السباق....
[align=justify]كان الوقت يَشْتَدُّ انحداراً، وكنتُ أرى الدقائقَ القادمة أكثرَ وعورةً، بينما كان الليلُ يضحك باستهزاء....
- إلى أين أيها الصديق؟
تَوَقَّفَ.. أدارَ وجهَه نحوي.. ابتسمَ.. تقدَّم مني، ثم صافحني بحرارة.. ثم تعانقنا، وكلُّ واحد منا يُقَبِّلُ الآخرَ بشوق....
- مضى زمنٌ طويل لم أَرَكَ فيه..
- إنَّها الحياة، كأننا فيها جيادٌ مُضطهَدَة عليها الجريّ باستمرار دون أيِّ تفكير أو راحة....
- ولكن، أليس هناك وقت لِنتذكَّرَ فيه بعضنا؟
- نعم، ولكن بشرط ألَّا تُوقِفَنا الذكرياتُ عن الجري!!
وابتسمتُ له.. إنَّه كما عرفتُه دائماً، يركضُ نحو هدف غامض... يركضُ ولا يريدُ أنْ يصلَ أبداً، لأنَّه على يقين بأنَّ الوصول إلى الهدف يعني النهاية، وهو لا يريد أن ينتهي... أمَّا أنا؟
- ما بك؟ هل أنتَ بخير؟
- نعم..
- إذاً فيمَ شرودك؟
- أُفَكِّرُ فيكَ، وأحسدكَ على جَرْيِكَ الدائم الذي تُسَمِّيه اضطهاداً، بل أَنصحُكَ بأنْ لا تصلَ إلى النهاية أبداً، وإِنْ استطعتَ أن تموتَ وأنتَ تجري، فافعلْ...!!!
- ماذا؟!!! ولمَ؟!!!
- لأنَّني تَوَقَّفْتُ عن الركض منذ زمن طويل، وتَكَلَّسْتُ في نقطة النهاية..
- ماذا؟ ولماذا؟
- لأنَّ جهلي أَوصَلَني إلى النهاية قبل الأوان!!
- لم أَفهمْ!!! أَهوَ لغزٌ جديد من ألغازك التي لا تَكُفّ عن اللهو بإطلاقها؟
- لا، بل هي الحقيقة يا صاحبي...
- وكيف؟
- ربَّما من سوء حظي أنَّ أمي وَلَدَتْنِي قبل نهاية الشوط بقليل... فما إِنْ أبصرتُ جياداً تركض مسرعة، حتى سارعتُ أُسابقها، دون أن أعرفَ إلى أين تتجه... وفجأةْ توقَّفَتْ الجياد المسرعة عن الجري، فتَوَقَّفْتُ معها.. ثم فُوجِئْتُ بالمسؤول عن السباق يُعلن أنَّني الفائز الأول عليها جميعاً... ولكنَّ فرحي بالفوز لم يستمرْ سوى ثوانٍ قليلة...
- ولماذا؟
- لأنَّ المسؤول نفسه أعلمني، وهو يمدُّ إليَّ يده مُهَنِّئاً بالفوز، أنَّ عليَّ تهيئة نفسي للموت، حسب قانون السباق الذي يقضي بقتل الفائز الأول..
- ماذا؟!!!
- نعم... ولهذا، ففي لحظةٍ واحدة، اختلطَ ضحكي ببكائي، وحيرتي بخوفي، وذكائي بجنوني، ثم صارت هذه المتناقضات جميعا ًكُلّاً واحداً يعبثُ بنفسـي وكياني، فلم أدرِ ما أفعل، ولا ماذا أقول.. فقط رحتُ أُنصتُ لذلك المسؤول وهو يُخاطب، بفرحٍ، جمهوراً لم أَرَهُ أبداً:
- وهكذا أيها السيدات والسادة خرجَ من السباق فائزٌ آخر.. جوادٌ أصيلٌ آخر... أمَّا الجياد التي خَسِرَتْ في هذا الشوط، فستعيدُ السباقَ من جديد.. هنيئاً لفائزِنا الجديد وسامَ خروجه من حَلَبَةِ الحياة إلى طمأنينة الموت... طمأنينة الراحة الأبدية..!!
قال هذا، فَدَوَّى تصفيقٌ حاد، اختلط بأصوات ضوضاء مبهمة... ووسْطَ أصوات التصفيق والتهليل الشـديدين، أطلقوا عليَّ نار الموت إهمالاً وتَكَلُّساً في نقطة النهاية... عندها فقط أدركتُ لماذا سَمَحَتْ ليَّ الجياد التي جارَيْتُها بأنْ أسبقَها؛ فقد كانت جميعاً على عِلْمٍ بنهاية الفائز الأول، ولهذا شَرَّفوني بمرتبته...!!!
- ألا تظنُّ أنَّكَ تهذي؟
- لا... ولكنْ أنصحُكَ يا صديقي الذي أحبُّه كثيراً، بأنْ لا تحاول، في هذا الزمن التَّعِس، أنْ تكونَ الأولَ في سباقكَ مع الآخرين، لأنَّ قانونَ السباق السائد في هذا الزمن، يقضي بقتل الجياد الفائزة!!
- أرى أنَّكَ متشائمٌ ويائس، ولذلك اسمحْ لي بتَرْكِكَ تَلُوكُ يأسَكَ وحدك، واتركني أُكملْ طريقي إلى غايتي..
- كما تريد.. ولكن أرجو أنْ تَتَذَكَّرَني حين تَقْبَعُ في نهاية مَطَافِكَ وحيداً، وقد كُوفِئْتَ على فوزك بالقتل إهمالاً...
مدَّ يده إليَّ مصافحاً، ومضى دون أنْ ينبسَ ببنت شفة، فَنَسيتُه حتى فزت، وجلستُ أمارسُ العملَ الوحيد الذي سمحوا لي بممارسته، منذ أن فزت، وهو طقطقة عظام أصابع يديَّ وقدميّ، بانتظار فرحي الأكبر، فرحي الحقيقي، موتي الحقيقي...!!!!
دمشق في 25/6/1997
من مجموعتي القصصية (ميت في إجازة) الصادرة عن دار المسبار بدمشق عام 2004
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|