اللوبي الصهيوني العالمي
الحلف الاستعماري وقضية فلسطين
دور مجموعات الضغط واللوبي الصهيوني في قضايا السياسة في المنطقة والعالم.
تأليف:
محمد علي سرحان
المقدمة
الكتاب الذي بين أيدي القارئ دراسة وبحث سياسي واسع عن اللوبي الصهيوني العالمي وتأثيره مع الحلف الاستعماري على فلسطين الذي نشأ بين مؤسس الحركة الصهيونية العالمية "ثيو دور هرتزل" صاحب كتاب "الدولة اليهودية" وبين الدول الكبرى التي كانت لها مصلحة في بعث "المسألة اليهودية" وتهجيرها بالتخطيط المسبق من أوروبا إلى منطقتنا العربية، رغم أن أوروبا تتحمل مسؤولية المجازر والمحارق ضد اليهود وليس شعوبنا ودولنا وأوطاننا، لأن تلك المسألة كما يوضح هرتزل نفسه هي ذات منشأ أوروبي بكل المقاييس بطبيعتها وتناقضاتها وخلافاتها ومآسيها وبمساعيها الشاملة.
تتكشف من خلال الدراسة هذه برأيي "أسبابها الأوروبية" وتتحملها أوروبا أدبياً وأخلاقياً وقانونياً. وللامبراطوريات الأوروبية والنظام النازي الهتلري الدور الكبير في إشعال النار تحت رمادها، وأدت إلى حدوث المشاكل والحروب والمؤامرات والدسائس والفتن الرهيبة بهدف إشاعة الفوضى والتخلص منها نهائياً بدعم تصوراتها التوراتية الأصولية المستمدة من العنصرية والاستيطان أنتجتها كمادة غنية لهمجيتها، واستناداً على عقليات منغلقة التي نضحت بها الحروب الصليبية ودفعت حملة نابليون بونابرت إلينا والتآمر على شعوبنا بالتخطيط للمؤامرات الدولية المحاكة جيداً مع المنظمات الفاشية والعنصرية والاتحادات الصهيونية وحتى مع أثرياء اليهود قبيل هرتزل بمئات السنين.
التاريخ حافل بمسلسلات تثبت حقائق لا مناص منها، من أهمها أن الدكتور هرتزل اعترف بنفسه بأن فكرة الدولة اليهودية هي فكرة بسيطة وباهتة بالنسبة له ولغيره سرعان ما شجعتها الأوساط الاستعمارية المتعاونة مع شركة آل روتشيلد وغيرها، وتمخضت عنها وعود بريطانية (وعد كامبو أيار 1917) (ووعد بلفور تشرين ثاني 1917) ودور الكنيسة الأمريكية والحركة الدبلوماسية البريطانية- الأمريكية بتشجيع الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين لأسباب تتراءى أمامنا الآن بعد عشرات السنين من التآمر.
لا يمكن تغطية الموضوع من جميع أطرافه وإلا احتاج فعلياً إلى موسوعة كبيرة لكن البحث والدراسة فيه احتاجت إلى وقت وجهد ليسا قليلين وبخاصة أن تسليط الضوء على اللوبي الصهيوني العالمي وحقيقته والدور الأميركي والأوروبي في اقتلاع وتشريد شعبنا له دلالات عميقة، وما نعانيه اليوم من الكيان الصهيوني الاستيطاني الاستعماري وأساليبه ضد شعوبنا العربية، واقترافه لأبشع المجازر والقتل والإرهاب تعيد لأذهاننا طبيعة وأهداف الحركة الصهيونية التي لا تختلف عن النازية بل هي أشد وطأة منها على حياتنا ومستقبلنا لأنها تقتلع وتستوطن وتسرق تاريخنا وأرضنا وبيوتنا وتزوّر الحقائق من أجل إقناع غيرنا بأنهم عادوا من الشتات إلى ما يسمى بـ"أرض الميعاد"؟!..
ويطرحون شعارهم الخطير من "النيل إلى الفرات" بأسلوب همجي ومتعصب لا تحده حدود وانطلاقاً من دستورهم "بروتوكولات حكماء صهيون" الذي يعتبر من أخطر كتبهم الدينية السرية ويستندون عليه على أساس أنهم "شعب الله المختار" بحقد أعمى بربري ومتوحش معادي لكل الشعوب وأمم الأرض وبالأخص شعبنا الفلسطيني.
