في حضن الظاهرة القرآنية مع مالك بن نبي.(جزء أول)
القرآن كتاب الله الذي لا يصح إيمان المسلم وإسلامه دون التصديق به والإيمان التام بما جاءفيه من آيات وسور.
منذ نشأة الإسلام الأولى وإلى يومنا هذا ظل كتاب الذكرالحكيم الجوهر والمنهل الذي على المسلم أن يرتوي منه ويحافظ عليه ويدافع عنه إن ابتغي به سوء أو شيئ تدنيسه بأي بهتان أو قدح.
الكثير من العلماء والمفكرين جعلوا منه حقلا لدراستهم وتمعنهم و تحليلهم فكان لبعضهم أن وازوه بالكتب المقدسة التي سبقته كالتوراة والإنجيل ووضعوا مقاراناتهم وملاحظتهم ولآخرين أن اقتبسوا النصوص للتشريع والاجتهاد ولثلة أخرى أن بحثت في مظاهر الإعجاز التي يحملها خاصة وأنه ونزوله يعتبر المعجزة التي خص بها الله نبيه الأمي
بين كتب ومحاضرات وندوات كثيرة نجد قواسم مشتركة في إبراز قيمة القرآن وإعجازه وقد مكن التقدم العلمي والتنقيب في ظاهر ومؤول الآيات بالربط بين الاثنين وكثف من حضور موضوع"الإعجاز العلمي للقرآن" فيما يطرحه الدعاة والمفكرون المسلمون.
مالك بن نبي ،المفكر الجزائري الراحل, الذي أقل مايمكنه القول عنه قبل ذكر أي شيء آخرهو أنه جهبذ لم يوتى حقه وعبقري سبق كلامه تطور زمانه ،سلط بدوره الضوء على القرآن في كتابه""الظاهرة القرآنية" المبتدأ بإهدائه الشفاف الملامس للقلوب.
'إلى روح أمي، إلى أبي. ..الوالدين الذين قدما لي في المهد أثمن الهدايا...هدية الإيمان".مالك
عنوان الكتاب هو الأنسب والأدق لماورد فيه وللطريقة التي تناول بها مالك بن نبي القرآن في صفحاته؛ فقد جعل من هذا الأخير المركزالذي أحاطت نزوله ظروف مميزة ومتغيرات كثيرة وتم تلقيه من طرف شخص متميز جدا عن بني قومه هو الرسول محمد بن عبد الله القرشي الأمي الذي سيثبت الكاتب ،من خلال استعراضه لمبدأ النبوة وحالتها وخصائصها الذات المحمدية والوحي وكذلك نموذج النبي أرمياء، أنه متميز بنبوته ورسالته ونفسيته عن البشرالعاديين.
في حديثه عن النبوة يذكر شهادة النبي أرمياء عليه السلام على نفسه حين يقول:'لقد صرت محور سخرية طيلة النهار؛لأني كلما تكلمت وجدتني مضطرا لأن أصرخ ،وأعلن الجبروت والخراب؛لقد صارت كلمة الله بالنسبة لي مصدر عار واستهزاء مستمر:فإذا قلت لم أعد أذكره وأتكلم باسمه ،وجدت في قلبي كالنار المضطرمة المستكنة في عظامي ،فأحاول أن أطفئها لكن لا أستطيع".
فالأنبياء اشتركوا في عدم تخليهم عن الدعوة رغم كل مالاقاهم من سخرية وتهكم وأذى.وكذلك في عدم استنادهم بالضرورة لمنطق الأحداث في ماينذرون به أو يعلنون عنه فيكون بذلك ثبوت مايتنبؤون به رغم مخالفته للتوقعات أو لسياق الأحداث أمرا غير متاح لغيرهم من البشر
الارتباط الوثيق بين الذات المحمدية والقرآن دفعا مالك بن نبي للحديث عن حياة الرسول منذ مولده حتى وفاته بتفاصيل أقل من مانجده في كتب السيرة لكن بتركيز أكثر على بيئته وسلوكه المختلف ونفسيته وماطرأ في حياته من أحداث بارزة تجلت فيها مواقفه العظيمة وتنزيهه وسموه .
