رد: جسر اللقاء بين ضفتين حوار خاص من خلف البرزخ مع الشاعر طلعت سقيرق/ هدى الخطيب
[align=justify]هدى - خفت عليك كثيراً وكنت أنتظر عودتك وما كان لي أن أصدّق رحيل الرحيل طريقاً تسلكه.. لأنك كنت أقرب وأعز من أن أدفع فاتورة الحزن عليك.. كنت أنتظرك لنكمل الحديث الذي استغرقنا طويلاً حول الموت وماهية الموت... لكنك كدت تعود ولم تعد وسرت في طريق الرحيل!
علمني رحيلك أمورا كثيرة لم أكن أعرفها.. أدركت أننا لا نموت مرة واحدة وإنما على دفعات وأن رحلة الموت تبدأ عند مفترق ما .. فأنت بدأت رحلة الموت منذ وفاة عمي يحيى .. وأنا بدأت رحلتي عندما رحلت أنت.. والسير في درب الأحزان غير السير في درب الموت البطيئ... علمني رحيلك أن حياتنا لغز وموتنا لغز...
اليوم أفهمك تماماً وأفهم هذه الحالة التي تحاصرني وتعتريني حتى لم أعد أعرف إذا كنت من الأحياء أو من الأموات .. ولكن دعني أسألك وأنت الذي خضت التجربة:
حين تنطلق الروح في فضاء الكون الفسيح تاركة الجسد – مركز الأعصاب والألم والأمل والعقل الذي يخزّن الأحلام ويفترش الآمال - ويعود إلى التراب لتنبت منه شجرة أو زهرة أو عشب...
هل ينسلخ الروح بانسلاخه عن الجسد من كل ما كان؟
من فرحة.. من دمعة أحرقت صفحة الخد.. من عشق وطن وأهل وأحلام عريضة ..
حين يتحرر من الجاذبية ويكسر حاجز الزمن .. والانتظار والترقب والخوف من المجهول الذي لم يعد مجهولاً ....
حين يعود التراب إلى التربة ويغدو الكون كله بعوالمه ومجراته وأزمانه وطناً؟!
تغدو العروبة لحظة وفلسطين ذرة في رمال..
طلعت - لا يا هدى .. ليس أمر الروح كذلك .. الموت قمة النضج والإنسان ذاته بروحه لا بجسده البالي..
تجتاز الروح جسر الخوف وتصل إلى ضفة المعرفة والاطمئنان ، والإيمان بعدل الله يتحول إلى يقين..
لو كان الأمر كما تتصورين لكان خلق الله للإنسان عبثاً ولهوا وحاشاه سبحانه من العبث..
كل المعاني تعيش في أرواحنا والتربة التي خُلق منها جسد الإنسان تربة حيّة ، فالذرّة عالم والكون كله مشحون بحياة لها قوانينها الدقيقة متصلة ببعضها البعض تناسبها وتستمدها من نور السموات والأرض والروح كما تمتد خارجاً عن الجسد أثناء النوم وتحافظ على اتصالها به ، كذلك أمر هذه الروح تظل على اتصال بتربتها التي يعود اعتناقها عند البعث ، وإلا لدخلت أي روح بأي جسد وتنقلت الروح بين الأجساد ودخلت في الجسد أكثر من روح، وعليه فالروح العربية تبقى عربية وتربة فلسطين تبقى للروح الفلسطينية وطناً من طينها جبل في الحياة الأولى ومن تربتها نفسها سيبعث.
هدى - ماذا عن الشعر ياطلعت؟
طلعت - اطمئني .. ما زلت أملك الروح الشاعرة أغرد بها في أرجاء الكون وفوق روابي حيفا ومآذن القدس ودمشق وطرابلس ..
هدى - أخيراً .. هل رأيت حيفا؟
طلعت - البديع يا ابنة الخال ، أني ما أن انطلقت خارج الجسد وبعد لقاء الوالد والأهل والأحبة حيث كانوا في استقبالي.. انطلقت إلى حيفا .. أحيائها وروابيها .. القدس والمسجد الأقصى.. فلسطين كلها.. ظامئ وجد السبيل إلى نبع ماء بارد شديد العذوبة.. رائعة هي فلسطين وجوهرة ثمينة تستحق كل الدموع والآلام والتضحيات في سبيل تحريرها من رجس الصهاينة...
هدى - وهل ستعود؟!
طلعت - لا بدّ أن تعود .. لكن الزمن اليوم زمن المزيد من الخسائر العربية...
