارب.
قطع الصمت صوت كادت نبراته تضيع وسط الهدير:
_ هذه عاصفة هوجاء يا شباب ..
ردّ صوت آخر، في هدوء موحش، في صيغة تساؤل:
_ أهي العاصفة الأولى في أيامنا .. ؟
قال آخر في سخرية تتشح بحزن دفين:
_ لكنها ربما تكون الأخيرة يا صديقي ..
جاء صوت رقيق من الطرف الآخر للقارب .. إنه صوتها:
_ بل هذا فأل حسن يا رفاق .. !
وإن صمت ينم عن إعجاب ومحبة، أردفت دلال بصوت لا تعوزه الحماسة:
_ لأن هذا قد يعني أن ما سنقوم به الليلة سوف يثير عاصفة، بل إعصاراً تهتز له الدنيا بأسرها. تلك الدنيا التي نسيتنا تماماً .. !
ارتفع صوت رفيقنا صالح بلهجة ساخرة:
_ أتراها عاصفة استحسان أم استهجان ؟
انبرى علي، وهو من قطر عربي شقيق، كان قد انضم إلينا منذ شهور:
استحسان لدى بعضنا، وسخط لدى آخرين، والصمت لدى فريق ثالث، والسفسطة الفارغة التي لا تعني شيئاً لدى فريق رابع.. وهكذا .. تتعدد ردود الفعل تعدد الأصدقاء والأعداء..
قال نبيل، ابن السابعة عشرة:
_ لا جدوى لشيء على ما يبدو في هذه الأيام الكالحة.
جاء صوت دلال، مرة أخرى:
_ ليست ردود الفعل هي أهم ما يعنينا يا رفاق. إن الذي يعنينا هو ما سنحققه على أرض الواقع هناك .. ما ستكتبه دماؤنا من سطور فوق أرضنا.
تعالى الموج حتى أوشك أن يغمرنا في بعض اللحظات. أخذ القارب يرتفع مع الموجة الصاعدة، ثم يهبط، دفعة واحدة مع الموجة الهابطة، فحسب في كل مرة أنها الأخيرة، إلى أعماق بلا قرار.
لم يساور الخوف أحداً منا، لم يكن خافياً علينا أنها ربما تكون الرحلة الأخير، على الأرجح، لا أزعم أن أيّاً منا كان سعيداً لأنه قد يلقى حتفه خلال ساعات، فالموت، نموت ونحيا ألف مرة لكي نقوم بألف دور من أجلها. لم يكن هدفاًَ لنا، وما نحن بهواة انتحار. بل إنَّا لنود لو أما والمرء لا يموت إلا مرة واحدة، وإذ كان لا بد من ذلك، فليكن. ها هي ذي أمنيتي الأزلية تتحقق أخيراً، فأرى أرضي رأي العين .. أمشي فوقها .. يغمرني هواؤها.. بردها .. عطرها .. أسهم بما يفضي إلى تحريرها في يوم قريب أو بعيد ما برح في بطن الغيب .. لن يضيع عبثاً ما نصنع.. سننتقم من الغزاة .. نقض مضجعهم .. نثبت أنها لن تكون لهم أبداً .. أحاديث أبي في أمسيات الشتاء، في دارنا .. "حبة التين، يا بني، كانت في حجم حبة البرتقال .. ". كان يعتز بذلك، لا أدري لماذا ..
"بيادر الحصاد عند مشارف القرية، بين القرية والحقول، تفعم الجو برائحة السنابل الجافة والقش والقمح .. الأعراس التي كانت تقام فيها عند نهاية موسم الحصاد، وبداية موسم قطف البرتقال .."
صور طالما ألهبت خيالي .. هيمنت على روحي … شيء واحد كنت أخشاه، أن أعيش أو أن أموت دون أن أراها.
الرفاق ملتصقون، في هذه النقطة من الكون، في وحدة فريدة مخلفين وراءهم صحارى التيه الشاسعة _ انهار الجدل والسفسطة.. يتذكرون .. يحلمون .. ربما تشابهت القصص .. ربما اختلفت الحكايا .. لكنه الحلم الواحد. حساباتهم المرصعة بالحكمة .. قواميسهم المبتكرة لا تعنينا .. قاربنا هذا هو ما نملك، نحاول أن نصنع شيئاً .. نحطم تلك النظريات العديدة الأسماء .. أمننا نحن لا يخطر ببال أحد .. يتذكرون موتنا .. ويجمعون عليه .. أحس الأمن حيث نحن الآن أكثر من أي مكان آخر حتى ونحن على ضفاف الموت .. ذا هو السلام يرفرف فوق قاربنا في سكينة سرمدية، تأتلق في ومضة البرق هذه، في هدير الرعد، في اصطخاب الموج .. سيمفونية أزلية.. لن أعود إلى ذلك العالم _ المستنقع مرة أخرى .. عالم الحساب والمحاسبة .. على الفكرة في تلافيف الدماغ .. على المعتقد في حنايا القلب .. على الكلمة .. على الخاطرة السانحة .. هذه اللحظات أيها الرفاق، هي التي تصنع تاريخاً مجيداً لشعب صغير.. لأمة عظيمة .. هي التي تحدد معنى الحضارة .. وتلغي جدران الوهم، وعناكب المبادرات والمناورات ..
