طول الطريق لم تفتأ بعض الأفكار المقلقة تدور في رأسه ، صار كتلميذ يقصد المدرسة للمرَّة الأولى . محبوسا داخل أحبولة الحيرة الّتي وقع فيها كان يحاول جهده أن يرسم صورة متفائلة للآتي لكن خياله يخونه ويسرع به إلى ذكريات أليمة كَان التَّعصُّب الأعمى سببا لها ، متأبِّيا مطاوعته فيما يصبو إليه من أجل التخفيف من شدَّة القَلق . القلق الذي تترجمه يده التي يمرِّرها بحركَة مضطربة على لحيته المشذَّبة من حين لآخر. أبناؤه يملؤون السيارة جلبة ، ينتظرون الوصول بفرح لاكتشاف الجديد . أما زوجته فقد غَشَت وجهها سحابة مكَدِّرة لما لمست في زوجها من صمت متواصل وشرود أحيانا رُغْم أَن الموقف موقف فرحة و سرور في الحقيقة ، لم تسأله لأنها تعرف الجواب في مثْل هذه الحالات والّذي سيكون : "لا شيء". أما هو فلا زالت الأَفكار المقلقة تركض داخل جمجمته فتحدث فوضى تجعله لا يجد الكَلمات المناسبة إذا أراد أن يتكلّم. تتجاوزه سيارة تقل عائلة فيكَاد يجزم أنها تتجه إلى هناك ، إلى مقصده ، إلى بداية أخرى لا يدري كيف ستكون ؟ وكيف ستنتهي؟ ، ويتجاوز سيارة يرى داخلها عائلة فيضيفها إلى عدد العائلات الذاهبة إلى هناك ... بعدما كبرت عائلته ضاقت عليهم الشقة فراح يبحث عن أخرى أوسع ليجد ضالته في حي بني حديثا ، ولأن العبارة القائلة :" الجار قبل الدار " دخلت وعيه صغيرا والتصقت بجدران الذاكرة فهاهو يرددها ويضيف :" خاصة في ديار الغربة" فهذه المدينة تضم في أحشائها أجناسا وديانات ومذاهب كثيرة ومتنوعة . على مشارف الحي لاحت مناظر مبهجة فخف قلقه . أوقف السيارة في الموقف ، التفت إلى الخلف فوقعت عيناه على باقات الورد فتساءل: ترى هل هي فكرة مجدية؟ هل ستسر جيراني المستقبليين؟ ثم اتجهت عيناه إلى عائلة تقصد العمارة ، رب العائلة يعتمر قلنسوة ، "هذا أحد جيراني بلا شك" قال في داخله، فقد علم قبل القدوم أنه بقيت في العمارة – فقط - ثلاث شقق متجاورة شاغرة إحداها شقته ، ألقى نظرة خاطفة على اللوحة الصغيرة التي كتبت عليها آية الكرسي بخط عربي جميل قبل أن يغادر السيارة و يتجه مع عائلته نحو مدخل العمارة ، سمع صوت محرك سيارة قادمة ، بعد لحظة قصيرة توقف المحرك . سمع صوت أبواب تغلق ، قاوم رأسه الذي يريد أن يستدير على غير عادته بقوة ، هو لا يعرف الفضول كيف يكون ، لكن رغبته في رؤية القادم الذي قد يكون جاره الآخر ناصرت رأسه فنظر على مضض ليلفت انتباهه صليب ذهبي يلمع على صدر الرجل الذي يرافق عائلته. " وهذا جاري الثاني" ، حدث نفسه.
عندما وصل إلى باب شقته كان الجار الأول قد دخل شقته وأغلق الباب . وعندما أغلق هو الباب لم يكن الجار الثاني قد وصل إلى شقته . بعد ساعة حمل باقتي ورد وخرج ، وقبل أن يصل إلى باب صاحب القلنسوة لمح الرجل الذي يتدلى الصليب على صدره قادما يحمل باقتي ورد فجحظت عيناهما ثم ابتسما ، وفي هذه اللحظة سمعا صوت باب يفتح ولم يكن سوى جارهما الذي جاء بدوره يحمل باقتي ورد ...ابتسم الجميع وتبادلوا التهاني وأتوا بمزهرية ووضعوا فيها تلك الورود البيضاء ووضعت في المدخل.
عمـــــا رمــــــاش