أميرة والمجرم
تائه -أنا- بين ممرات جناح الصغار بمستشفى السرطان، أبحث عن غرفة يرقد بها ابن صديق لي بالعمل، أتيت لزيارته بعد الدوام. وإذا بصوت يناديني: عمو...عمو...
استوقفني النداء، التفت أبحث عن مصدر الصوت، فإذا هي طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها: صبية غاية في الروعة والجمال رغم الوهن البادي على محياها، وجه ملائكي وعينان زرقاوان يشع منهما نور يغار منه القمر.
دنوت منها، وجثوت على ركبتي وقبلتها قائلا : ما اسمك يا حلوة؟؟
أجابت بصوت خافت: أميرة....عمو، هل أنت شرطي؟؟
انتبهت لزيي العسكري الذي ما زلت أرتديه وقلت لها: أجل يا عزيزتي...
احتضنتني الصغيرة بقوة وهمست لي: اقبض على السرطان وضعه بالسجن، فيوما ما سأكبر وأصبح قاضية وأحكم عليه بالإعدام.
أحسست بصعق كهربائي يسري بجسدي من كلماتها التي تحمل من البراءة والتعب والألم ما تحمله. طوقتها بذراعيَّ وضممتها لصدري تاركا فسحة لدموعي كي تنهمر دون أن تراني. سمعتها تتمتم: اِقبض عليه أرجوك، فقد استباح جسدي وافترسه، وسرق ضفيرتيَّ وجعلني مدمنة جلسات الكيماوي اللعين. كرهت الحقن والتحاليل، وهذه الأسلاك المرتبطة دوما بشراييني، وكرهت أيضا تلك الأجهزة الضخمة التي يضعونَني بها كلما ساءت حالتي، والوزرات الخضر اللواتي يحُمن حولي.
جلست والصبية على مقعد بالممر، بدأت أتأمل ملامحها الشقراء وهي تحدثني عن معاناتها مع وحش مخيف. واعترفت لي بأنها تمقت مرضها الذي وقف حجر عثرة أمام تحقيق طموحها، وحد من نشاطها، وتمرد عليها ودمر رغبتها في الحياة حتى أنه جعلها معلقة في حالة وسط بين السماء والأرض، إذ تجهز نفسها للرحيل مع كل حصة من حصص دوائها الذي يفقدها مناعتها بشكل تام؛ وكيف يقبر والداها دمعهما في هذه اللحظة ليُحيِيا بها الأمل بالشفاء. أُصبتُ بالبكم وأنا أُنصتُ لكلامها العفوي، وتابعت حديثها عن قصتها مع هذا الورم الخبيث باهتمام بالغ، وتملكتني الدهشة وأنا أقارن بين كلامها وحداثة سنها، فأنَّى لطفلة أن تمتلك كل هذا الإحساس والصبر..؟!
على بعد خطوات منا، وقفت سيدة تراقب تحركات أميرة والدموع تزاحم عينيها؛ انتبهتِ الطفلة إليها فانطلقت تجري نحوها بعدما ودعتني ووعدتها بزيارة أخرى .
عدت لمنزلي والألم يعتصرني من هول ما سمعته وما رأيته هناك من طفولة معذبة اغتصبت منها الحياة قسرا.
منذ ذلك اليوم، توالت زيارتي لأميرة وارتبطت بها وأصبحت جزءاً مني .
حملت لها دمية هذا الصباح، شقراء مثلها لترافقها في رحلة شفائها...لكنني لم أجدها بغرفتها، هرعت أبحث عنها.. ولم أعثر لها على أثر حتى كدت أشك أنها كانت حلما مر بي، أو أني كنت أَهذي. أحسست بالدوار وسط هذه الممرات المليئة بصراخ الأطفال. وتهت مجددا عندما صعقت بخبر وفاة أميرتي، فبدأ شريط كلامها وابتسامتها النادرة يمر بمخيلتي، وإذا بالممرضة تُخرج من جيب وزرتها رسالة وتمدها إلي: تفضل سيدي...تركتها أميرة أمانة لك.
فتحت الرسالة بلهفة وكأنني أنتظر من حروفها أن تجتمع مجسدة صورة الطفلة. بدأت أقرأ كلماتها التي لخصت بها عبارات الألم :
عمو الشرطي، لقد فاز المجرم بروحي، وانطلق يبحث عن ضحية أخرى. استحال عليك القبض عليه، واستحال علي أن أنجو من مخالبه، فأَعدم حلمي قبل أن أُعدمه.
سقطت الدمية من بين يديَّ، ولم أستفق إلا وأنا بغرفة الإنعاش وطيف أميرة حولي؛ وأسلاك الأجهزة الطبية تحاصرني كما فعلت بصغيرتي.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|