-5-
كانت أيام عصيبة تلك التي تلت لقاء زِنّار
أصابتني الحيرة وكنت أسأل نفسي كثيراً
هل كان عليّ حقّاً اصطحاب هذه المصائر على ظهر مركبي
هل كان عليّ تسليم مروان بهذه السهولة
كنت غاضباً .. لم أكن أتوقّع ظهور زِنّار وقطع الطريق أمام
مركبي.
حاول الأعمى مؤازرتي ومحاباتي وتخفيف وقع الصدمة
على روحي
حاول الجنرال صفع الهواء ولعن المارد وأشباهه
ولكن الأمور كانت قد خرجت عن السيطرة
وأخذ كلّ من على المركب يخشى الآخر
بل يخشى نفسه .. يخشى خطاياه
وكانوا يهادنون أنفسهم
نحن لسنا قتلة .. نحن لسنا مروان
كانوا يحاولون وزن أعمالهم بالميزان
هل سيحين دور أحدهم قريباً؟
سألني البعض محاولاً أن يبرّئ نفسه
ابتسمت وقلت لهم أنّني لست معصوماً عن الخطيئة
أنا لست بريئاً أمام نفسي وربّي
كان عليكم البقاء في مدينة النسيان
هناك حيث لا حساب ولا عقاب
النسيام الذي لفّ المدينة أكبر عِقابٍ واجهته منذ
أن وطأها الغراب يوماً
وحدها الأرملة جيهان كانت غير نادمة على هذه المغامرة
وحدهم (فارس والحورية) كانا غارقين في صلاة الغرام
كانوا يدركون بأنّ النسيان والسأم الذي خيّم على المدينة
أكبر عقاب.
عندها تذكّرت نورا مجدّداً
شعرت بأنّها مريضة
شعرت بأنّ نبضات قلبها تتصاعد
ما بين الموت والخفقات
نورا كانت تعاني فراقي ولكن..
كان حجابٌ قد سقط على وجهها منذ رفضت
ليلى
لم تكن قادرة على الإحساس بالمركب وقبطانه
جاءني القاضي وهمس في أذني
ليلى تتنقّل من قمرة الى أخرى
ليلى لم تترك رجلاً إلاّ وعاشرته يا قبطان
أليس هذا خطيئة
أخشى المجهول .. هذه العاهرة..
أسكت يا قاضي .. ألم تتعلّم أن تتمهّل قبل أن تُطْلِقَ
الأحكام؟
أين محاميها .. أين لسان حالها؟
أنت طيّب القلب .. أنت مغفّل
أنت طيّب القلب .. لكنّك لست مُرْسَلْ
أنا إنسان يا قاضينا وهذه مسؤولية
ليتك تُدْرِكُ معنى ان تكون إنساناً!
-6-
طلبت ليلى الى قمرتي
حضرت ومنديل شفافٌ أسود يخفي عينيها
لماذا تُخْفين وجهك يا ليلى؟
أشعر بالخجل في حضرتك
لماذا يا ليلى؟
إنّها الرغبة يا قبطان
الكثير من النساء يعاشرن الرجال في أحلامهنّ
الكثير من النساء يصنعن القهوة لعشاقهنّ في مخادع
الخيانة
الكثير من النساء يرغبن الاغتصاب حتّى لا يدفعن ثمن
متعة الجسد
أنا لا أخشى إرضاء رغبة الجسد
أنت رفضت جسدي يا قبطان ..
أهنت كياني الأنثوي
رميت بي على حدود النار والجليد
ضممتها الى صدري وقبّلت جبينها
ضممتها الى صدري وقبّلت وجنتيها
كانت الدموع قد انحدرت من عينيها
وكانت صادقة!
كيف أعاقب هذه المرأة وقد أضحت صفحة
مقروءة أمامي
ليلى لم تعلن نفسها راهبة
وفضّلت إطفاء لهيب جسدها بين أذرع رجالي
فوق المركب
مركبي غارقٌ بالأسرار يا عرائس البحر
لماذا لم يمتنع الرجال عن معاشرتها؟
سألت القاضي الذي فرك كفّيه وفضّل الصمت
كالعادة.
وحين أعدت السؤال ثانية
قال: إنّهم رجال وهي ليلى
من يَقِفُ أمام سحر ليلى يا قبطان؟
كانت نظراته تحمل استفهاماً ومغزى
ليلى ليست مجرّد جسد يفترشه الرجال يا قاضينا
أدرك القاضي بأنّي لم أقتحم بستانها وأشاح برأسه متفكّراً
بعد أيام تناسى المسافرون على مركبي آلامهم وهمومهم
تناسوا الأمس ورائحة الذكريات ووقع الأمواج
وانسابت الموسيقى خجلة تنداح عند عتبة النهار
وسمعت للمرّة الأولى صوت الأرملة جيهان
كانت تغنّي .. تدندن
وقفت الى جانبها وأمسكت بأطراف أصابعها
داعب الهواء طرف منديلها فبانت جدائلها الذهبية
كانت صورة جميلة بهتت ألوانها
الى متى يا جيهان؟
انا لا أسابق الزمن يا قبطان
دعني أغنّي الليلة
ألا ترى القمر يتجلّى في سقف السماء
أما زلت تبحثين عن درويش؟
لا .. أغنّي له حين يتجلّى الخالق كهذه الليلة
قبطاني
أقرأ في عينيك آلاف الأسئلة
أقرأ في عينيك ألماً قائم
لماذا كلّ هذا الحزن؟
الحزن يسكن الشرق يا جيهان
أنا الآن سعيد لوجودي قربك
وذات الوقت أبدو حزيناً
يا للنفارقة!
الحزن هو الوجه الآخر للفرح الكامن
أنا أعشق الليل وأكره البحر
كان البحر في تلك اللحظة يتراقص في عينيها
جيهان اختزلت حكمة الخليقة بتلك الكلمات
الليل يخفي الحنين
رذاذ العطر يتطاير من فمها
أسلمت شعرها للريح المارقة
مالت برأسها على كتفي
كانت تحتاج لمن يداعب أحلام المرأة الثائرة
في أعماق روحها
كانت ترنو لرجل .. تترقّب قصيدة .. تشتاق لقبلة
تأبّطت جيهان ذراعي
أراحت رأسها على كتفي طَويلاً
كتنت تحمل .. ربّما بماضٍ قريب
جيهان كانت تحاول جاهدة العودة الى الحياة
قلبي خفق لأنوثتها المتفجّرة تحت صخب النجوم
المشتعلة
بعضها قضى وما زالت أضوائها تكمل دورتها
مخلّدة ذكراها في أعين البشر القاصرة
جيهان كانت تسابق الزمن وذهبنا الى قمرتي.
[/frame]