شهر رمضان و المناسبات الدينية (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون "185")
عادة ما يبدأ شهر رمضان في المغرب متأخرا بيوم. في السابق كان شيخ القبيلة أو المقدم هو من يبلغ الناس بمَقدم شهر الصيام. أما اليوم فالبركة في الدش والفضائيات. عندما يهل هذا الشهر المبارك تزدحم الرؤوس بالأسئلة. ارتفاع الأسعار وتقلص القدرة الشرائية. السماسرة "المنتفعون" حقا من بركة هذا الشهر على حساب الصائمين. مغزى غلق المقاهي وترك روادها في كل درب يهيمون. الأهلة واختلاف المسلمين حولها لدرجة تصل إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجيران. في هذا الباب يحلو لبعض المتمرسين في الديالكتيك والجدال، نسيان النقاش حول الصراع الطبقي وصدام الحضارات، ليتفرغوا لحل مسألة "رؤية الهلال". تأخذ بعضهم حمية النقاش والمناقشة وكأنهم في عصرالصحابة.
تمتلئ المائدة الرمضانية المغربية بأنواع الحلوى
اليوم الأول هو الأصعب. بعده يتحول الصيام إلى روتين: نوم في النهار، سهر في الليل إما قياما في المساجد أو قعودا في المقاهي. أما قبيل آذان المغرب فيصبح المشهد غريبا حقا. فقد تنبت المشاحنات من العدم. أحاول قدر المستطاع تجنب ارتياد الأسواق في مثل هذا الوقت حفاظا على سلامتي. فبدون سبب ستجد نفسك في حلبة عراك تتطاير فيها الأسنان وتُسب فيها كل الأديان. فإذا تجرأت وسألت أحد المتعاركين عما يثير أعصابه، يجيبك بأوداج منتفخة وعيون بارزة : خليني .. أنا صايم!
ليس في الأسواق عراك فقط. فالباعة الذين كانوا بالأمس يبيعون السجائر بالتقسيط، تحولوا إلى باعة الحلويات والبخور. حتى العجائز المحافظات في مجتمعنا المحافظ لا يتورعن من الجلوس أمام ما صنعته أيديهن من الحلويات والثريد والخبز التقليدي. وفي البيت تحتل النساء المطبخ من منتصف النهار إلى آخره. كنت دائما أستغرب كيف تنشغل النساء طوال النهار في إعداد وجبة إفطار يكون مصير معظمها القمامة. بدون مجازفة أعتقد أن رمضان أصعب على الإناث منه على الذكور. إلا أنهن، على ما يبدو، يجدن "متعة" في إعداد الطعام أولا لعرض "مبتكراتهن" من صنوف الحلويات والأطباق من كل الألوان والأوزان خفيفة أو ثقيلة بحسب الحاجة. وثانيا لقتل الوقت على كل حال.
ألفنا في البيت أن تكون مائدة الإفطاربسيطة. شربة حريرة وما يناسبها من لوازم التين المجفف والتمر والشباكية المغموسة في العسل. في المطبخ حركة دائبة تشتد عند قرب موعد الآذان. لا يفطر المغاربة على صوت المدفع كما يحدث في بعض البلدان الإسلامية. ولكن على صوت المؤذن. في القرية التي أنحدر منها كان أصحاب الصوت الجهوري يتطوعون، قبل أن تحل مكانهم مكبرات الصوت. أحاول أن أساعد إشفاقا على من حكمت عليه العادة والتقاليد في المطبخ بالمؤبد. فيكون الجواب دائما: لا! اجلس أنت وراقب الوقت. قصة مراقبة الوقت هذه تتحول أحيانا إلى مشكلة. ماذا لو فات في غفلة. وإذا كان لا بد من المساعدة فينحصر العمل في تهيئة المائدة وفتح جهاز التلفاز استعدادا لمشاهدة نقل صلاة التراويح من مكة المكرمة.
