«الإشارات الإلهية» أحد مصنفات أبي حيان التوحيدي (علي بن محمد، ت: 414 هـ / 1023 م)، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. وهو مجموعة رسائل «صوفية»، بصياغة أدبية رفيعة المستوى، في شكل مواعظ وعلامات في المناجاة والدعاء؛ تقوم على مستويات ثلاثة في الخطاب: أولاها: التوجه إلى الله تعالى. وثانيها: التوجه إلى الذات. وثالثها: التوجه إلى "الآخر"، سواء أكان هذا "الآخر" هو الإنسان الأدنى بوصفه عاصياً متطلعاً إلى الدنيا وغرور بهجة أغراضها، بخطابه: يا هذا، ويا أيها الإنسان.. أم كان هذا "الآخر" هو الإنسان الأعلى الذي يلتمس منه الحكمة بخطابه: يا سيدي، وأيها الشيخ.. أم كان هو النّدُّ الذي يلتمس منه الأنس، فيبث إليه حاله، بخطابه: أيها الجليس المؤنس والصاحب المساعد. وجميعها تدور على محور: الأخذ بالفضائل، والخلق القويم، وتأمل نعم الخالق التي أنعم بها على الإنسان، وبيان كيفية السعي للرضا الإلهي؛ وتعريفاً لبعض القضايا، وإفهاماً لبعض الأمور في سلوكيات طريق المريد والسالك.
فـ (التصوف) - عند التوحيدي ـ اسمٌ يجمع أنواعاً من الإشارة، وضروباً من العبارة؛ وجملته التذلل للحقّ بالتعزز على الخلق؛ فهو علمٌ يدور بين إشارات إلهية وعبارات وهمية. يقول د. عبد الرحمن بدوي: الكتاب يُعبّر عن نفسٍ دلفت إلى الإيمان المستسلم بعد أن عانت من تجارب الحياة أهوالاً طوالاً؛ ففيه مرارة اليائس من الناس ومن دنيا الناس، وفيه صراحة أليمة لأمل خائب تكسرت عليه نصال الخيبة بعد الخيبة، وفيه عزوف رقيق ولكنه عميق عمَّا يربط بالعاجلة، واستدعاء متوسل لكل ما تلوح به بوارق الآجلة (مقدمة الإشارات الإلهية 20 بتحقيقه). لكن للأسف فما بقي من «الإشارات الإلهية» سوى الجزء الأول، في مخطوطة فريدة في المكتبة الظاهرية بدمشق رقم (8 تصوف)، في أربع وخمسين رسالة؛ نشرها الدكتور بدوي نشرة أولى في مصر سنة (1950 م)، ثم أعاد نشرها في الكويت سنة (1981 م)، ولم يشر في هذه النشرة الثانية إلى نشرته الأولى.
ثم طبع الكتاب في بيروت بتحقيق د. وداد القاضي سنة (1973 م)، فأضافت إليه مخطوطة «الملخص في الإشارات الإلهية» المحفوظة في مكتبة الدولة ببرلين، وتتضمن عشر رسائل زائدة لم ترد في نشرة د. بدوي. فنال الكتاب بذلك عناية لم تقرب منها نشرة الدكتور بدوي، وبدا ذلك واضحاً في قراءة النص وضبطه.
وفي مقدمة الكتاب يقول التوحيدي:
● اللهم: إنَّا نسألُك ما نسأل، لا عن ثقةٍ ببياضِ وجوهِنا عندك، وحُسْنِ أفعالنا معك، وسوالف إحساننا قِبَلَك؛ ولكن عن ثقةٍ بكرمك الفائض، وطمعٍ في رحمتك الواسعة، وعن توحيدٍ لا يَشُوبُه إشراك، ومعرفةٍ لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمالنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة.
فنسألك أن لا تردَّ علينا هذه الثقة بك، فيَشمَتَ بنا لم يكن له هذه الوسيلة إليك؛ عُدْ علينا بصفحك عن زلاَّتنا؛ وانْعِشْنا عند تتابع صرعاتنا؛ وحُطَّ رِحالنا معك في اختلاف سكراتنا وصحواتنا؛ وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا، لأنك أوْلى بنا منَّا. وإذا خفنا منك فامزجْ خوفَنا منك برجائنا فيك؛ وإذا غلب علينا يأسنا منك فتَلَقَّه بالأمل فيك. بَشّرْنا عند توجُّهنا نحوك بالوصول إليك؛ متّعْنا بالنظر إلى نور وجهك؛ أسبغْ علينا نعمتك بما وهبتَ لنا من توحيدك؛ ولا تهجرنا بعد وَصْلك، ولا تُبعدنا بعد قربك، ولا تكربنا بعد رَوْحك؛ قد عادَيْنا أعدائك فيك، فلا تُشْمتهم بنا لتقصيرنا في حقك؛ وَوَالَيْنا أصفياءك لك، فلا توحشنا منهم لسهونا عن واجبك؛ قد كددنا لك فأرِحْنا بك؛ ورفعنا أيدينا إليك فأمدَّها من بِرّك ولطفك.
