الحرم
[frame="10 98"]
[align=justify]
رفع ورقة التقويم وقرّبها من عينيه /الجمعة 15 رمضان 1414هـ-25شباط 1994م/ غرقت الورقة بالدم.. أخذت تنقط.. ثم انفتحت بركة حمراء لا نهاية لها.. سجد المصلون في الحرم الإبراهيمي الشريف.. فجأة هبّ الرصاص وحشاً لا يعرف الرحمة.. التفتت مدينة الخليل وحاولت أن تمسح دمعة ونشيج روح.. عندها كان صوت المؤذن شجرة خضراء في القلب والشريان.. قال وهو يقبض على ورقة التقويم: "صلاة الفجر معلقة بسجود هؤلاء الراحلين.. فمن يعيد لهم أمان صلاتهم"؟؟ بحث في شوارع المدينة عن جواب ..غصّت الطرقات بالأقدام الراكضة.. الدم في كل مكان.. الصرخات تطال الجدران والشبابيك والأبواب.. في لحظة النشيج اقترب من المرآة.. حدّق في وجهه.. قال "من يعيد أمان الصلاة لهم"؟؟ رأى في المرآة وجهاً آخر لا يعرفه.. كانت الملامح إشارة استفهام كبيرة.. هوت قبضته على المرآة.. هرب الوجه المسطح واندلق.. ركض في الشوارع.. أخذ يصرخ.. أراد أن يرى وجهه الذي كان.. أن يقبض على جزء من ملامحه.. لكن هيهات..
عدد الشهداء في تزايد.. بركة الدم تفتح فمها وتصرخ.. على حافة السؤال وقف وأخذ ينادي.. كان الناس يركضون.. الشوارع تخلع ثيابها وتحمل الجرحى وتركض.. السيارات تزعق وتنهب الأرض نهباً.. قال: "كيف حدث ما حدث" سقط السؤال جثة على الأرض.. انحنى.. حاول أن يرفعه.. تبخر وانطوى في الهواء.. تركه ومضى.. في الطريق كان يشاهد الأسئلة جثثاً لا تجد أكفانها.. تمنى للمرة الألف أن يستعيد شيئاً من ملامح وجهه.. اقتربت المرآة.. رفع يده ومسح السطح اللامع.. أطلًت العظام من بين أصابعه وانطبعت في المرآة فشعر بالرعب.. نظر في يده.. لم تكن كما كانت من قبل.. حدّق في ملامح وجهه.. أخذت صور الشهداء تتلاحق بسرعة مذهلة.. كل شيء تحوّل إلى صور.. تسقط المرآة وتغوص.. ينهض الشهداء ويدخلون في عينيه.. يغمض الصورة ويحاول أن ينام.. تنفتح عيناه اتساعاً على الدم..
أخذت ورقة التقويم شكل شجرة ذات أغصان كثيرة.. كل غصن يحمل عدّة وجوه.. الوجوه أزهار.. الأزهار تنفتح مطلقة صورة وراء صورة.. الشهداء يسيّجون الشجرة.. اللحاء دم.. الجذور دم.. يمدّ ذراعيه فيمتدان ويمتدان.. يطوق الشجرة.. تنهض الوجوه وتأخذ في الصراخ.. يصيح "من يعيد أمان الصلاة لهم"؟؟ تصرخ الشجرة ذات الوجوه الكثيرة "من يعيد الأمان لهم"؟؟.. يرتفع الصراخ.. خاف أن يحدث بركان ما.. الأصوات تعلو.. الوجوه تطلع من كل مكان.. يداه تمتدان.. الشجرة تكبر.. يتساقط الدم.. عقارب الساعة تأكل القلب.. مدينة الخليل تحمل حجراً وتركض في شوارع الوطن.. في العينين دمعة وجمرة.. لأول مرة يرى المدينة هكذا.. أوراق التقويم نسخة واحدة.. يرفع الورقة الأولى.. الورقة الثانية.. الثالثة.. الرابعة.. ودائماً /15رمضان.. 25شباط/ لا يصدق.. يرفع الأوراق كلها.. لا يجد أي تغيير.. يجمع الأوراق ويحدّق.. تبدأ في الانفتاح على الدم.. تغرق.. وتأخذ في الوميض.. تبدأ الوجوه في الظهور من جديد.. تشكل في البدء صلاة ومئذنة ونداء.. ثم تذهب في الشوارع.. في المدن.. في العالم.. ترفع صوتها.. تصرخ.. تلتفت الدروب المؤدية إلى الأقصى وتئن.. يرفع رأسه ويبحث عن حدود أصابعه.. يصيح: "من يعيد أمان الصلاة لهم"؟؟ تئن الدروب المؤدية إلى هناك وتجمع باقة من دم ترفعها إلى الأعلى.. تصير الباقة نجوماً وحدقات تنظر وتنتظر.. حاول المطر أن يغسل الجرح فتجمد لهول ما رأى وآثر الانسحاب.. ارتفع العلم مخضباً بالدم.. انبثق الصباح ملوناً بالدم.. لفت الخليل وشاحها الأحمر ونادت، فأتت المدن كلها وهي تمسح دمعة بيد، وتحمل حجراً باليد الأخرى.
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|