لقد أعربت معظم الدول العربية عن استنكارها من الدور المؤثر الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ومجموعات الضغط اليهودية التي وجدت في محاولات جر دولة عظمى إلى سياسة العداء المستمر للعرب وحقوقهم العادلة بتشجيع سياسة إسرائيل العدوانية والعنصرية والاستيطانية، حيث أكد البيان الختامي الصادر عن الدورة (34) لمجلس الاتحاد البرلماني العربي، انتقاداته لمحاولة جر مجلس الشيوخ الأمريكي بعد الكونغرس الأميركي للموافقة على نقل السفارة الأميركية إلى القدس العربية، مشيراً إلى أن تلك المحاولة تتعارض كلية مع قرارات الشرعية الدولية وأن السلام والاحتلال متناقضان لا يلتقيان وتوضح تلك المحاولات الدور الخطر لـ اللوبي الصهيوني منذ زمن بعيد في دعم السياسات العدوانية ضد شعوبنا العربية بدءاً من اغتصاب فلسطين 1948 حتى تأمين مستلزمات الدعم العسكري والمالي والأمني في حروب إسرائيل ضد العرب.
ورغم أن العرب اختاروا السلام كاستراتيجية ثابتة لهم على أساس استرداد الأراضي العربية المحتلة بالكامل على قاعدة العدل والشمولية ومرجعية مدريد وقرارات الشرعية الدولية (242-338) و(425) في جنوب لبنان وحق عودة اللاجئين إلى ديارهم وأراضيهم بقرار (194) إلا أن كل ذلك كان حبراً على ورق.
من هنا يمكننا الدخول في هذا الكتاب لنعطي رؤية عن دور مجموعات الضغط واللوبي الصهيوني ومدى تأثيرهما على السياسة الخارجية الأميركية ودعمهما للكيان الصهيوني ويعتبر الكتاب أساساً عن اللوبيات الصهيونية في العالم، لما يحتله الموضوع من أهمية باعتبار أن الحلف الاستعماري غير المقدس تشكل بين الدول الكبرى تحت النجمة الصهيونية منذ زمن بعيد، ولا يزال تشابك مصالحهما الاستراتيجية مؤثراً على مصير ومستقبل الأجيال والشعوب العربية، والدول الكبرى تحاول توفير الفرص والمناخات لجعل الدول والشعوب العربية تابعة وغير مهيئة للوحدة أو التطور أو مواجهة الكيان الصهيوني. سنجد في محتويات هذا الكتاب ما يمكن اعتباره كشف حقائق وأدوار مجموعات الضغط اليهودية واللوبي الصهيوني على الإدارات الأمريكية وفرنسا وروسيا ودول أخرى بهدف الشراكة الكاملة مع المشروع الصهيوني الاستعماري والاستيطاني في منطقتنا ومناطق أخرى من العالم.
قدمت في هذا الكتاب العديد من القضايا التي تكشف خفايا الدور الصهيوني العالمي ومنظماته المتعددة للوصول إلى أهداف خطط لها ثيودور هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" والحجج الواهية التي استند عليها وضغطه على السلطان عبد الحميد الثاني للاستيلاء على فلسطين، إضافة إلى أمور تاريخية جرى تحليلها ودراستها بشكل موضوعي محاولاً تسليط الأضواء على ما يهمنا من طبيعة اللوبي الصهيوني العالمي وتتبع مسارات عديدة لأدوار مثيرة لعبها نابليون بونابرت قبيل هرتزل، وفشل الحملة الفرنسية على بلاد الشام ودور كل من (الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود) وحرصهما المشترك على استبعاد المؤامرة الدولية عن فلسطين وشعبها ودور (التروست الاستعماري اليهودي) في تحريك السياسة الخارجية الأمريكية تجاه بلادنا أو اتجاه إيران وباكستان والهند أو تجاه روديسيا والكونغو وجنوب أفريقيا.
