لكم في يسار صدري وطن...
[align=justify]عاشت الخالة ،،شلوشة،، حياة بئيسة رغم تواجد ثلة من بناتها وولدها الوحيد.
تعرفت عليها عند التحاقي بقرية زوجي ...كانت صدمة بالنسبة لي...أم في عقدها السادس أو يزيد...تعيش في كوخ مهجور ...سقفه من تراب وأعشاب...بابه مصنوع من ألواح ملتصقة جنبا الى جنب...لا ماء في بيتها...فقط أطفال القرية يساعدونها في جلب قارورات الماء لتستعملها للوضوء وغسل الأواني والاستحمام...أما الكهرباء فهي ليست بحاجة اليه ، فنظرها اضمحل من كثرة البكاء حتى أنها لم تعد ترى شيئا...
مسنة بئيسة لم تجد في أولادها خيرا..سكان القرية كانوا يتعاملون معها بكل ود واحترام..كل حسب سعة صدره واستطاعته...أرقني حالها...وكنت كلما عدت إلى القرية أزورها للاطمئنان عليها..وكانت المسكينة تبكي بحرقة وهي تعانقني ، ثم تبدأ في الفضفضة عن نفسها وتحكي عن حياتها بلا أبناء وكيف عانت في تربيتهم بعد موت زوجها ...حياة كلها بؤس وحرمان وهم...تجعلك وأنت تستمع اليها تذرف الدموع أنهارا رغما عنك...عانت الخالة المستضعفة من ويلات الحياة لتسعد أولادها وتزوجهم ليرحلوا الى المدينة تاركين أمهم وديعة عند أهل القرية ...فكانت تنتقل عندهم للاستشفاء وقت مرضها بصعوبة نظرا لوعورة المسالك الجبلية الا أنهم سرعان ما يردونها إلى مسكنها قائلين: اشتاقت لبيتها ...لا تحب المكوث عندنا ...كانت هذه دائما عباراتهم لتبرير موقفهم هذا...
المسنة الوحيدة تبكي كل ليلة دما بعد هجر الأبناء ونسيانهم لها وانغماسهم في حياتهم ...وكانت دائما تقول مخففة عن نفسها :الدنيا دوارة يوم لك ويوم عليك ...وكما تدين تدان...ثم تتردد في قولها فهي لا تحب لأولادها أن يلقوا نفس المصير فتعقب :لكم في يسار صدري وطن يا فلذات الكبد...
عند الغروب ..تقف المسكينة عند باب منزلها مناجية جيرانها: يا سكان القرية ...هل من مجيب؟؟؟تعالوا لانارة فانوسي ...لا أطيق العتمة...يستجيب لندائها أهل القرية :حاضر ,,للا شلوشة,, سآتي في الحال...بينما يعلو صوت مسن ممازحا: سئمنا صياحك يا عجوز....تضحك المسكينة...ومن هناك يسمع صوت طفلة صغيرة وهي تردد: لا عليك خالتي ,,شلوشة ,, سأخبر أمي بالموضوع كوني مطمئنة...استجابة أهل القرية لمطالبها كانت تخفف عنها الكثير.
كلما سمعت كلماتها وهي تنادي بأعلى صوتها تملكتني الرهبة من هذه الحياة المخيفة...فرغم ضعف نظرها أو انعدامه لا تريد المكوث في الظلمة وحيدة خائفة ، فكثيرا ما كانت المسكينة تحكي بأن أشباحا يتمثلون لها في الكوخ مطاردين إياها ..لهذا كانت تصر على ايقاد الفانوس وإن لم تكن تستنير به وانما لتستأنس به كفرد من أفراد عائلتها...
عاشت عيشة الذل والمهانة في وقت كان أبناؤها غير مبالين بها ولا لمطالبها...وضعت قلبها مسكنا لهم وهم صغار وكبار ، في حين أداروا لها ظهرهم في وقت كانت في أشد الحاجة الى عطفهم وبرهم....
عدت للقرية آخر مرة متلهفة للقائها حاملة بعض المتطلبات كهدية لها كعادتي...لأصدم بخبر وفاتها ...ماتت المسكينة مخلفة ألما كبيرا لدى الأهالي الذين ألفوها ، وارتياحا أكبر لدى أبنائها لأنهم اعتبروها هما انزاح عن كاهلهم وان كانوا قد أزاحوه منذ مدة....صعقت للخبر ولم أطق البقاء هناك دون سماع حكاياتها المثيرة والمحزنة والتي كانت تحكيها لي ولكل الزوار بعينين متلألئتين بالدموع...ولم يكن لمقامي هناك طعم دون سماع صوتها المنادي عند الغروب وكأنها ديك يصيح معلنا حلول الظلام...
رحمك الله خالتي ,,شلوشة,,دائما أتذكرك وأنا مارة بباب منزلك الذي أصبح حكرا على الأشباح بعد أن غادرته روح طاهرة لم يعرف قيمتها الأبناء...[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|