الحمد لله الدائم فضله وثوابه,المخوف مكره وعقابه,نحمده تعالى على أن هدانا لطاعته,ونشكره على ما ألهمنا وأثابنا عليه بجنته, و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نفوز بها يوم الحساب,وندخرها حصنا مما نخاف من سوءالعقاب ونشهد أن محمدا عبده الكامل ورسوله الذي جمعت له الفضائل,صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام صلاة وسلاما تنفعنا يوم الوقوف بين يدي رب الأنام.
...ما لقلبي وقلبك بارد لا يتذكر ولا ينيب,وما لعقلي وعقلك شارد لا يلبي لربه ولا يستجيب,إن الموفق السعيد من نظرواعتبر, وتأمل فيما مضى وغبر, واتعظ بمواعظ السالفين, الذين كانوا يرجون لطف ربهم خائفين, فلم يغتروا بنعم الله ودوامها, ولا يئسوا من رحمة الله عند انعدامها, ولم يشغلهم التكاثرفي الأموال والأولاد ,ولم ينسوا يوم الوقفة بين يدي رب العباد, وأيقنوا أن الله عزوجل إن يقم عدله على الصادقين ,يعذبهم غير ظالم لهم, وإن يأخذ بنقمته المذنبين ,لا يكبرعليه أن يغفر لهم..عن أبي هريرة (ض)أن النبي(ص) قال :"لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع أحد في الجنة,ولو يعلم الكافرما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة.تلك إذن دعوة للإستمساك بالخوف من الله والإعتصام بحبل الرجاء له واتقاء مكره جل وعلا.وقد قرن الباري سبحانه وتعالى بين الوعد والوعيد في غير ما آية من آيات الذكر المجيد,فقال عزوجل:"نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هوالعذاب الأليم"ويقول سبحانه: "إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفوررحيم" وحين نزلت الآية الكريمة:"وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب"قال رسول الله (ص):"لولا عفو الله ما هنأ العيش لأحد ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد",لذلك كان حقا على المسلم أن يجمع في قلبه بين الخوف والرجاء,إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون,ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ,وروى الإمام أحمد عن أنس (ض) أن رسول الله (ص) دخل على رجل يعوده وهو في النزع الأخير فقال (ص):كيف نجدك؟قال الرجل:بخير يارسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي,فقال (ص) والله لن يجتمعا في قلب رجل عند هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف" فإذا زاد الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله,والخوف بمعناه العام اضطراب القلب ووجله من خطر داهم أو أذى محدق أو عاقبة محيقة,أما الخوف من الله فهو تذكر عقابه وناره ووعيده الشديد لمن عصاه...
... بالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانـة والتواضع والخضوع، ويفارق الكبر والحسد ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يتعاطى محرما ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة ولا يضيع وقته في اللهو والغفلة, بل تجده يشمر عن ساعد الجد ويستغل وقته في الطاعات لهذا قال (ص) ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة)) رواه الترمذي .نعم الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ وثمن الجنة هو الخوف ,فمن خاف نال بغيته. الخائف دائما يهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله فإنه يهرب إليه. قال أبو حفص: الخوف سراج في القلب به يبصر الخير والشر وكل ما خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من ربه إلى ربه مصداقا لقوله تعالى:"ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين"قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف قلبا أحرق مواضع الشهوات منه وطرد الدنيا عنه.والناس في خوفهم من الله متفاوتون ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات,ذلك لأن خوفهم مرتبط بمعرفة الله مما جعل هذا الخوف مقرونا بالخشية كما قال تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء) الخشية إذن درجة أعلى وهي أخص من الخوف،وإن شئت فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية، لذلك يقول خير خلق الله النبي محمد:"إني لأعلمكم بالله وأشدكم خشية له"وقال (ص):"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"مما يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف,فالخوف هو صفة القلب المتحرك وليس الجامد,قال الله تعالى :"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ويقول عزوجل في وصف الأبرار:"إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا".لكن الخوف الحقيقي هو الخوف المقرون بالرجاء في رحمة الله,فالمؤمن يخاف ويرجو ولا عبرة بخوف لا يقرنه رجاء,ولا عبرة برجاء لا يقرنه خوف وبما أنهما متقارنان فقد وجب أن تكون لهما منزلة مشتركة من منازل الإيمان هي "منزلة الخوف والرجاء"...
