ثقافة الاعتدال أم ثقافة الهزيمة أم خيانة المصطلحات؟؟ ـــ د.حسن الباش
لعل ما تشهده الساحة الثقافية والإعلامية في هذا العصر العربي المتردي من محاولة تكريس ثقافة الهزيمة ينذر بتصادم حقيقي بين تيارين يتصادمان ثقافياً وإعلامياً وتربوياً وحتى على مستوى التعليم في كافة مراحله.
ثقافة الهزيمة، تنقلب إلى ثقافة اعتدال، ثقافة المقاومة تنقلب إلى ثقافة تطرف وإرهاب. ويكاد بعض المستثقفين يقع في فخ هذه المقولات ويُظهر نفسه في مراجعة لثقافته وما درج على تعلمه من مصطلحات وكأنه اكتشف مرة واحدة أنه ربما كان على خطأ أو أنه كان مخدوعاً أو مغسول الدماغ.
ويبدو واضحاً أن تقسيم العرب إلى معتدلين وغير معتدلين هو تقسيم أميركي صهيوني أطلقوا مصطلحاته وراح العرب يتداولونها أو يصدقون أن هذا التقسيم حقيقي أو منصف.
ما معنى المعتدل ومعنى المتطرف؟
ليس عجيباً أن نرى عشرات الحيثيات بعشرات المواقف تندرج في دائرة الاعتدال والتطرف حسب التصنيف الأميركي الصهيوني.
فالذي يعترف بـ (إسرائيل) كأمر واقع معتدل، والذي يسعى سراً وعلانية إلى التطبيع مع هذا الاحتلال الإسرائيلي معتدل. والذي يصف عمليات المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان والعراق بالحماقة والانتحار هو معتدل. والذي يتحالف مع الولايات المتحدة ويتغاضى عن حروب الإبادة للشعب العربي والمسلمين هو معتدل.
وإذا كان الناس على دين ملوكهم وسلاطينهم، فإن هذه المقولات تُفرض على الساحة الثقافية والإعلامية أو أن الأنظمة تحقن المثقفين والإعلاميين بحُقن التبديل والتغيير وغسل الأدمغة حتى تصبح الثقافة ـ كما يحبون ـ ثقافة الاعتدال. ويصبح الإعلام إعلام اعتدال كما هم الناس معتدلون.
وإذا كان هذا الذي يتصرفون يسمونه اعتدالاً فما هو التطرف إذاً؟
التطرف يعني عدم السكوت على سلب الهوية واحتلال الأرض.
والتطرف يعني مقاومة الاحتلال بكل أشكاله.
والتطرف يعني عدم الاعتراف بكيان أقيم على أرض فلسطين بالقوة والغصب وطرد السكان الأصليين من ديارهم.
والتطرف يعني أن تطالب بانسحاب قوات الغزو الأميركي من العراق والصومال وأفغانستان ومن أي مكان على وجه الأرض تعرض للغزو وللاحتلال والإبادة.
وما بين الاعتدال والتطرف لا توجد حتى بضع هوامش يهمس من خلالها بحرية وكرامة إذا كانوا يعرفون معنى الحرية ومعنى الكرامة أيضاً.
فيما بين هذا وذاك ألغي من القاموس مصطلح الخيانة والتآمر، والتواطؤ وعدم المسؤولية والتنصل من الواجب القومي أو الإسلامي. وألغي مصطلح المقاومة والنضال والاستشهاد والدفاع عن الحق.
لقد أصبحت هذه المصطلحات من مخلفات الماضي! ويجب أن توضع في متاحف الكلام لأن العصر الحالي لا تناسبه مثلها.
اتركونا من هذه العواطف ولنكن واقعيين وعصريين!!
إن هذا هو حال الثقافة المفروضة في كثير من أجزاء وطننا وبلداننا الناطقة بالعربية وهذا هو حال الإعلام وخاصة المحطات الفضائية التي تُصرف عليها المليارات حتى تنجح في ترويج ما يسمى ثقافة الاعتدال والواقعية والمعاصرة.
عذراً.. ولننظر إلى واقع ثقافتنا المنقسمة اليوم إلى ثقافةِ مقاومةٍ واقعيةٍ وإلى ثقافةِ هزيمةٍ شاذةٍ وغير واقعية ولا منطقية.