إضافة إلى دور (لجنة البحث اليهودية العالمية) وتفاصيل دقيقة عن دورها العالمي سابقاً ولاحقاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتطرق إلى احتفالات "كيولاه" وماذا تعنيه تحركات يهود مصر أو يهود إيران وآسيا الوسطى وارتباط الحاخامية في الاسكندرية بالحركة الصهيونية ومخططاتها مع بريطانيا ودور اتفاقيات "كامب ديفيد" التي لعبتها لضرب منجزات العهد الناصري، لا شك أن الشعب المصري ضمن أمته العربية ودوره فيها له أبعاد وأدوار قومية غير سهلة، وفي هذا المجال أدخل لأعرّف القارئ العربي بالدور الكبير الذي مارسته الحركة الصهيونية الروسية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ودور جادة "جيليني شيفسكي" اليهودية في تجميع العناصر المعادية لثورة أكتوبر منذ البداية والتحريض الذي قام به دينكين وجماعاته السرية، ودور كل من "دزيرجنسكي" رئيس المجلس الثوري العسكري و"موسى أورتيسكي"، إضافة إلى امتداد الأعمال السرية للحركة الصهيونية السيبيرية ودور (بيريا)[1] وزير الداخلية ومستشار ستالين وكشف عصابة "اليونكر" وعصابة لجنة الأطباء العليا في موسكو التي قتلت ستالين مسموماً؛ والسؤال لماذا قتل ستالين من قبل اليهود؟! ونعود إلى دراسة دور اللوبي الصهيوني في فرنسا، ومحاولات الضغط اليهودي-الصهيوني على غاندي للاعتراف بوعد بلفور، ثم نظرة على وضع التسوية قبيل انتخابات 1999، ومواضيع أزمة المياه كجزء من الحرب السرية، وأخيراً كشف بعض الحقائق عن التسليح النووي الإسرائيلي.
لقد تطلع اليهود والصهاينة إلى أدوار فعالة على المسرح الدولي بدعم بريطانيا والولايات المتحدة المطلق لتأمين الموارد الأولية ومناطق استثمار النفط، وطرق المواصلات الاستراتيجية، والسيطرة على الإنتاج الزراعي والصناعي منذ عام 1918، علق ولسون قائلاً: "أعتقد بأن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس لانبعاث الدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكوماتنا وشعوبنا في الولايات المتحدة وبريطانيا"؟!
لنجد أن الجهد المبذول من أجل إخراج الكتاب في أبواب موثقة يهدف إلى إعطاء صورة شاملة عن حقيقة اللوبي الصهيوني العالمي الذي نشأ ولا يزال إلى يومنا هذا بين الحركة الصهيونية العالمية المتبلورة في أدائها ووظيفتها وبرامجها مع أداء وسلوكيات وأهداف الدول الكبرى التي سعت منذ اللحظات الأولى للمؤتمر الصهيوني الأول إلى إخراج السيناريو المطلوب والمتفق عليه لاستبعاد "المسألة اليهودية" عن أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ودور الصهيونية والماسونية العالمية والأثرياء اليهود بإشعال تلك الحروب، ورغم ضحايا رحى المعارك التي ذهب فيها الملايين من البشر (40 مليون) وبالأخص بين أعوام (1940-1945) يغالي اليهود المتعصبون والصهاينة في قضية (المحرقة النازية) فلم تكرس الدعاية الغربية إلا للقتلى اليهود (بينما لم يسلط الضوء على غيرهم) الذين ماتوا أو قتلوا نتيجة البرد والأمراض والجوع في السجون والمعتقلات النازية كغيرهم من السجناء الكاثوليك أو الأرثوذكس أو اليساريين أو الاشتراكيين أو الماركسيين أو الليبراليين؟!.
ولعل اتهام ألمانيا بالمحرقة النازية وابتزازها طيلة السنوات الماضية دفع المؤرخ ديفيد أرفينغ لرفع دعوى قضائية في محاكم بريطانيا ضد الكاتبة اليهودية المتعصبة (دبورة لبشتات) وتأييد أثرياء اليهود لها مع أهودا باراك الذي اعتبر ربحها للقضية انتصاراً للعالم الحر، بينما أكد أرفينغ بأن المحرقة خدعة صهيونية لاستجرار عطف الدول الغربية الكبرى لتأييد تهجير اليهود إلى فلسطين ودعم الحركة الصهيونية وخفايا العلاقة التي تربط الجستابو فرع (11/112) مع المنظمات الصهيونية (أرغون- وهاشومير وهاتسعير- وشتيرن) ومع غولدا مائير أو مع شركة هآفارا لها دلالات هامة[2].
