(ناكش أنفه) ، من أجمل القصص التي عمّرت أكثر من ستّ سنوات منذ تاريخ عرضها في ـ 11 ـ 12 ـ 2010، ولم تحظ ولو بمرور واحد..لا أدري إذا كان هناك من قرأها فتملّكه الاشمئزاز والتقزّز مما استعمله القاص من عبارات ، أو لسبب ما غير مبرَّر تركها حبيسة أوراق الدكتور في ركنه البارد من نور الأدب !؟ (ناكش أنفه) قصّة غاية في السخرية والجدّية والواقعية والرمزية والمصارحة والتعريض في آن !! فالنّاص اعتاد استفزاز المتلقي بطريقة أو بأخرى..إمّا بصدمه ، وإما بوخزه ، وإما بإحراجه ! وفي قصته هاته وظّف كلّ تلك التقنيات دفعة واحدة..زجّ بنا في القاعة دون سابق إنذار! وصف حالته (دخلتُ المحاضرة مزكوما)..وكما في الأفلام الكلاسيكية الخالدة ركّز على أصابع اليد والأنف..فاليد ترمز إلى أشياء كثيرة ..إلى العمل بشتى أنواعه ودرجات نفعه أو ضرره ! كما تصلح الأكف للتصفيق مثلا..وكلّما تقدّمنا في المحاضرة ، أعاد التركيز على فم الخطيب وما يفرزه من رذاذ ، وما يخرج منه من كلام حماسي ، يثير في صاحبنا لذّة نكش أنفه ، وفي الحاضرين إلهاب الأكف بالتصفيق!! وتتكرّر هذه المواقف والصور، فيتكرّر معها النكش والتصفيق ..وفي كلّ مرّة يضيف الكاتب أشياء بسيطة للمشهد المتكرّر ، فيزيده حدّة واستفزازا..حيث أن خطاب المحاضر كان معبّرا عن حالة مسؤولينا وكثير من نخبنا.. فمن حضروا المحاضرة ،ومن خلال مظهرهم ،يمثّلون دون شك النخب والأثرياء والانتهازيين !! قلتُ ، جاء الخطاب صورة طبق الأصل لما نسمعه اليوم ، وهذا بُعد نظر الكاتب ونبوءة صادقة!! فتاعلوا معي لعرض مقاطع الخطاب الحماسي:
[frame="1 98"]
المقطع الأول:
(لقد بذلت أمتنا كل غالٍ ورخيص من أجل استرداد حريتها... مواكب من الشهداء تتلوها مواكب، وقوافل من الأسرى والمعتقلين تتلوها قوافل، عذابات وسجون،فقر وحرمان، دم ودموع وابتسامات، و....).
[/frame]
استهل خطابه بدغدغة العواطف ، بالعزف على الوتر الحساس ، وتلك لعمري طبيعة خطبائنا..
[frame="1 98"]
المقطع الثاني:
(وأقسم لكم أيها السادة الأفاضل، أقسم لكم أيها الشرفاء، أقسم لكم أن المستقبل لنا.. شرطَ أن نتخلى عن لغة العنف وممارساته، ونتوجه بخطوات سلمية واثقة نحو أعدائنا، لندحرهم بالمنطق والمحبة، لا بالبندقية والمدفع والقنبلة... نعم، بهذه الأسلحة العصرية الرفيعة المستوى سندحر أعداءنا،ونحرر مستقبلنا من هيمنتهم، هذا المستقبل الذي يُعدُّ آخر محطة عربية يريدون تدميرها في مخططهم...).
[/frame]
لغة نلمسها في قادتنا اليوم ، وهذا التوجّه الاستسلامي الانبطاحي لساستنا ولكثير من رجالات الدين ، هذه اللغة /الحق الذي أريد به باطل ! وللكثير أيضا من نخبنا المزدوجة الهوية !!
[frame="1 98"]
المقطع الثالث:
(نعم سنهزمهم بالمحبة... لأننا بالمحبة، نحن الأقوى، فكيف إذا جمعنا إلىجانب المحبة الرغبة في السلام، والحوار العاقل المنطقي، لبيان حقنا، مع أنحقنا ناصع مثل فلق الصبح... فقط علينا أن نتحرر من عقدنا، كما قلت لكم فيبداية هذه المحاضرة. علينا أن نتحرر من عاداتنا التافهة، ومن التزام آدابنا القديمة المهترئة وغير المعاصرة.. من الرد بغضب وانفعالية كلما اعتدى أحدٌعلينا... بدلاً من أن نفكر بهدوء، ونرد عليه بعقلانية، وأن لا نخشى منإعلان رغبتنا بالسلام، بحرية، بل أن نمارس حرية التفكير بالسلام علناً،وعلى أرض الواقع دون أي خوف أو خشية.. عندها، وعندها فقط، سترون كم سيكون النصر قريباً منا..)
