رد: المزج الإيقاعي / د . رجاء بنحيدا
هي شروط ترتبط بالتمازج الإيقاعي على مستوى الأسطر وهذا ما أشار إليه الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه الشعر العربي المعاصر ، وسأورد كمثال أول قصيدة (( جيكور أمي )) لبدر شاكر السياب .. التي اختلف حولها النقاد كما حكم عليها بعض المهتمين والدارسين بالفشل لأنها تجربة لم تتكرر .. (( عروضيا ))
بل هي تجربة تستحق الوقوف ودراستها على اعتبارها تجربة عروضية جمعت تنويعا إيقاعيا ..مما خلق سمفونية متنوعة التفعيلات ..منسجمة دون تنافر ولانشاز ..
تلك أمي، وإن أجئها كسيحا (( الخفيف ))
لاثماً أزهارها والماء فيها، والترابا(( الرمل ))
ونافضاً، بمقلتي، أعشاشها والغابا(( الرجز ))
تلك أطيار الغد الزرقاء والغبراء يعبرن السطوحا(( الرمل ))
أو ينشِّرن في بويب الجناحين: كزهرِ يُفتِّح الأفوافا(( الخفيف ))
هو تداخل وتمازج جعل الدكتور عز الدين إسماعيل .. يصدر حكما إيقاعيا جدواه (( فأنت إذا ضممت كل بيتين لكي تزنهما موسيقيا لكانا جميعا من فاعلاتن ... ومن فاعلاتن وحدها ))
وهي مقاربة لا تبتعد عن محاولة إبراهيم أنيس في إرجاع جميع تفعيلات الشعر العربي إلى تفعيلة الرمل (( فاعلاتن )) إذ رأى أنه يمكن من خلالها الاهتداء إلى بقية التفعيلات الأخرى ، وذلك بعد إجراء بعض التغييرات البسيطة في واحد أو أكثر من مقاطعها القصيرة والمتوسطة والطويلة ، وذلك عبر ستة من التغييرات الضرورية لتحويل هذه التفعيلة إلى أخت لها وهي : التقصير ، والحذف ، والتأخير ، والتقديم ، والإلحاق ، والسبق ))
كما نسجل تفعيلة بحر الرجز (( مستفعلن )) في بعض أسطر ومقاطع القصيدة ،ممزوجة مع فاعلاتن .. (( البحر الخفيف )) أو صافية ..(( الرجز )) ..
ولاجرم فنظام التفعيلة هو نظام يمتاز بالمرونة والطواعية ، خلق إيقاعات مختلفة وسمفونيات متنوعة من حيث الطول والقصر ، ومن حيث البساطة والاسترسال (( البحور الصافية )) فأضحى الفن الشعري الحديث فنا ولودا لأشكال شعرية لا حد لها ولا نهاية ..
وقد تمكن الشاعر بدر شاكر السياب ببراعة فنية وتمكن شعري أن يمزج بين التفعيلتين، هو مزج إيقاعي ينسجم مع حالته وفحوى القصيدة ، ففي القصيدة اشتياق وقلق .. حنين وضياع ..غربة.. كآبة وألم... وصراع بين الحنين للزمن الجميل والمرض الشديد ..
آه لو أن السنين الخضر عادت ... يوم كنا
لم نزل بعد فتيين
فجاء التنوع الإيقاعي منسجما مع حالة الشاعر ، مناسبا لدلالات البحور المستعملة (( كالرجز مثلا )) هو بحر (( هو غير معقد ، وقلما يقع فيه الانكسار بل ينعدم بسبب أنه يحد من الانفعالات النفسية، وحركات الجسم المصاحبة له ، ما يشبه الضوابط الإيقاعية التي تحول دون النشاز النغمي )) هو بحر يسهل في السمع ويقع في النفس ..شأنه شأن بحر الرمل على حد تعبير الدكتور عبد الله الطيب (( هو ذاك الضرب العاطفي الحزين في غير ما كآبة ومن غير ما وجع - ولا فجيعة )).
أطلب الماء فتأتيني من الفخّار جرّه(( الرمل))
تنضح الظلَّ البرودَ الحلوَ... قطره(( الرمل))
بعد قطره (( الرمل))
آه لو أنّ السنين الخضر عادت، يوم كنّا(( الرجز))
لم نزل بعدُ فتيّين لقبّلتُ ثلاثاً أو رباعا(( الرمل ))
فالمزج الإيقاعي في قصيدة بدر شاكر السياب هو امتزاج كذلك في الرؤية في الإحساس في التشتت ..
هو تجربة التمرد على الإيقاع العروضي والتجديد لا تجربة الفشل والموت ..
تجربة لن تتكرر إلا إذا تكرر نفس الإحساس ... من نفس الذات الشاعرة المتألمة ....وتكررت نفس التراكمات .
تجربة يبررها الموقف الشعوري ..وحالة الصراع بين الاستسلام وحب البقاء .
-ولي عودة مع قصيدة أخرى إن شاء الله -
|