كم عدد المحطات الفضائية العربية؟ ربما كانت خمسين محطة وهذا تقديرنا ـ نحن الذين لا نهتم بما يخالف ذوقنا وثقافتنا ومبادئنا. ولكن المفاجأة أن عدد المحطات العربية أو لنقل الناطقة بالعربية بلغ حتى الآن 160 محطة. وقد رفع بعضهم العدد إلى ستمائة محطة. ولا ندري فنحن لم نتعرض لإحصاء دقيق لها.
هذه المحطات على كثرتها تشتهر من بينها ما يسمى روتانا ولا ندري من أين جاؤوا بهذا الاسم عدة محطات لشركة واحدة. لا تقدم إلا ثقافة الهزيمة وفن الهزيمة وهزلية الهزيمة. محطات للأفلام، للغناء الهابط. للعاريات الكاسيات والمقصود منها تضييع الشباب وإضاعة كرامة الفتيات وإضاعة كل قضايانا المصيرية وماذا يهم؟ فلنضيع كل مبادئنا وثقافتنا وهويتنا طالما أن العولمة والمعاصرة لن تدخل عالمنا إلا إذا رسخنا ثقافة الهزيمة، ونسينا أو تناسينا جراحنا الغائرة والتي ظلت وتظل تنزف منذ عشرات السنين.
أما ما نقول عنه ثقافة المقاومة فهو في رأي المنظرين والدافعين للانهزام ليس سوى تطرف وإرهاب. وربما سيأتي وقت نرى فيه الشاعر فلان أو الروائي علاّن اتهم بالإرهاب وزُج في غونتنامو جديد لأنه يصف العدوان بالعدوان، ولأنه يحيّي المقاومين الذين يرفضون الاحتلال والابتزاز والاستعباد والاستغلال أو لأنه قال قصيدة أو خاطرة يحن فيها إلى قريته أو مدينته التي ترزح تحت نير أبشع جيش عنصري عرفه التاريخ.
ثقافة المقاومة غير واقعية لأن الواقع المفروض على الأمة هو واقع القوة والبطش والتهديد والحصار والتجويع. فعلى الذين يرفعون هذا الشعار أن يتخلوا عن هذه العواطف التي كانت تصلح لعقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وثقافة الاعتدال واقعية لأنها تكسب رضا القطب الأميركي وذيله الكيان الصهيوني. فلا حول ولا قوة إلا بأميركا وبإسرائيل!!
ثقافة الهزيمة ثقافة الخيانة:
نقولها وبكل صدق وبكل أمانة ثقافة الاعتدال هي ثقافة الهزيمة، ثقافة الخيانة، وكل مثقف يدعو إليها محكوم عليه بالخيانة. لا تقبله قبيلة جاهلية ولا حضارة عربية ولا هوية قومية أو إسلامية.
ولنسمّ الأشياء بأسمائها ولا نخون المصطلحات ومن وضعها قبل آلاف السنين.
وإذا كان بعض الذين يروّجون لثقافة الهزيمة قد هانت عليهم كرامتهم وهويتهم وهانت عليهم الخيانة وينتظرون من الأميركيين أن يُدخلوهم جنة المحافظين الجدد فإنهم في مقياس الخيانة سيتساقطون وترفضهم ثقافة الغرب بل وتلفظهم. لأن الأقويان يرون في الذي يخون قيم شعبه خائناً قد يتخلى عنهم في لحظة ما. فلا هو بقادر على أن يعود لثقافة أمته، ولا هو بقادر أن يقنع أسياده بأنه نافع لهم.
وإذا جاز لنا أن نتفلسف بعض الشيء فإننا نقول إن المصطلح الذي يُجبَر أن ينحاز عن معناه لبعض الوقت لابد أن يعود إلى أصله وفصله ومعناه إن عاجلاً أو آجلاً.
وطبيعة الأشياء ومنطقها يقول إن هذا المصطلح خُلق لهذا المعنى وليس لسواه ومن يستطيع أن يلوي عنق المصطلحات أو يكسر عظامها؟ إن المصطلح لا يقبل أن تسميه اعتدالاً وهو هزيمة. ولا يقبل أن تسميه إرهاباً وتمرداً وهو مقاومة وثورة ودفاع عن الحق.