- البغرير: فطائر تقدم عادة مع الشاي
تدهن بالزيت أو الزبدة أو العسل بحسب الأذواق
عندما يرتفع الآذان يلتقط كل منا حبة تمر يفطر بها ثم يتوجه الجميع للصلاة .. فرادى. بعد ذلك نلتحق مجددا بمائدة الإفطار في شكل حلقة دائرية يتصدرها الأطفال الذين تأخذ منهم الدهشة مأخذا. على عكس بعض العائلات التي تبتدئ بتناول الحليب والشاي أو القهوة قبل الحريرة، تعودنا في البيت على تناول الحريرة والحليب أولا. بعدها يأتي دور الشاي المنعنع أو القهوة. كنت في البداية أكثر من تناول الحريرة لدرجة التخمة، إلى أن اكتشفت أنني "أعيش" على الحريرة، فغيرت العادة. أحيانا تُجمع مائدة الإفطار مع العشاء، وأحيانا أخرى يتم تأخير العشاء إلى ما بعد التراويح. أحبذ الجمع لأنني كثيرا ما أخرج للاجتماع بأصدقائي في المقهى. لن أنسى ملامح أحد أصدقائي وهو يشرب سجارته الأولى بعد الإفطار. حينما ينقث الدخان في الهواء يتبعه ببصره نحو الأعلى كمن يُعد نجوم السماء. بادرته ذات يوم: هل أكملت العد؟ فتذكر أنه وسط أصدقائه.
- الحريرة: حساء شامل من اللحم والتوابل بأنواعها والحمص
والمقدونس والبصل وكل ما يخطر على بال، بالإضافة إلى الطحين
في المغرب تتوقف الحياة تماما في الفترة الصباحية من أيام رمضان. فإذا كانت لك حاجة اقضها في الزوال أو أجّلها إلى ما بعد العيد. أما إذا كنت من المستعجلين فلن تجد أمامك إلا مكاتب فارغة، فتلعن الموظف ومشغله وعندئذ تصبح من المفطرين.
تعاني المصالح الإدارية حقا من ظاهرة الغياب في رمضان، مما يلحق الأذى بالمواطنين. ليس فقط الإدارات، أيضا المدارس والمعامل والمحلات التجارية وكل المرافق تقريبا. حتى رجال الأمن يقلون في الصباح. وبعد الزوال تنبعث الحركة في تكاسل إلى ما قبيل آذان المغرب. ما أزال أتذكر منظر مجموعة من شباب مدينتي الصغيرة وهم يسرعون الخطى نحو بيوتهم قبل الإفطار، بينما قضّوا نهارهم منتبذين مكانا قصيا للقمار واللهو والأكل والشرب. فإذا سألتهم لمذا تتسابقون لمزاحمة إخوانكم في البيت، يجيبون: الظروف!!
أتساءل أحيانا عن أسباب مظاهر الورع والتقوى المفرطة عند بعض الناس خلال شهر رمضان إلى درجة التصوف. يطلقون اللحى، يقصّرون السراويل، يكثرون من استعمال عطر المسك الذي يباع بكثرة هذا الشهر كما يباع البغرير. قد يكون البعض صادقا في التزامه بمظاهر التدين. إلا أن توبة أكثرهم موسمية سرعان ما تزول ويعودون إلى عاداتهم القديمة. هذا النوع من انفصام الشخصية والازدواجية يحيرني.
ليس شهر رمضان مناسبة للتعبد والتفكر فقط. بل هو عند الكثيرين مناسبة لرؤية ما تنتجه قنواتنا من برامج ومسلسلات يسمونها دراما وفكاهة. قرأت يوما تعليقا لإحدى الصحف أن المغاربة لا تُضحكهم السخرية المقدمة في التلفزة، ويموتون من الضحك على سخرية الحياة. أدوات السخرية كثيرة في المجتمع المغربي: برلمانيون ومستشارون أميون. وزير أول لا يعرف أسماء وزرائه. أحزاب سياسية تبلع أخرى. وشيخ صوفي يضعه أتباعه في خانة النبوة.
أحب رائحة الطعام في رمضان في المغرب وأنا محاط بأهلي.
محمد امزيان/ اذاعة هولندا العالمية
[/align][/frame]