لقد لعبت الدول الكبرى بحلفها المقدس مع الحركة الصهيونية العالمية أدوار خطيرة لاستبعاد "المسألة اليهودية" عن أوروبا باتجاه المنطقة العربية والإسلامية كي تبقى تلك المناطق ملحقة بالمصالح الاستعمارية كعامل جوهري للتوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، فما العمل لإيجاد الوسائل والطرق لاستعادة حقوقنا القومية المشروعة وإعادة بناء دولة فلسطين الديمقراطية؟ لعل تأنيب الضمير الذي أعلن عنه شلومو بن عامي وزير الخارجية الإسرائيلي (السابق) وعلق عليه السيد هنري سيغمان المسؤول في المجلس اليهودي الأمريكي تعبر عما أحدثته انتفاضة الأقصى ودماء شبابها (جرحى وشهداء) من هزة عنيفة في نفوس البعض، ودعوة سيغمان للإسرائيليين الساسة والقيادة لاتخاذ أفكار شلومو بن عامي كبداية للاعتراف بالحق الفلسطيني كشعب وكمشكلة وطنية كبرى تتحمل إسرائيل و"الصهيونية العالمية" مسؤوليتها، وإعادة الحق المغتصب إلى أصحابه الشرعيين ربما يخفف المعاناة والجهود باتجاه وقائع جديدة تجد الحلول طريقها نحو الاعتراف (بمسألة فلسطين) من قبل حكام بريطانيا والولايات المتحدة. إذاً كم من الشجاعة وتأنيب الضمير يلزم لغزاة لا يفهمون. لقد كانت رؤية "ريتشارد مورفي" مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق وكبير الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية في صحيفة "المستقبل" اللبنانية (18/10/2000م ص 14) متناقضة وهشة إلى حدود بعيدة جداً فهو في الوقت نفسه الذي يؤكد فيه على: "أن الولايات المتحدة ما زالت تدعم بكرم وسخاء جهود (إسرائيل) للتوصل إلى الأمن القومي وأنها القوة المتفوقة في المنطقة، إلا أنها لا تزال تشعر بأنها مهددة"؟!
لنلاحظ كم هي متناقضة تعبيرات مورفي، فهو يؤكد بأن "إسرائيل" ((قوة متفوقة)) وفي الوقت نفسه ((مهددة)) إن القوى المتفوقة هي التي تهدد دول وشعوب المنطقة، لا بل وتمارس سياسة الإبادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، والمضحك في آرائه تلك ما يظهر بأن ((الأميركيين والإسرائيليين والفلسطينيين)) ((يتعرضون إلى أعمال العنف)) كيف يمكن تفسير هذه الرؤيا السخيفة لكبير الباحثين، إذ من أين تتأتى أعمال العنف على الأطراف الثلاثة المذكورة هذا من جهة ومن جهة أخرى كيف يمكنه تغطية أعمال حكام "إسرائيل" الإرهابية والدموية بإيقاف ((نزف الدماء كأولوية)) بقصد طمس حقيقة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع خلال انتفاضة الأقصى إذ هنالك أكثر من 30 ألف جريح ومشوه وأصحاب عاهات دائمة بفعل ممارسات جيش الاحتلال الوحشية المقصودة إضافة إلى أكثر من (6) آلاف شهيد؟! أين هي اتفاقيات جنيف والقانون الدولي؟! إن الذي يتخبط في عملية السلام الآن هي الولايات المتحدة وسياستها الخارجية الفاشلة لا بل وسياسة حكام "إسرائيل" الفاشية، والفارق هنا أن السياسيين في الإدارات الأمريكية كالغزاة الصهاينة لا يفهمون، إلا إعطاء التوجيهات والنصائح للرضوخ للصهاينة الغزاة من قبل سماسرة الأوطان والشعوب.
