رسالة إلى ابي الحبيب رحمه الله،
منذ رحلت ذات فجر غابت عنه شمس ابتسامتك منذ خمسة اعوام وانا في حالة من انعدام الوزن، فلم تعد قدماي تطال الأرض، فقدك جعلني اخاصم الجاذبية فلم يعد على الأرض شئ يشدني اليها، بفقدك شعرت بأنني فقدت حواسي الخمس وزهدت في كل شئ حتى الكلام، فاجعتي كانت أكبر من أحتمالي، ولكنك أنت من سأعدني على التحمل واستعادة نفسي التى تناثرت حزناً عليك، نعم أنت ، كنت أسترجع كل حواراتنا وأتهجاها حرفاُ حرفاً فوجدت بين اسطرك الكثير عن الصبر، التحمل، الرضا بقضاء الله وقدره، كعادتك لم تترك شيئاً إلا وطرقته حتى لا نتوه من بعدك.
منذ ذلك الفجر الكئيب الذي حمل لي نبأ رحيلك وانا اعيش حالة خوف من كل المكالمات الصباحية المبكرة، وعقدت حلفاً مع كل غيمات البكاء، اعذرني حبيب روحي ، لقد غادرتني ضحكتي الطفولية التى كانت تميزني وحلت محلها ضحكة وجلة تترقب حدث مجهول مخبأ في جوف الغيب، برحيلك توقف عقلي عن تدوين الأحداث ، فذاكرتي اصبحت في حالة حداد، وروحي في حالة يتم.
حبيبي الغائب جسداً الحاضر روحاً وعملاً، غادرتني كل مواسم الفرح بغيابك، ورافقتني الدمعة ، اتذكر ايها الغالي كم كانت دموعي تحزنك؟ سامحني ، اعلم انك كنت تكره ان ترى دموعي ولكنني سمحت لها ان تنهمر لتغسل حزني لفقدك.
أبا خالد، يا أبي وصديقي
اشعر بأن روحي مهاجرة دوماً الى حيث يرقد جسدك الطاهر في الأرض التى عشقتها ، هناك في ارض الكنانة، وتبحر مراكب شوقي دائماً للمساءات الجميلة التى كانت تجمعنا، كم كنت كريماً وعطائك باذخ،وكم كانت مبادئك راسخة كالجبال فرفضت كل العروض وبقيت قابضاً على وثيقة سفرك وكنت تقول:" عندما اعود لفلسطين لن احتاج اي جوازات سفر لأنها ستكون محطتي الأخيرة ، سأزرع نفسي في ترابها وأعتزل السفر"، كان لحضورك بريق يبهر كل من يراك، ونظرة عينيك تشع صدقاً ونبلاً، وكنت صديقاً صدوقاً ، وناصحاً وفياً لكل اصدقائك الذين مازالوا يدمعون حينما يذكرونك حتى اليوم، كان اسلوبك في الحياة والتعامل مع الأخرين آسر بكل المقاييس، وكنت معجبة بك حد الزهو، جعلت مني اميرة تشير ببنانها دائماً قائلة " هذا الفارس هو ابي"،.
بالرغم من مرور خمس سنوات على رحيلك لم تفارق بسمتك الغالية مخيلتي ، ولم تفارق ضحكتك الميزة اذني، مازلت اذكر اللقاء الأخير عندما لوحت لي مودعاً في مطار القاهرة ، قلت لي حينها وانت تحتضنني بقوة: " حاولي يابابا ان تأتي للزيارة كلما سنحت لك الفرصة ، حتى لو لبضع أيام، لا تغيبي عنا فنحن الكبار كالجمعة المشمشية "، لم افهم وقتها ، وحاولت ان انتزع نفسي منك بلطف لألحق بأبنائي ولكنك تشبثت بي وتعلقت عيناك بي وكأنك كنت تعلم مسبقاً بأنه اللقاء الأخير.
منذ رحيلك وانا أقتات على تفاصيل كثيرة تجمع مابين طفولتي وباقي مراحل عمري، أطل من هذه التفاصيل على وجهك الصبوح، واسكب احرفي على اوراقي لتورق حنيناً وشوقاً للحظات التى كانت تجمعنا سوياً .
كثيرون يقولون لي انني الأقرب شبهاً لك والأقرب فعلاً وقولاً ،وكثيراً ما تردد أمي هذه الجملة أمامي : "صحيح اللي خلف ما مات ، لم تتركي منه شيئاً"، فأبتسم وأقول: أبا خالد لا يشبهه أحد.
كنت مطراً يبللنا بالحب ، كنت موسماً عامراً بالخير، كنت كتاب معرفة نقرأ بين سطوره ملاحم عشق للوطن، كنت موسوعة زاخرة بأحداث كثيرة وخبرات قيمة، كنت وطناً نسكن اليه ونشتم من مسامه عبق الوطن الساكن في كل خلية من خلاياك.
نم قرير العين ايها الحبيب، واعلم بأن الحصاد جاء كما تمنيت ان يكون، لقد زرعت في وفي اخوتي كل ما هو جميل، ونثرت طيب الذكرى في كل الدروب ، أينما أدرنا وجهنا نشتم عبق ذكراك العطرة .
أبا خالد ، أكتشف كل يوم انني احبك اكثر من ذي قبل، وانك ستبقى حياً في القلب والذاكرة حتى الإغماضة الأخيرة....أشكرك لأنك أبي.
رحمك الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواك.
سلوى حماد