وأذكر هنا مثلا الفقرة المتحدثة بداية غزوة بدر ثم عن حكمة الرسول ومعرفته و إدراكه لما قد خفي عن غيره:
وسنجد"محمدا"عندما ستدق ساعة بدر،بعد أن يكون قد اتخذ أهبته الحربية الكاملة ،نجده وقد شعر بخطورة اللحظة التي ستقرر مصير الإسلام، وقد رأى التفوق العددي لأعدائه بالنسبة لحفنة الرجال التي يقودها، نجده يرفع عينيه إلى السماء ويقول:"اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض،اللهم أنجز ماوعدت"
وهذه الكلمات البسيطة تدل على أن بدرا ليست كمعركة"كان" أو"استرليتز" أو سنغافورة".
ولقد كانت هذه الملحمة تتحرك بعبقرية محمد القادرة وإرادته الخارقة، متتبعة وثباته من نصر إلى نصر ...حتى حنين
وإن عمق آرائه ليحير أحيانا صحابته أنفسهم، فإن أول عمل دبلوماسي أمضاه مع مبعوثي مكة، سيكون لبعض الصحابة موضع دهشة ومبعث عار تقريبا. فقد جاء الرسل من مكة ليصلوا مع النبي إلى أن يسلمهم من وقت توقيع المعاهدة كل مكي يأتيهم هاربا إلى معسكره،إذ كان كثير من المؤمنين المستضعفين بمكة سيهربون من اضطهاد قريش، ويجيئون لينشدوا الأمان في مدينة الأنصار.
ولقد وقع النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة التي طبقت في الحال دون أن تكون ذات أثر رجعي، وبدا هذا النص العجيب وكأنما قد أتاح لمكة نصرا دبلوماسيا، تذمر منه المسلمون ورأوه فضيحة لهم.
وفي اللحظة التي كان المبعوثون يتبادلون فيها وثائق التصديق، تقدم هارب مكي إلى المعسكر الإسلامي، فطالب به رسل مكة في الحال، ولم يملك النبي إلا أن يسلم بالواقع في الحال، مثيرا بذلك ذهول صحابته،
وأعيد الأسير لكنه أثناء الطريق غافل القوم وهرب منهم ،وأوى إلى مكمن احتمى به وبعد قليل انضم إليه كثير من إخوانه الذين هربوا مثله من الاضطهاد وإذا بهؤلاء الخارجين على القانون قد نظموا على الطريق نهبا لقوافل مكة،فشلوا بذلك في زمن قليل تجارة المدينة القرشية كلها، حتى إنها رأت أخيرا أن تتوسل راغمة إلى النبي ليقبل المؤمنين الهاربين لى معسكره
[وجملة القول أن النبي قد ظفر بجميع امتيازات المعاهدة التي بطل منها الشرط الوحيد القاسي؛ أبطله المنتفعون به أنفسهم.
مالك بن نبي في كل ماسرده في إطار حديثه عن الذات المحمدية عد الصفات الرائعة والقيادية للرسول صلى عليه وسلم ودعمها بالأمثلة والوقائع التاريخية التي يرسمها كصور يتفكر فيها القارئ وأذكر هنا مثلا حديثه عن بناء أو ل مسجد في الإسلام وقوله:
'فلقد كانوا يؤسسون أول مسجد في الإسلام على تقوى من الله ورضوان،ولقد كان النبي كما كان صحابته يحملون الأحجار على أكتافهم وكل منهم يحمل لبنة، ولكنه يلحظ مؤمنا متواضعا هو عمار بن ياسر كل مرة يحمل لبنتين فيخاطبه ليذكي حماسته فيقول:'للناس أجر ولك أجران".
وهكذا كانت سائر المناسبات تتيح له أن يشجع صحابته ويعلمهم أيضا".