محمد علي سرحان
دمشق 10/10/2001
***
الباب الأول
الصهيونية العالمية من بنيامين فرانكلين ((إلى نابليون بونابرت ووعد بلفور))
1 تحذيرات بنيامين فرانكلين:
حذر مؤسس الولايات المتحدة بنيامين فرانكلين في خطابه أمام المجلس التأسيسي الأمريكي عام 1789م أي بعد إعلان الدستور الأمريكي في عام 1787م، مخاطباً السادة النبلاء في ذلك الوقت: "لا تظنوا أن أمريكا نجحت في الابتعاد عن الأخطار بمجرد أن نالت استقلالها، فهي ما دامت مهددة بخطر جسيم لا يقل خطورة عن الاستعمار نفسه، وسيأتي ذلك الخطر من تكاثر اليهود وسوف يصيبنا ما أصاب البلاد الأوروبية التي تساهلت مع اليهود الذين سعوا للقضاء على تقاليد أهلها ومعتقداتهم وفتكوا بحالتهم المعنوية وشبابها لأنهم أشاعوا الرموز والأفكار الخاصة بالماسونية الإباحية واللاأخلاقية التي كرسوها بين النخب الحاكمة ثم أفقدوهم الجرأة على العمل وجعلوهم ينحون باتجاه الكسل والتقاعس والفوضى"، بما حاكوه من فتن وحيل لمنافسيهم بالسيطرة على المؤسسات الاقتصادية والأمنية والمالية[3]، فأذلوا أهلها وأخضعوهم لمشيئتهم وقدرات خفية أساؤوا فيها للإنسانية والتقدم البشري ورفضوا الاختلاط بالشعوب التي يعايشونها، بعد أن كتموا أنفاسها ولاحقوا خيرة أبنائها وأمسكوا بزمام حياتها ومستقبلها.
***
2 المذابح الأوربية ضد اليهود (1384-1350)
يمكننا الرجوع قليلاً للتاريخ الوسيط في أوروبا لمعرفة المذابح الأوروبية المرتكبة ضد اليهود بين أعوام 1348م-1350م حيث أدت الفتن المشبعة بالحقد الأعمى إلى نتائج رهيبة ضد يهود أوروبا وبالأخص في ستراسبورغ بالنمسا فبسبب من دور المرابين اليهود والتجار وأصحاب المصارف فيها دعت الجمعيات العمالية والحرفية إلى قتل اليهود وإفنائهم لأنهم يحتكرون المال والسلع والاستثمار، ولكن ممثلي الطبقات الغنية في مجلس المدينة المذكورة رفضوا الحملة ضدهم لأن اليهود وممثلي مجلس المدينة جنوا الأرباح الخيالية من الربا والتجارة اليهودية، أما الكنيسة والأمراء والفرسان أيدوا الحملة ضدهم التي قادتها الجمعيات الحرفية للتخلص من ديون الربا واحتكار الأسواق والمصارف، فشبت الحرائق في أملاك اليهود بل وأحرق البعض منهم أحياء في أنحاء الزاس وستراسبورغ ضمن الساحات العامة وفي عام 1348م وبعد أن ذبحت بورجوازية المدينة جميع اليهود في المدينة المسماة "نيدلينفن" استولوا على جميع أملاكهم وطردوهم منها، وتحرر هؤلاء من ديون اليهود المفروضة عليهم، ورغم أن إدارة مجلس المدينة المذكورة قاومت تلك الأعمال إلا أنها رضخت لأنشطة الطبقة الجديدة ويقول سيسيل روث: "عهود اليهود المظلمة بدأت من عصر النهضة الأوروبية، ولهذا نؤكد أن عصر النهضة بدأ من نقطة الفتك باليهود أنفسهم وملاحقتهم"[4].
وانقسم اليهود إلى قسمين:
قسم أول: فرض عليه الاندماج في المجتمعات الأوروبية إلى الحد بتغيير ديانته اليهودية إلى المسيحية كما حصل في روسيا، واسبانيا، والبرازيل، وكما حصل مع (يهود الدونما) في الامبراطورية العثمانية والدخول في معترك المنافسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القادرة بالهيمنة على مواقع القرار أساساً في الحرب الخفية.
قسم ثان: غادر أسوار "الغيتو" في أوروبا الشرقية وانخرط بالأفكار والعمليات الثورية والراديكالية إلا أنه دعا إلى الهجرة اليهودية على أساس الاعتراف بالدولة اليهودية التي دعا إليها هرتزل حيث قدم تفسيرات جديدة لمسار المسألة اليهودية تختلف عن تفسيرات الاتجاه الديني المتعصب الذي لم يرض بأي شكل تسويغ مفهوم الدولة بالعلمانية لأن الوعد الرباني لم يكتمل بعد، وهم (الحريديم)، أي من (الخلوتصيم)[5].