[/frame]
وهنا دليل آخر على سوء فهم الإسلام وجوهره ، وإنّ لأخي الأكبر الدكتور الصواف رأيا حاسما في هذا الباب ، بيّنه في كتابه ( راهن العالم الإسلامي).
[frame="1 98"]
المقطع الرابع:
(الآن... الآن، وليس غداً، ومن خلال هذه الأكف الشريفة الطيبة الملتهبة بالحماس، والتي تُحركها قلوب مليئة بالسلام والمحبة والعفو عن الأعداء،أؤكد لكم أننا بتنا قاب قوسين من النصر أو أدنى).
[/frame]
(العفو عن الأعداء) ؟؟!! لقد قال كلّ شيء ولا يحتاج إلى تقسير أو شرح أكثر مما قاله!!
فالخطيب ظلّ يقول ما أراده الحاضرون ، إلا ذلك العابث بأنفه ! واستمرّ المحاضر يملأ الشاشة ، ليقطعه الحضور بالتصفيق..وكلّما ازداد حماس الخطيب رافقه صاحبنا (الناكش أنفه) بلعبته المفضّلة ، لذلك كانت عباراته تساير الخطاب ، فجاءت لتغطي بقية الصورة الغالبة في المشهد القصصي:
[frame="1 98"]
1 ـ كلما نشطت سبابتي وإبهامي في فرك ما استخرجه خنصريمن أنفي.
2 ـ ازددت رغبة في عرض مُستَخْرَجاتي الأنفية .
3 ـ لا مانع عندي من قذف بعض هذه المستخرَجات .
4 ـ وازدادت سبابتي وإبهامي نشاطاً في فرك مُستَخرَجاتي الأنفية وقذفها.
5 ـ فإذا بي أجدبين سبابتي وإبهامي مستخرَجاً أنفياً كبير الحجم ما يزال لزجاً بعض الشيء،فقذفته دون وعي.
6 ـ حين رأيتُ مقذوفي الأنفي اللزج وقدالتصق بعنقها الناصع البياض.
7 ـ سقط مقذوف أنفي هذه المرة علىصلعته اللامعة البراقة .
8 ـ سبابتي منهمكة معإبهامي بفرك قدر جديد وكبير من المخاط الذي أخرجته من أنفي.
9 ـ فقد سارعت إلىالتخلص من تلك القطعة المخاطية الكبيرة، بقذفها في الهواء.
10 ـ فقد خلعت فردة حذائي اليسرى.
11 ـ هرشت باطن قدمي، غير عابئبتلك الرائحة التي طغت على رائحة العطور الباريسية الفائحة في القاعة.
12 ـ التي انبعثت من جوربي فور خلع فردة حذائي.
13 ـ كادت رائحة قدمي تزكم أنوف المقربين منمكان ـ
14 ـ غير عابئ بما راح يسيل من أنفيعلى شفتي العليا ثم السفلى من مخاط لزج.
[/frame]
فهذا الكم الهائل من التصرّفات (اللاإرادية) للناكش أنفه ، أرادها صاحبها تعبيرا صريحا عن مطلق الحرية التي أرادها..
لتأتي النهاية ، وكم كانت مفاجأة لنا ، مريحة لناكش أنفه..أهي ما يتمنّاه المواطن العربي العادي ؟! أم أنّ الكاتب أرادها علامة دالة على مدى اليأس العام المسيطر علينا في صورة (الناكش أنفه) ؟؟!!
وفي الأخير لن أشير إلى مستوى لغة الحكي أو القص ن ولا إلى أسلوب القاص، لأنّ هذا أو ذاك، لا يحتاج إلى تعقيب أو نقد ، فكاتب يستطيع شدّك ، رغم ضيق المكان ، ومساحة الزمان ، وقلّة الشخوص ..إلى آخر أنفاس القصة ، بنفس درجة التّأثير..وكيف جعلني أتقزّز إلى درجة التقيّء (أكرمكم الله ) من عبث البطل..وحمدتُ الله في الأخير أنني قرأتها بعد أن تناولتُ وجبة عشائي ، وإلا...(ابتسامة)..فشكرا لك ـ أخي الأكبر الدكتور الصواف ـ على متعة القص وقوة الرمز ، وحدّة السرد ، مع خفّة الروح وصدقية الرسالة..
رابط القصة:http://www.nooreladab.com/vb/showthread.php?t=18460