المنظار
[frame="10 98"]
[align=justify]
يعرف أن الصهاينة حولوها إلى "تل حنان" لكنه حين يرفع المنظار ويضعه على عينيه، ثم يذهب في البعيد البعيد، يصرخ "يا الله.. ها هي بلد الشيخ.. وها هي ست الكل تتجول في دروبها " وست الكل هذه هي أمه.. آثرت عند الرحيل أن تبقى، وقيل أنها ماتت ودفنت هناك محققة أمنيتها في أن يكون تراب بلد الشيخ مثواها الذي لا ترضى مثوى سواه.. والرجل صاحب المنظار يراها.. يرى الشجر والأغصان وحتى الأوراق أحيانا.. ويحكي لأهل المخيم عن قبر الشهيد عز الدين القسام، وعن الشيخ السهلي الصوفي.. ويعطي المنظار لواحد من أهل المخيم طالبا منه أن يرى.. لكن الرجل لا يستطيع أن يرى، وما أن يعلن ذلك على الملأ، حتى تثور ثائرة المبروك صاحب المنظار فيأخذ منظاره ويلعن هذا الزمان الذي جعل الناس لا يبصرون ولا يعقلون، وما أن تهدأ ثائرته حتى يقرب المنظار من عينيه ويصرخ "الله ما أحلاك يا بلد الشيخ"..
أهل المخيم أطلقوا عليه لقب "المبروك" لاعتقادهم أن الرجل يرى ما لا يرون.. وقد تأكد اعتقاهم هذا وتحول إلى ما يشبه اليقين حين أخبرهم ذات يوم أنه يرى فدائيين يركضون ويطلقون الرصاص في "بلد الشيخ".. وكان حزنه شديداً حين أعلن عن سقوط أحد الفدائيين شهيداً.. في البداية ضحك أهل المخيم وسخروا، إذ لا يمكن رؤية هذه الأحداث بكل هذه الدقة عن قرب، فكيف والقرية تبعد كل هذا البعد.. لكن دهشتهم كانت كبيرة، وذهولهم كان أكبر، حين جاءت الأخبار معلنة عن تفاصيل العملية الفدائية وبشكل يؤيد تماماً ما قاله المبروك.. وحين أعلن أحد أهل المخيم أنها المصادفة، أسكته الجميع غاضبين مؤكدين أنه لا مكان للمصادفة هنا.. لكن لم يستطع أي منهم تفسير هذه الظاهرة الغريبة العجيبة.. إذ كيف لمنظار متواضع أن ينقل أو يقرب ما يراه المبروك وكأنه صاحب قمر صناعي.. وبقيت القصة هكذا دون حل.. أهل المخيم يحكون، ومن يسمع القصة من خارج المخيم يعلن أنهم مجانين.. والمبروك هو المبروك يرفع المنظار ويروي القصص.
حين مات المبروك، بعد أن شاخ وانحنى الظهر وشبع من الحياة كما قال، رغم جوعه وشوقه لأن يدفن هناك، خرج المخيم خلف نعشه معلناً موت حكاية أو أسطورة.. كان النعش مرفوعاً على الأكف، والألسنة تتناول موضوعاً واحداً يتعلق بالمنظار والقدرة المذهلة للمبروك في رؤية البعيد.. وهاهو المبروك قد مات.. وظن أهل المخيم أن القصة دفنت معه وطويت.. وبقي المنظار معلقاً على جدار في غرفة طينية قديمة..
كان الصباح الذي اجتمع فيه أهل المخيم وتنادوا، طازجاً وجميلاً وحيوياً.. لم يصدقوا في البداية ما يحدث.. كأن الخيال جاء من البعيد ووقف أمامهم.. ولد صغير.. هادئ.. ذو نظرات عميقة.. وقف وأعلن أنه حفيد المبروك.. هكذا دون مقدمات أصبح للمبروك حفيد.. حمل المنظار.. رفعه.. ووضعه أمام عينيه.. صاح "يا الله.. ها هي بلد الشيخ.. وهاهي ست الكل تتجول في دروبها" ضحك أهل المخيم وامتلأت عيونهم بالدموع.. رفعوا الولد على الأكتاف وداروا به من شارع إلى شارع.. كان المنظار أمام عينيه.. والصور التي ينقلها مليئة بالنبض والحيوية والحب.. وكأن المبروك قد عاد ليرى ما لا يرى الآخرون.. وكانت أغصان الشجر البعيد تزهر وتثمر وتعانق الشمس بصورة رائعة..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|