هذا ما يفسر التناقض بين الاتجاه الديني المتعصب كأحزاب:
(ناطوري كارتا)، و(حركة شاس) فالأولى لا تعادي العرب بشكل فج بل تقف ضد المشاريع الصهيونية برمتها وضد الاستيطان بينما الثانية تعادي العرب بشكل خطير وتؤيد الاستيطان بكل أشكاله هذا التشتت الواسع في الحركة اليهودية الدينية والحركة الصهيونية العلمانية له خلفياته الدينية والروحية والسياسية والاستعمارية فحتى أقرب حلفاء اليهود في أوروبا رفضوا مشاركتهم في برلماناتهم. فهذا اللورد شافتسبري الذي لا يمثل أياً من الاتجاهين بل يمثل الاحتكارات الكبرى، دعا اليهود إلى الهروب من القتل والمحارق والمذابح التي أعدها الأوروبيون لهم، أي باختصار الهروب من جحيم أوروبا إلى مكان آمن يقيمون عليه دولة يهودية خاصة بهم[6].
لقد عارض شافتسبري اليهودي الاحتكاري صاحب رؤوس الأموال الضخمة مع أبناء آل روتشيلد وشركاتهم الواسعة إلى عدم دمج اليهود في المجتمع الأوروبي أو البريطاني والدعوة إلى التحرر المدني، فهؤلاء اليهود القادمون من روسيا وآسيا الوسطى وبولونيا وهنغاريا لا يستحقون العيش في أوروبا لأنهم أصحاب فتن ومشاكل تجعل أوربا المتحضرة بؤرة فساد لهم بكل ما يحمله الفساد من معنى، لقد ركز أدموند روتشيلد واللورد شافتسبري لتهجيرهم بالقوة إلى "أرض الميعاد" على أساس ما ورد في التوراة أو ما ورد في كتاب هرتزل وبهذه الصورة شكلت الزعامة اليهودية وزعيم الصهيونية العالمية هرتزل رؤية مشتركة، رغم أن التناقض لم يكن له أن يظهر على السطح مطلقاً بل كان هنالك تفاهم كرسه فيما بعد بن غوريون وغولدا مائير وييغال آلون بتوحيد الهاغاناه والمنظمات الصهيونية في ما يسمى بـ"جيش الدفاع الإسرائيلي" بعد عام 1950م[7].
أما مع بداية عام 1920م بدأ بشكل واضح في تاريخ منطقتنا العربية انتقال أنشطة الصهيونية إلى مرحلة متصاعدة من أعمال العنف والإرهاب وحملت عقيدة إجرامية متمثلة بالهجوم والاقتحام التي أعدت بشكل مدروس ومخطط له سلفاً بسفك الدماء والتدمير وتنشيط عمل الأيدي الخفية المتمثلة بمنظمات (الهاغاناه)م. الدفاع القومي ونادي النبي موسى وحزب جابوتنسكي وبيغن وأرغون وشتيرن واتسل وليحي وفي عام الدماء الأول قتل (يوسف ترامبدور) صديق جابوتنسكي بعد اشتباكات مع العرب.
وعملت بريطانيا على تأسيس (المؤسسة العسكرية) بعيد انتدابها في فلسطين وعين (ب. شالوم شطريت) مديراً عاماً لشرطة طبريا وشمال فلسطين ثم مديراً لشرطة تل أبيب ثم وزيراً للشرطة "الإسرائيلية" بمساعدة بريطانيا عام 1933م، وسعت بريطانيا بشكل مستمر متعاونة بين استخباراتها والمنظمات الصهيونية إلى تهجير اليهود.
وأقيمت عام 1938م (سرايا الليل الخاصة) بمباركة القوات البريطانية ومساندتها وتم تنفيذ المجازر والمذابح بحق الشعب الفلسطيني حينذاك بموافقة بريطانيا وتتحمل المسؤولية كاملة عنها حتى الآن[8].
3 محاولات تكوين الشعب خارج أرض فلسطين
عند مراجعة وثائق فلسطين وكتاب "الدولة اليهودية" لهرتزل يلاحظ الباحث والمحلل أن مشروع هرتزل اتسم بمغالطات تاريخية وسياسية كبيرة جداً. إضافة إلى كونه مالأ واستجر عطف الدول الأوروبية والسلطان العثماني للوصول إلى أهدافه التوراتية بالمال والضغوط السياسية لشراء وطن ليهود العالم، هؤلاء اليهود منذ آلاف السنين لم يجمعهم جامع ولا سوق مشتركة ولا إنتاج مشترك وإن تشابهت أعمال المرابين الجشعين منهم، ولم يكن لديهم وطن أو أرض توحدهم في إطار ما أسماه هرتزل "شعب يهودي" أو "أمة يهودية" فالأمة الألمانية والأمة الفرنسية مشكلتان منذ آلاف السنين وتتمتع كل منهما بميزات حقيقية، أما ادعاء هرتزل فذلك نابع من "الحلم التوراتي الديني" الممزوج بحلم صهيوني وأحباء صهيون في التخلص من الاضطهاد والفقر الذي تعرضوا له في أوروبا في القرون الوسطى[9].