...الخوف الدنيوي الذي هو اضطراب فطري في القلب إنما هو رد فعل لشعور بعدم الأمان ,أما الخوف الرباني المذكور في القرآن الكريم والسنة النبوية فهوخوف راجع إلى معنى غيبي لأن الله تعالى غيب مطلق,لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار,لكن المسلم يخاف الله تعالى ويهرب إليه,ولأن اليوم الآخر غيب مطلق,لكن المسلم يؤمن بهذا الغيب المطلق ويخافه,على عكس الكافر الذي يئس من روح الله فهو لا يرجو شيئا,بينما المؤمن يطمع في رحمة ربه رغم ذنوبه وشروره ويوقن أن باب التوبة مفتوح لكل العباد ولا ذنب إلا ويغفره الله تعالى إن شاء .وحين يخاف المؤمن ربه فإنه يرجو رحمته فيستحق عند خالقه تعالى منزلة الخوف والرجاء. وسلفنا الصالح لم يكونوا يخافون ويبكون ويتضرعون نتيجة تقصيرهم أو نتيجة عصيانهم وكثرة ذنوبهم، بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ...
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع// أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع .
ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله( الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) أهوالذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال(ص): ((لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه))،قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية وإن المنافق جمع إساءة وأمنا...
... الخوف من الله شجرة طيبة إذا نبت أصلها في القلب إمتدت فروعها إلى الجوارح ,فآتت أكلها بإذن ربها وأثمرت عملا صالحا وفعلا كريما وقولا حسنا,إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا وبدون خوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك ,وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغي وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله؟، وما الذي يهدئ في النفس هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع سوى خوف الله؟ وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر سوى خوف الله ؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في السر والعلن سوى خوف الله؟، فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يولد عند الإنسان حسا مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه ,كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في الآخرة...قل لي بربك: كم مرة ذكرت الله وخشيته فدمعت عيناك من خشيته؟, كم مرة هممت بارتكاب الذنب فتذكرت الله فرجعت عن ذنبك لوجه الله؟, كم مرة وقفت على قبر عزيز لديك وتذكرت الموت وأهواله والصراط وأحواله فسالت دمعتك على خدك خوفا وخشية من الله؟,ألا أبشرك بحديث لرسول الله (ص) يقول فيه :" لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع "فابك على معصيتك,واجعل للخوف سبيلا إلى قلبك,واطرق باب الخشية من ربك,واستمسك بحبل الرجاء عند مولاك ...
... في الحديث الشريف يقول المصطفى (ص):"يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا وأعطش ما كانوا وأعرى ما كانوا,فمن أطعم لله أطعمه الله ومن سقى لله سقاه الله ومن كسا لله كساه الله,ومن كان في رضى الله كان الله له على رضاه أقدر ".ففي يوم الفزع الأكبر تذهل كل مرضعة عما أرضعت,وتضع كل ذات حمل حملها,وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد,الناس في جهد جهيد ومن ورائهم نار حرها شديد, قعرها بعيد وشرابها صديد,وسلاسلها من حديد,والواقفون في المحشر إما شقي وإما سعيد, أما الشقي ففي فزع ورهبة من هول وقفة هي خمسون ألف سنة مما تعدون, ومن هول عطشه وجوعه وعريه ,وأما السعيد فيكسوه الرحمان بستره ويشبعه برحمته ويظله بظله ويشربه من حوض نبيه (ص) شربة لا يظمأ بعدها أبدا,ويؤمنه من الفزع الأكبر ,فلا خوف اليوم إلا بما خاف في دنياه ,وله عند ربه في الجنة درجة عالية أعدها الخالق عزوجل جزاء لأهل منزلة الخوف والرجاء .فاللهم اجعلنا من الخائفين حقاواجعلنا من الذين يخشونك ويرجونك حبا وصدقا,اللهم إنا نتوسل إليك بخير البرية وسيد البشرية محمد الصادق الأمين, إجعلنا من الذين يخافونك ويدعونك رغبا ورهبا...آمين.