دخوله إلى المنزل في ذلك اليوم بث في أرجائه علامات استفهام كبيرة ، توزعت بين غرف الأولاد وغرفة النوم وفي الصالون أيضا . هذه العلامات ولّدت كلمات كثيرة لم تُقل أمام المعني وإنما قيلت همسات بين أطراف لو مُثلت بمخطط ديكارتي لرسمت شبكة متداخلة لأن الجميع أدلى بدلوه ومع جميع الأفراد...
كان دخوله يُنتظر بفارغ الصبر لأنه يأتي معه بجميل الكلام ، وحلو العبارات ، لكل فرد نصيبه منها ، الكثير منها يقال علنا وبعضها يقال سرا ، هذا البعض الأخير هو نصيب ربة البيت...
لم ينبس بغير كلمات قليلة لا بد منها ، بعضها إجابات عن أسئلة من قبيل : هل تشرب شيئا؟ ما بك؟ كيف كان يومك؟
شاهد برنامجه المفضل بعينين زائغتين ، ولم يحس للشاي طعما ، لقد تناوله بعد إلحاح كبير من طرف الزوجة.
مرت تلك الليلة جافة ، لم تُرو لا بابتسامات ولا مداعبات ، فعاش الجميع نوعا جديدا من العطش وناموا نصف نوم لنصف ليلة ، أما هو فلا هذا ولا ذاك ، لم يجرؤ النوم على الاقتراب منه ولو لثانية ، فكأنما جسمه صار رافضا لكل ما يريحه ، بعد ما ضاقت نفسه ، وصار داخله كمرجل يغلي ، ورأسه يعيش ضجيجا لا قبل له به، كأنما كل حركة داخله كانت تصدر صوتا مزعجا ، حتى حركة الدماء...ومضى الليل.
لم يستقبل صباحه بنشاط كعادته ، بقي ملفوفا بغطائه كأنما يريد أن يحمي نفسه من هذا العالم ، هذا العالم الذي صفعه على حين غرة وبعد ما خادعه ببعض الحيل الدفاعية والهجومية أحيانا لم يستطع هذه المرة الإفلات من قبضته القاسية.
سياج من الأفكار السوداء أحاط به ، فحبسه في تلك البقعة لا يستطيع مغادرتها . بصوت متردد خاطبته زوجته: الساعة السابعة والنصف. لم يجبها ، ولم تتجرأ هي على إعادة الجملة أو تغييرها بأخرى تضيف لها كلمات عاطفية علها تذيب الجليد الذي يزداد سمكه في كل لحظة.
احتار الجميع لهذا التغير المفاجئ وغير المعتاد من هذا الرجل الذي تعودوا عليه وهو يجابه كل ما يلاقيه من مشاكل بقوة غير معهودة تجعله لا يظهر أي قلق بسببها بل لا يتخلى عن الابتسامة مما يطمئن الآخرين... لم يترك عيناه تبوحان بشيء مما يحسه ، جاهد نفسه كثيرا على ذلك ، وإن كان يؤلمه أن يرى الحزن في وجوه أحبائه الذين قصر حياته على إسعادهم ، فكم من ليلة بات ساهرا من أجل هذا ، وكم من يوم ضحى فيه بسويعة راحة من أجل ذاك ، وهذا ما يزيده ألما الآن ، لأنه على يقين بأن هذا ما يزيد من ألمهم ، فسندهم الوحيد قد اعتزل العالم ، وصنع لنفسه عالما صغيرا لم يدعهم يعرفون عنه شيئا...
منظر الشاب – في ذلك اليوم الذي عاد فيه متغيرا إلى المنزل - وهو يصيح صياحا هستيريا كاد يجعله يسقط مغشيا عليه ، رائحة اللحم المحترق المختلطة مع رائحة الملابس تسد أنفه ، والدخان الأسود المتصاعد يغطي على عقله فلا وضوح للأفكار ...رغم ذلك اندفع مع بعض من اندفع من أجل إخماد النار لكنهم لم يستطيعوا إنقاذه ...
في المنزل كانت تتوالى الصور و الأفكار المضطربة في رأسه ، فمرة يرى الشاب وهو يجتاز المسابقة وكيف كانت عيناه تتوسلان الحضور ، فتؤرقه النظرة التي خصه بها ، فكأنه يخبره بأنه هو من يستطيع أن يقرر له مصيره في تلك اللحظة ، ثم كيف كان وجهه شاحبا ، يخفي كمّا كبيرا من الهموم ، ومرة يرى صورة ارتكاب العمل الشنيع من طرف الشاب.. ومرة يفكر في أهله وما هم فاعلون الآن ، والأمرّ من كل هذا هو إحساسه بالذنب...
تمت في 21/01/2016 الساعة 22:49
عمـــار رمـــــــاش