لست بواعظ أحداً .. ولكن كيف لمثلي أن يفكر بغير هذه الطريقة .. ؟ ألم يقل لنا هؤلاء أن الفكر انعكاس للواقع .. واقعي بين لحظات اندماج الحياة بالموت .. ماذا يمكن أن يكون قاموسي، وقد عشت المأساة دقيقة بدقيقة .. لقد بات الألم عنصراً إضافياً في تركيب دمي .. !
أنستني العاصفة مكاني .. أو لعلي أنا الذي نسيتها في غمار أحلامي .. صمت الرفاق أيقظني، أم صوت دلال في منتصف جملة لها تقول بفرح غامر:
نحن نقترب من الشاطئ .. انظروا .. تلك الأنوار .. إنها في انتظارنا حتى قبل أن نخلق .. !
مددت بصري بعيداً .. عبر الظلام .. شهقات بكاء خافت .. شجن يعتصر فؤادي تنوء بحمله الأمواج .. أتراها أنوار حيفا أم أنوار قريتنا.. أيّها هو الذي يضيء باحة دارنا .. أيّها ينشر الضياء حول الزيتونة العتيقة، فوق شجرة التين .. قلبي يذوب حنيناً إليها .. وإذا لم تكن هي .. أنى لي أن أعرف الحقيقة .. ؟ وماذا يهمّ.. ؟
هي قريتي .. أرضي أيا تكون.. لست مشرداً هنا .. لست أفّاقاً بغير وطن.. ضائعاً مضيَّعاً رغم أنفي .. لسوف تنجح في اختراق جدار أمنهم المصطنع .. ربما نمتطي (أوتوبيساً) متجهاً إلى حيفا.. آه يا حيفا .. إلى يافا .. هل أراها .. أمشي في شوارعها .. ؟ أدخل منزلاً من منازلها القديمة حيث كان الأهل يقيمون قبل الرحيل ؟، يصبحون ويمسون .. تنتظر الأم عودة ابنها من المدرسة .. تعد طعام الغداء لزوجها العائد من العمل .. تسكب صحناً لجارتها …
جريمةٌ ذلك في نظرهم .. سوف يستنفروا جيشهم لمنعي من ذلك.. وحتى حين يقتلوننا سوف يقول العالم المتحضر اننا إرهابيون ومعتدون ..نستحق ذلك الموت .. ويستنكرون صنيعنا، كائناً ما كان، بعصبية متئدة .. بأدب جم ..!
يا أصدقائي .. هذا العالم لماذا ناسف على أي شيء يصيبه .. ما الذي بقي لنا فيه .. ما علينا لو يذهب عالمهم هذا إلى الجحيم..؟
أرمقها .. عند طرف القارب، مرتكزة بكلتا يديها على حافته. أخالها عروساً في يوم زفافها .. ملاكاً قادماً من عالم آخر .. لن تلبث طويلاً .. تتم الآن _ ربما _ الدقائق الأخيرة من ربيعها السابع عشر .. وتمضي عما قليل .. كيلا تلوث براءتها حضارة عالم مزيف .. تحتضن رشاشها كذلك الطفل الذي حلمت يوماً أن تضمه إلى صدرها. لن يكون عرسها كأعراس أترابها .. عرسها يسهم في تغيير مجرى تاريخ ما .. تحلم .. ما برحت تحلم أن تهز ضمير العالم الذي طال رقاده .. تأمل أن يصحو أخيراً على صرخة دمها .. منذ الآن باتت تحمل اسماً آخر .. سمّوها ما شئتم فإنها لا تأبه للتسميات .. خيوط الدم تطرز ثوبها .. عطرها من تراب الأرض ونداها .. وشاحها .. شعرها المخضب يتناثر حول جيدها .. تستلقي في براءة ملاك .. صدرها يحتضن الثرى.. يرضع الأرض التي توحدت مع ذراتها .. شفتاها تقبلانها في ثمالة حتى الموت.
موجة عاتية تقذف بالقارب. يرتطم هذا باليابسة. الريح ما برحت تعصف .. هدير الموج يصخب عالياً. اختفت النجوم وراء السحب .. البرق يمسح الأفق .. الرعد يقصف كشلال هادر ..
نشوة اللقاء مع الأرض توشك أن تصيبنا بدوار .. تنهمر الدموع من أعيننا. نلتقي أمنا أخيراً …
نغرق في حلم يختزل الكون. نبحث عن الطريق في وجوه بعضنا بعضاً ..
قالت آخر كلماتها، والبسمة المفعمة بالحزن العتيق تقطر من شفتيها. كان صوتها أنشودة فرح .. هديل حمامة إذ هي تقول:
_ ها نحن أخيراً فوق أرضنا يا رفاق.
لم يكن واجباً أن ننتظر حتى تستيقظ الملايين .. ها قد بلغنا الشاطئ يا أخوتي، في أمان لم نشعر بمثله من قبل .. في طريقنا إلى يافا .. !
_ انحنينا نقبل الأرض ساجدين ..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|