إلهنا: سوابقُ مِنَنك تدعو إلى الاعتراف بفضلك. وسوابغُ نِعَمك تبعث على العبادة لك. وروادف بِرّك تستنفد قُوى الشاكرين على ذلك. وبإرادتك أردناك، وبصنعك عَرَفناك، وبإذنك وصفناك، وبجهالتنا عصيناك، وبسوء آدابنا جفوناك، ولولا جُودك ما سألناك، ولولا لُطْفُك ما عبدناك.
(الإشارات الإلهية ص 1، ط القاضي).
وهذا عجبٌ فوقه عجب.
السيدة الأديبة ليلى مرجان:
التأمل في فضاءات كلام الله، بتدبر القرآن الكريم، يفتح لك متعة اكتشاف الدهشة.
وهكذا كان أبو حيان التوحيدي مع إشاراته الإلهية.
كل الشكر لك لطيب مرورك الكريم، وأهلاً وسهلاً بك دائماً
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: وقفة مع الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي
ممتع جدا ما قرأته للتو .. وشيقة هذه الابتهالات الموغلة في الصفاء ..
لا أدري كيف أشكرك أخي د. منذر وأنت تتحفنا بكل ما هو مفيد وراقي كعادتك ..
دمت راقيا في اختياراتك ودام لك الشكر والامتنان اللائقان بروحك الصافية وقلبك النبيل . محبتي بلا حدود
الأستاذ الأديب الراقي رشيد الميموني:
اسمح لي بداية أن أصفك بالإنجليزية بـــ comfortable صادقاً، لأنني لم أجد لفظاً بالعربية يشمل معنى (الألفة) و(الاطمئنان) غير هذا اللفظ البديع، الذي يختزل ما أشعر به تجاهك.
فالشكر كل الشكر لك، لأن مرورك يعني لي أنني ولجت إلى الفضاءات الرحبة التي أعشقها وأحبها بكياني كله.
مشرفة / ماستر أدب عربي. أستادة لغة عربية / مهتمة بالنص الأدبي
رد: وقفة مع الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي
اقتباس
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. منذر أبوشعر
«الإشارات الإلهية» أحد مصنفات أبي حيان التوحيدي (علي بن محمد، ت: 414 هـ / 1023 م)، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. وهو مجموعة رسائل «صوفية»، بصياغة أدبية رفيعة المستوى، في شكل مواعظ وعلامات في المناجاة والدعاء؛ تقوم على مستويات ثلاثة في الخطاب: أولاها: التوجه إلى الله تعالى. وثانيها: التوجه إلى الذات. وثالثها: التوجه إلى "الآخر"، سواء أكان هذا "الآخر" هو الإنسان الأدنى بوصفه عاصياً متطلعاً إلى الدنيا وغرور بهجة أغراضها، بخطابه: يا هذا، ويا أيها الإنسان.. أم كان هذا "الآخر" هو الإنسان الأعلى الذي يلتمس منه الحكمة بخطابه: يا سيدي، وأيها الشيخ.. أم كان هو النّدُّ الذي يلتمس منه الأنس، فيبث إليه حاله، بخطابه: أيها الجليس المؤنس والصاحب المساعد. وجميعها تدور على محور: الأخذ بالفضائل، والخلق القويم، وتأمل نعم الخالق التي أنعم بها على الإنسان، وبيان كيفية السعي للرضا الإلهي؛ وتعريفاً لبعض القضايا، وإفهاماً لبعض الأمور في سلوكيات طريق المريد والسالك.
فـ (التصوف) - عند التوحيدي ـ اسمٌ يجمع أنواعاً من الإشارة، وضروباً من العبارة؛ وجملته التذلل للحقّ بالتعزز على الخلق؛ فهو علمٌ يدور بين إشارات إلهية وعبارات وهمية. يقول د. عبد الرحمن بدوي: الكتاب يُعبّر عن نفسٍ دلفت إلى الإيمان المستسلم بعد أن عانت من تجارب الحياة أهوالاً طوالاً؛ ففيه مرارة اليائس من الناس ومن دنيا الناس، وفيه صراحة أليمة لأمل خائب تكسرت عليه نصال الخيبة بعد الخيبة، وفيه عزوف رقيق ولكنه عميق عمَّا يربط بالعاجلة، واستدعاء متوسل لكل ما تلوح به بوارق الآجلة (مقدمة الإشارات الإلهية 20 بتحقيقه). لكن للأسف فما بقي من «الإشارات الإلهية» سوى الجزء الأول، في مخطوطة فريدة في المكتبة الظاهرية بدمشق رقم (8 تصوف)، في أربع وخمسين رسالة؛ نشرها الدكتور بدوي نشرة أولى في مصر سنة (1950 م)، ثم أعاد نشرها في الكويت سنة (1981 م)، ولم يشر في هذه النشرة الثانية إلى نشرته الأولى.