هدى - هل ترى يا طلعت ما يحدث في عالمنا العربي وما يحلّ بنا من ويلات ؟؟
طلعت- بقدر ما أحمد الله أني لم أعش هذه المآسي المفجعة ، بقدر ما أشفق عليكم من هولها.. الزمن القادم زمن امتداد الحرب والدمار والخراب والضياع.. حروب طائفية ومذهبية شجعوها وغذوا نيرانها، وحرب فبركت يا هدى وإرهاب صنعوه على أعينهم حتى يفتتوا الوطن العربي ويقضوا على كل أمل ويقروا الصهاينة.
هدى - انتهينا ولا قيامة لنا على ما يبدو
طلعت - لا يا هدى .. ثقي.. هذه الأمّة لا تندثر .. تذكري طائر الفينيق يخرج من الرماد حياً..
هدى - كما افتقد الجميع إبداعك الشعري والأدبي افتقدوا التفاؤل الذي كنت تنشره وإيمانك العميق بانتصار الحق..
طلعت - لم يعد أملاً.. أنا في دار اليقين..
هدى - نعم بالتأكيد.. آسفة..
هدى - ألا تزورني طلعت؟
طلعت - أزورك باستمرار وبمقاييس الزمن الأرضي أزورك يومياً .. أنا والخال وعمتك وكل الأهل هنا نزورك .. أراك أنت وابنتي سهير تتحدثان كتابياً على الهاتف كل يوم وأسعد بهذا الود والقرب الجميل بينكما.. أراك وأنت تعتنين بأشجارك البيتية وترسمين خطوطك على قماش الحزن، وتطحنين البن المحوّج وأحزن لرؤية حوض السمك الذي كنت تعشقينه فارغاً مهجوراً..
هدى - هنا الفاصلة والشرنقة التي بدأت أدخلها.. لا أكواريوم ولا زهور جديدة.. لم أعد أفرح.. لم أعد أطمح أو أريد شيئاً.. لم تعد الأشياء من حولي تشعرني بالسعادة.. الأوضاع المأساوية المفزعة في الوطن العربي كسرتنا وهشمّت كل مرايا الأمان والأمل في أعماق ذواتنا.
طلعت - الظلام سيشتد أكثر والدم يطغي لكن طائر الفينيق سيبعث ذات صباح والشمس ستشرق ساطعة، ولو كان بصرك حديد لرأيت الشفق المنبعث من خلف جدار الظلام..
هدى - هل تفنى الأحلام يا طلعت؟
طلعت - الأحلام لها أجنحة ولا تفنى أبداً بفناء الجسد الترابي.
هدى - أين أنت الآن من الشاعر والقصيدة؟
طلعت - لم يزل الشاعر شاعراً والقصيدة حيّة مدادها النور وصفحاتها الكون الفسيح - لكنها لا تصل عالمكم ليس إلا – المواهب أيضاً لها أجنحة ولا تموت – نتذاكر أنا والخال نور الدين والخال بدر الدين ونقرض الشعر سجالا.. هل تذكرين يا هدى يوم أخبرتني أن الخال نور زارك في المنام وأهداك قصيدة كنت ترددينها خلفه وأنت تستيقظين لكنك نسيتها ما أن استيقظت تماماً؟
هدى - بالتأكيد
طلعت - كان هذا حقيقة أخبرني بها الخال .. جسر عبور القصيدة إلى عقل الجسد الترابي مستحيل – إنه البرزخ - روحك حفظتها وما أن هيمن عقل جسدك بالاستيقاظ وجدتِ نفسك نسيت القصيدة.
هدى - أتجلسون معاً ؟
طلعت - لا يا هدى ليس بهذا المعنى .. الجلوس للجسد ونحن في هذا الكون أرواح ، أجسادنا المادية بليت إلى أن نبعث..
هدى - هل تلتقون بأرواح الأشرار أيضاً؟
طلعت - أرواح الأخيار فقط هي التي تحلق في فضاءات هذا الكون ، أما أرواح الأشرار فتهوي في بحر من الظلمات مع كوابيسها..
هدى - أخبرني يا طلعت ، ما أصعب ما في الموت؟!
طلعت - خروج الروح وموت الجسد ليس سهلاً ، لكن أصعب ما في الموت حزن الأهل والأولاد وأحبتنا المحيطين بنا ، الدموع والنحيب وفجيعة القلوب عذاب لا يطاق..
لا صوت يصل ولا طبطبة روح يشعر بها المفجع المحزون .. قمة الألم ..
هدى - ما رأيك طلعت لو نعود في جولة سريعة مع الشاعر قبل أن يعبر للضفة الأخرى
طلعت - معك يا ابنة الخال
يتبع...
[/align]
|