دعونا نقول لكم أيها المعتدلون: إنه يوم زحف التتار واحتلوا بغداد ثم حلب ودمشق وتوجهوا لاحتلال مصر. نشروا عملاءَ لهم يروّجون للاستسلام وعدم مقاومة الزحف التتري الهائل. وبات الناس في حيص بيص. لكنْ قُدِّر للأمة أن يخرج من بين صفوفها رجال يتصدون لثقافة الهزيمة ويشحذون الهمم وينشرون ثقافة المقاومة. وتحدث معركة عين جالوت، وتنتصر الأمة وتلاحق فلول التتار حتى أجلتهم إلى أبعد من بغداد.
ليس قصدنا سرد هذا، إنما نقول لكم إن بعض عملاء التتار الذين خانوا الأمة وقفوا بين يدي قائد التتار يعرضون خيانتهم للأمة. وعندما أُمروا بالذهاب بعيداً عن مواقع التتار. تفّ قائد وقال لجنده: إن وجدتم هؤلاء اقتلوهم. فمن يخون أمته فلا عجب أن يخوننا.
وماذا كانت النتيجة؟ لقد انتصرت ثقافة المقاومة على ثقافة الهزيمة وذهب المروّجون للهزيمة أدراج الرياح يلعنهم أبناء أمتهم ويلعنهم أسيادهم ويلعنهم التاريخ. وتدرون كم مضى على معركة عين جالوت. ومازال قارئو التاريخ يلعنون هؤلاء الذين باعوا أنفسهم لأوهام الشيطان.
أتدرون لماذا نضرب هذا المثال؟ لعلكم تراجعون أنفسكم بعد أن تراجعوا صفحات التاريخ. وتدركون ما هو مصير ثقافة الهزيمة وما مصير أصحابها.
وإذا لم يرقْ لكم التاريخ وأمثلته فأنتم في حل من هوية الأمة ولكم الخيار أن تنتسبوا لأمة أخرى عسى تجدون عندها ما يروق لكم من ثقافة جديدة وحياة جديدة وآفاقٍ ليليةٍ جديدة!!
المهم أن قاموس الثقافة العربية وكذلك أي ثقافة واقعية لا يحتمل أن تصرف الألفاظ عن معانيها أو تحرّف عن مقاصدها. ونحن نرى أن ذلك القاموس اللغوي جزء من هويتنا وتراثنا وحضارتنا الفكرية ولا يُسمح أن يمس إلا بالخير والتطوير ولعلنا نعرف جميعاً مصير من حرفوا الكلم عن مواضعه فحرفوا مسار المقدس إلى مدّنس ومازالوا في محل الذم والقدح واللعنة وسيبقون كذلك إلى ما شاء الله.
ثقافة الهزيمة.. نعم.. هي المصطلح القاموسي والمعرفي الصحيح لوصف تلك الثقافة الداعية للتطبيع والاستسلام وخيانة الثوابت القومية والاستسلامية. أما أن نقول ثقافة الاعتدال فإن في ذلك ظلم فاحش لمعنى الاعتدال أولاً. وفي ذلك انحراف الاسم عن المسمّى ثانياً. وفي ذلك خيانة للهوية والتاريخ والانتماء ثالثاً.
ثقافة المقاومة ضمان لاستمرار المطالبة بالحقوق والحرية وتطهير الأرض من كل أشكال الاستعمار. وضمان لصحة عقول أبناء الأمة وأجيالها وصحة ضمائرهم وانتمائهم. وهي الضمان لعدم الانجرار وراء دعاة الهزيمة والاستسلام والتفريط بالثوابت. وهي في أساسها إبداع جماهيري لم تأتِ مستوردة أو مورّدة من الخارج إنها تراكمات ثقافية تمتد بجذورها آلاف السنين عندما قاوم العرب القدامى الغزو والتسرب الأجنبي إلى أرضنا العربية.
أما ما يسمى الاعتدال فهو مصطلح أريد له أن يعبر عن حالة هو بريء منها. راحت ألسنة الأميركيين والإسرائيليين تلوكه. وتصف به بعض أبناء الأمة وبعض أنظمتها لتغطي على ثقافة الهزيمة والمهزومين.
وشتان بين من يحافظ على مفردات قاموس الأمة بمعانيها التي تستحقها وبين من يحاول أن يصنع مفردات حسب المواصفات الخارجية ليسوّقها بين الجماهير فتنحط إلى أدنى مستوى من التفكير والمواقف. استحى عصر الانحدار أن يقبل بها.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|