ثم طبع الكتاب في بيروت بتحقيق د. وداد القاضي سنة (1973 م)، فأضافت إليه مخطوطة «الملخص في الإشارات الإلهية» المحفوظة في مكتبة الدولة ببرلين، وتتضمن عشر رسائل زائدة لم ترد في نشرة د. بدوي. فنال الكتاب بذلك عناية لم تقرب منها نشرة الدكتور بدوي، وبدا ذلك واضحاً في قراءة النص وضبطه.
وفي مقدمة الكتاب يقول التوحيدي:
● اللهم: إنَّا نسألُك ما نسأل، لا عن ثقةٍ ببياضِ وجوهِنا عندك، وحُسْنِ أفعالنا معك، وسوالف إحساننا قِبَلَك؛ ولكن عن ثقةٍ بكرمك الفائض، وطمعٍ في رحمتك الواسعة، وعن توحيدٍ لا يَشُوبُه إشراك، ومعرفةٍ لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمالنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة.
فنسألك أن لا تردَّ علينا هذه الثقة بك، فيَشمَتَ بنا لم يكن له هذه الوسيلة إليك؛ عُدْ علينا بصفحك عن زلاَّتنا؛ وانْعِشْنا عند تتابع صرعاتنا؛ وحُطَّ رِحالنا معك في اختلاف سكراتنا وصحواتنا؛ وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا، لأنك أوْلى بنا منَّا. وإذا خفنا منك فامزجْ خوفَنا منك برجائنا فيك؛ وإذا غلب علينا يأسنا منك فتَلَقَّه بالأمل فيك. بَشّرْنا عند توجُّهنا نحوك بالوصول إليك؛ متّعْنا بالنظر إلى نور وجهك؛ أسبغْ علينا نعمتك بما وهبتَ لنا من توحيدك؛ ولا تهجرنا بعد وَصْلك، ولا تُبعدنا بعد قربك، ولا تكربنا بعد رَوْحك؛ قد عادَيْنا أعدائك فيك، فلا تُشْمتهم بنا لتقصيرنا في حقك؛ وَوَالَيْنا أصفياءك لك، فلا توحشنا منهم لسهونا عن واجبك؛ قد كددنا لك فأرِحْنا بك؛ ورفعنا أيدينا إليك فأمدَّها من بِرّك ولطفك.
إلهنا: سوابقُ مِنَنك تدعو إلى الاعتراف بفضلك. وسوابغُ نِعَمك تبعث على العبادة لك. وروادف بِرّك تستنفد قُوى الشاكرين على ذلك. وبإرادتك أردناك، وبصنعك عَرَفناك، وبإذنك وصفناك، وبجهالتنا عصيناك، وبسوء آدابنا جفوناك، ولولا جُودك ما سألناك، ولولا لُطْفُك ما عبدناك.
(الإشارات الإلهية ص 1، ط القاضي).
وهذا عجبٌ فوقه عجب.
ما هذه الروعة؟! وما هذا الجمال؟! نحن بحق في حاجة إلى مثل ما تختاره لنا سيد منذر من درر ثمينة..
بدأت بإيجاز بتعريف بالكتاب وصاحبه، ثم انتقلت تتحدث عن التحقيق والنشر وللتحقيق والمخطوط متع لا تنتهي.. وأخيرا ختمت بدعاء التوحيدي الذي جعلنا نغيب في عالم صوفي حقا ونرجو الله أن يستجيب لكل منا بمثل ما دعا التوحيدي..
يا سيدي رزقك الله من فضله أكثر مما تنتظر
الأستاذة الأديبة خولة السعيد:
كم تزيدني حماس المتابعة وقتما أحظى بعين مُدركة تعي أبعاد الكلام، وتُتابع تفاصيله بحنكة ودراية وتدبر.
فبوركتِ أولاً وثانياً وعاشرة، فالكلام يبقى (كلاماً) لا قيمة له إن لم تتلقاه نفس هانئة مُدركة.
طاب مرورك، والطريق مع نور الأدب يُغري على متابعة المسير.