بعد تطرق الكاتب للجوانب والميزات العديدة لشخصية ونفسية الرسول فإنه يلقي الضوء على الطريقة التي أنزل بها القرآن ،(فالهدف كان ولازال الإحاطة بالظاهرة القرآنية)،والتي هي الوحي
يحاول في هذا الصدد التطرق لما ارتبط بهذه الكلمة من أوصاف وتعاريف ويجلي عن تعريف الشيخ محمد عبده للوحي غموض تفسير اليقين عند النبي الذي يجعل منه نقطة ثانية ينتقل إليها مستدلا بآيات بديعة من القرآن الكريم دعمت نفسية الرسول وموقفه مثل:]
"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14).سورة النجم]
"و:فان كنت فى شك مما انزلنا اليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ( سورة يونس 94 )
ويبدو من كل ماورد سواء ا من جوانب حياة محمد قبل النبوة التي طبعها اليتم وحنو الأقارب و اكتساب صفة الأمين ،في بيئة اتسمت بالفساد والعربدة واتباع الشهوات و التأمل والعزلة أو مع بدايات تلقيه الوحي والأمر بالدعوة واستمرار ذلك أن الرسول الكريم الإنسان الذي كان يبدو لمن لم يعرف قدره أميا بسيطا حمل على عاتقه حملا ثقيلا جدا ومسؤولية عظيمة تتجاوز قدرات أي بشر عادي مهما ارتفع مستوى ذكائه أو أخلاقه أو هما معا..
فتفضيل محمد على غيره بقدر ماكان مشرفا و مميزا له بقدرما كان من جسامة وثقل مسؤولية.
في إطار الجمعبين الذات المحمدية و الوحي لايفوت مالك بن نبي أن يضحد أية إشارة لكون القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه تصرف فيه وذلك بضربه مثلا آيات قرآنية بالغة في الروعة والبلاغة وهي:{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } . من سورة يونس
حيث ذاك الانتقال من ضمير"كم" إلى ضمير "هم"الذي ليس خطأ نحويا لأنه موضوع بأسلوب أدبي كامل يحمل تلك المخاطبة للذات المحمدية أولا مقصودة مباشرة ضمن المخاطبين(الذين يسيرهم الله في البر والبحر)ثم شاهدة غير مقصودة مباشرة على مشهد قرآني(وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ..)الأمر الذي يثبت عدم تصرف النبي في آيات الله وكذلك الدلالة على اختلاف الخطاب القرآني عن الخطاب الإنساني مهما كانت بلاغته.
حين يتأمل المفكرمدة وكيفية نزول الوحي التي كانت ثلاثة وعشرين عاما تنزل فيها سور متفرقات حسب مشيئة الله لتفصل بين كل وحي ومايليه فترات زمنية مختلفة الطول والقصر فإنه يخرج بالرد على الملاحظةأو التساؤل الذي قد يطرحه الجاحدون :
*ألم يكن ممكنا تدفق الوحي جملة واحدة من العبقرية الإنسانية التي تدفق منها؟
يقول" :لو كان القرآن نزل جملة واحدة لتحول سريعا إلى كلمة مقدسة خامدة وإلى مجرد وثيقة دينية ،لا مصدر ا يبعث الحياة في حضارة وليدة.
والقرآن يبرز هذه الخاصة الخفية في الآية:"وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت فؤادك ورتلناه ترتيلا"الفرقان ٣٢؛٣٣
كما أنه يطرح مجموعة أسئلة تظهر جليا الاستخفاف بالسؤال وقلة الحكمة في طرحه فالإسلام كان ينتشر في ربا الحجاز ونجد والوحي يتنزل بالدرس الضروري للثبات والصبر والمثابرة والإقدام والإخلاص..والألم والأذى الذي كان يصيب المسلمين وانتشار الدين في بداياته كان يجد عزائه في الآيات القرآنية المنزلة..ومع اجاباته الحكيمة هذه سأختم هذا الجزء الأول من تأملاتي في كتابه"الظاهرة القرآنية".
و أتمنى إضافة جزء ثان للغوص مع مالك بن نبي في مظاهروتجليات قرأنية أثبتت ولازالت أن القرآن هو المعجزة لكبرى لخاتم الأنبياء و الرسل محمد صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى:"كتاب أحكمت أياته ثم فصلت من لدن حليم خبير" {سورة هود:آية1}.
صدق الله العظيم.
Nassira.
*ملاحظة:
قد لاأكون أضفت الصلاة والسلام كلما ذكرت النبي صلوات الله عليه أواسمه لكن أتمنى أن تقولوها في نفوسكم كلما وردت ألفاظ تدل على شخصه الكريم.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|