حيث توجد الطفولة يوجد بداخلها عالم اللامعقول واللاواقعي .. عالم الخيال و الإبداع . فالطفل يستطيع أن يقفز و يطير في عالم الخيال اللامحدود , ويزيح بيديه الصغيرتين ستار العقل و النضج و النظام , ليدخل إلي عالم اللانضج و اللانظام .. حيث التجاوز و التجريب , هنالك لا تحتسب الأخطاء والتخريب و المحاولات الأولى وتجارب الفشل .. وتحسب فقط النجاحات و الإبداعات و أفكار الأمل .
   محاولات الكبار لدخول هذا العالم – علم اللاواقعية و اللامعقول – ماهى إلا إقتحام لعالم خيالات و إبداعات الطفولة . يحاول الكبار تعليم الطفل قوالب الحفظ و الترديد و التلقين للموروثات القديمة و الأفكار و العادات الرتيبة السائدة .. يمنع الطفل من أن ينتهج أساليب طفولية تتميز بالبساطة و التلقائية و العفوية .. 
يبدع الأطفال .. فينبهر الكبار ! 
يتساءل الكبار : من أين أتتهم الفكرة ؟ ومن أين إكتسبوا هذه القدرة ؟ ماهو سر هذا الإبداع ؟
 أهؤلاء لا يعلمون أن سر النجاح و الإبتكار و الإبداع لدى الطفل هو البساطة و الصدق و التلقائية و العفوية !
   إن الأطفال يعبرون عن أفكرهم و أحلامهم و مخزون ذاكرتهم بطريقة تلقائية بسيطة , لم يلوثها بعد أساليب و أنماط  الكبار المنظمة , المرتبة , المنمقة , المملة .. التي تحسب وتدرس تفاصيل  كل شئ وتضع له مئة خطة و ألف  حساب.. الأطفال يبكون و يصرخون .. يضحكون وينفعلون بصدق وتلقائية , يكسر ويحبط هذا الصدق أوامر و تعليمات الكبار .. "لا تفعل" .. "لا ينبغي" .. " لا يجوز " .. " توقف "  .. " تحرك " .." إجلس " .. " أسكت " .. 
تزداد الأمور تعقيداً لدى الطفل عندما يجد نفسه مجبراً على إتباع أوامر وتعليمات الكبار .. مجبراً على تنفيذ مطالبهم .. محاطاً بأسوار الممنوع و المحذور .. محروماً من المطلوب و المرغوب . ويبقى الطفل دائماً داخل الأسوار الحديدية المحاطة بالكرة الفولازية المغلقة .. لا يجوز له الخروج منها أو اللعب و اللهو والإنطلاق خارجها.
   لا يحطم خيال الطفل الجميل المُبدع , وواقعه المُشرق المُبهج  سوى أحداث مُؤسفة أو أوامر مُحبطة يصنعها الكبار , أو تخلقها الأقدار .. فتجبر الطفل على الهبوط إلى واقع ونمط حياة الكبارالقاسية المعقدة , بكل جمودها  وجموحها .. و تعقيداتها وحدودها و حواجزها .. فينفذ التعليمات بكل حرفية..بدون إستقلالية. لا يخرج عن القواعد و المألوف , لا في الواقع ولا حتى في الخيال .. تموت الأفكار الجديدة و الجميلة في عقله قبل أن تولد , وتجهض كل المحاولات و الابتكارات العجيبة والغريبة في خياله قبل أن تنضج .. ويتحول عقل الطفل الصغير إلى سجن كبير !
   قذائف متلاحقة من الأوامر و النواهي و المحظورات والممنوعات تصيب عقله وفكره الطليق , فيكف عن التحليق و الطيران .. ويجبر على السير بخطوات بطيئة متثاقلة خلف أقدام الكبار .. على نفس الطريق وبنفس الأسلوب و المنهج , ويصبح الطفل دمية في صندوق تتكلم وتتحرك بإرادتنا – نحن الكبار – تتعلم وتردد مانقول , ومانريد أن يكون !
حتى الغناء فرض و إجبار لترديد أغنيات الكبار .. ببغاوات تحاكي الأصل في الكلمات , وفي تتبع اللحن و الإيقاع , في درجة الصوت .. وفي السكوت ! " هيا كن مثلنا " , " سر على نفس النظام " و " إياك و الخروج عن القضبان ".. " أنت الآن رجلاً " !
نظرة إلى وجوه أطفالنا ..  شيخ في قناع طفل .. وامرأة في قناع فتاة ! .. أصباغ وألوان تلطخ وجوه الأبرياء .. تمسح علامات الطهارة .. وتمسخ تقاسيم البراءة .. تشوه الحلم الجميل و تحطم الأمل الجديد .. إننا نصب عليهم ذنوبنا و همومنا و مشاكلنا .. ونعاقبهم بدلاً من أن نعاقب أنفسنا .
لماذا نقتل طاقة الخلق و الإبداع لدى الطفل ؟ 
لماذا نخنق بأيدينا الطلاقة و العفوية لديهم ؟
لماذا نمنع طائر الخيال و الأحلام و الإبتكار من أن يحلق ويطير و يرفرف بجناحيه ويجوب أقطار السماوات و الأرض ؟
لماذا نسجن طائر التلقائية الطفولية الفطرية في قوالبنا ا لجامدة و في سجون عقولنا وأفكارنا الثابتة المتحجرة ؟
لابد من إطلاق طائر الحلم و الخيال و الإبتكار و الإبداع لدى الطفل , لكى يطير و يحلق ويعبر بصدق عن شخصيته الإبداعية الطفولية , فيحاول ويجرب .. يفشل وينجح .. ينطلق و يبدع .. ويعلمنا – نحن الكبار – كيف نطير في سماء الخيال و الفكر والإبداع .. فمنهم نتعلم الطيران .
تحياتي   .. د/ ناصر شافعي