حفظ المقامات - مقام المصطفى صلّى الله عليه وسلم
(حفظ المقامات: حفظ مقام الحبيب)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،:
فما زالت نبضة القلب تطغى على جرّة القلم، وما زال فيض الإحساس يهيمن على تراكيب الألفاظ، وما زلت أكتب دون وزن كلمات، أو تنسيق عبارات، فالحب الصادق شعور يسمو على كل الكلام، فكيف وأنا أتكلم عن حب خير الأنام؟
ما زلت أتكلم عن الحبيب محمد بن عبد الله، خاتم رسل الله، في محاولة لتعريف البشر على مقام أعلى البشر مقامًا، وقد ذكرت في المقال الماضي مقام أمته عنده – صلى الله عليه وسلم-، وقد بينه قوله تعالى ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾سورة التوبة: الآية128.
وقد تناولنا في رحلتنا مع حفظ المقامات أن لربنا المعبود – سبحانه وتعالى – مقامين: * مقام في الدنيا (وهو مقام المراقبة)، *ومقام في الآخرة (وهو مقام المحاسبة)، فإن لنبينا المبعوث- صلى الله عليه وسلم- أيضاً مقامين: * مقام في الدنيا نحن كمسلمين مطالبون بتحقيقه (وهو أن يُصدَّق فيما أخبرَ، وأن يطاع فيما أمرَ، وأن يُجتَنَب ما عنه نهى وزجر، وألا يُعبَد اللهَ إلا بما شرع)، * ومقام في الآخرة تكفل الله تعالى له بتحقيقه فقال ﴿وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا ٧٩﴾سورة الإسراء: الآية 79، بل إن ربنا سبحانه وتعالى حثنا على الدعاء له بهذا المقام إثر كل أذان، كما في صحيح البخاري (1/ 126) رقم (614): عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ” مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ المَقَامَ المَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ إنكَ لا تُخلفُ الميعادَ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ “.
• كيف نحقق مقام النبي – صلَّى الله عليه وسلم- في الدنيا؟
كي تثبت إيمانك الصادق بالنبي – صلى الله عليه وسلم- ورسالته، وتثبت صدق حبك له ولدعوته، يتوجب عليك أن تبني أركان حبك له وإيمانك به على أربعة دعائم:
1- تصديق النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر به، وصح السند إليه.
2- طاعة النبي- صلى الله عليه وسلم- في آداء كل ما أمر به، وحث المسلمين عليه.
3- طاعة النبي- صلى الله عليه وسلم- في اجتناب كل ما نهى عنه، وحذر المسلمين منه.
4- ألا نعبد الله تعالى إلا بما أنزل عليه، من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
أولاً: تصديق النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل ما أخبر به، وصحَّ السند إليه:
إنه من الأمور البديهية لدى كل مؤمن بنبي من الأنبياء، أنه يصدقه فيما جاء به من خبر السماء، أنه يعتقد اعتقادًا جازمًا لا ريب فيه ولا شك صدق هذا النبي فيما يقول ويفعل، ويأمر ويقرر، وما كان له أن يتبع هذا النبي دون تصديقه – إلا إذا كان منافقاً -، فهذه أول خطوة على طريق اتباعه، وقد جاء الصادق الأمين بكتاب من عند رب العالمين، طبّقه النبي- صلى الله عليه وسلم- ووضحَ مبهمه وفصّلَ مجمله بواقع عملي من سنته الشريفة، ونموذج حيّ من سيرته العطرة، فكان قرآنا يمشي على الأرض، وكان خُلقه القرآن، كما في صحيح مسلم (1/ 513) رقم(746): قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ – فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ».
وقد خاطب الله تعالى في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه- صلى الله عليه وسلم- في سنته جميع العقول والأعمار، والأمم والأجيال، والثقافات والحضارات، من لدن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلي قيام الساعة، ولاشك أن العقول والأجيال والثقافات في الزمن الواحد تتفاوت قوة وضعفًا، وحكمة وجهلاً، فكان من بين ما أوحاه الله تعالى إلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم تبلغه عقول بعض الناس، ولم يحيطوا به علمًا، وفي صحيح البخاري (1/ 37) رقم(127): قول عَلِيّ رضي الله عنه: «حَدِّثُوا النَّاسَ، بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ»؟!
فما جاء به الله ورسوله صدقٌ وحقٌ، ولكنه لمّا كانت بعض العقول لا تستطيع فهمه أو استيعابه (وهذا لا حرج فيه لأنه يتحدث عن غيب، ولا طاقة للعقل على الاستقلال بمعرفة الغيب، كما سنبين إن شاء الله في مقالات قادمة)، أمرنا أن نتنزل إلي مستوى عقولهم حتى لا يردوا القرآن أو السنة لمجرد أنهم لا يستطيعون إدراك معاني بعض ألفاظهما، وقد وصف ربنا تعالى القرآن بقوله ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ…﴾فمن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه؛ فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنه يقولون عند المتشابه: ﴿…ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ…﴾سورة آل عمران: الآية 7، وكان ابن عباس- رضي الله عنهما- يومًا يروي عن النبي شيئاً من هذه الأحاديث فانتفض رجل استنكارًا لذلك، فقال ابن عباس: ” ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقةً عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! ” فكلما سمع المؤمنون شيئاً من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا الله ورسوله (وصدقَ الله ورسولُه وما زادَهُم إلاّ إيماناً وتسليماً) .وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم المثل الأروع في ذلك، ففي صحيح البخاري (4/ 111) رقم (3208): قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ، قَالَ: ” إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ….” فالنبي- صلى الله عليه وسلم- يفصل للصحابة مراحل تطور الجنين في رحم أمه، ولم ير الصحابة ذلك ولم تبلغه عقولهم، ومع ذلك كانت حكمة عبد الله بن مسعود في أن يأتي بما يعين على تقبل الحديث فصدره بقوله “وهو الصادق المصدوق”
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|