ولعل تبنيه لإقامة دولة يهودية تجمع يهود الشتات، بضمان عامل جوهري (التهجير) إذ كيف يمكن للتهجير أن يؤسس لدولة تحمل ميزات الشعب، أو الأمة، وهو يؤكد بأن ما جاء في كتابه من العقائديات وكان كتابه مجرد فكرة متواضعة لم يدر كيف ستستقبله الطائفة اليهودية وأكبر برهان على ذلك أنه اقترح إقامة كيان لليهود في الأرجنتين[10].
وهو يحاول رشوة السلطان عبد الحميد الثاني كي يأذن له بمسألة اعترافه بحقوق "الشعب اليهودي" في الإجراءات التي اقترحها فإن تقدمات اليهود ستصبح ضريبة سنوية تدفع إلى صاحب الجلالة السلطان(*) وسيبدأ بضريبة مائة ألف جنيه مثلاً تزداد حسب رأي هرتزل سنوياً.
بهذا الشكل تمكنت الدول الأوروبية ومصالح أغنياء اليهود من التخطيط جيداً للتخلص من المشكلة اليهودية بدعم انبثاق الهوية اليهودية الجديدة التي وفرت لها الظروف من خلال اضطهاد اليهود في أوروبا، أما اسحق دوتيشر فأراد من اليهود أن يتعرفوا على يهوديتهم في أرض اللبن والعسل لمجرد أن يهاجروا إلى الدولة اليهودية بعد عام 1948م، إذ لا بد لهم أن يعرفوا ذلك في مطار بن غوريون حيث سيساعدهم موظفو الهجرة والاستيعاب بمعرفة يهوديتهم في أرض الدولة، فهم إذا قبل مجيئهم إلى الدولة ليسوا يهوداً (صهاينة) بل يهوديتهم مزعومة ليس إلا، والهجرة والتهجير هي بالنسبة للدولة مضاعفة عدد السكان مرات ومرات عبر الحبل السري (التهجير) وليس عبر تكوين الشعب والأمة تكويناً طبيعياً، وقانون العودة الإسرائيلي الذي صدر عام 1950م خطط له منذ زمن بعيد جداً من أيام بونابرت حتى هرتزل تضمن بأنه يحق لكل يهودي أن يهاجر فوراً إلى الدولة ضمن إجراءات إدارية وقانونية وأسطورية، حسب (الهالاغاه) وأرض الميعاد[11]، عبرت أفواج المهاجرين اليهود وتدفقها عن اعتبارات خاصة فهم يأتون بمهاجرين جدد إلى فلسطين تحت تأثير الدعاية الصهيونية، والإسرائيلية لإعادة مزجهم في مجتمع هو ليس مجتمعهم، وفي وطن هو ليس وطنهم، تختلف فيه التركيبة الديمغرافية السكانية عما كانوا عليه في روسيا أو الولايات المتحدة أو في أي مجتمع سكاني آخر، فتتحول المستوطنات إلى جزر ومعسكرات مسلحة لها تركيبة كيانية سياسية واجتماعية وعقائدية شبيه تماماً (بالغيتو) اليهودي سابقاً وهي لا تستطيع الانسجام مع الوسط العربي بل تضع العراقيل أمامه وتحاول الاعتداء عليه ونسف جذوره التاريخية في إطار دائم من حالة العنصرية والإرهاب المنظم والطوارئ ضمن إطار من الصراع المفتوح: السياسي والديني والاجتماعي وحتى الصراع العسكري.
وظهر ذلك جلياً في انتفاضات الشعب الفلسطيني المتكررة وبالأخص أعوام 1987م و2000م في انتفاضتين متواليتين ظهر فيهما الاحتلال الصهيوني العنصري مشجعاً لأعمال المستوطنين الإجرامية ضد القرى والمدن الفلسطينية، عوضاً عن الصراع السياسي والعقائدي الداخلي وطيبعة الانتماءات الدينية والحزبية والفارق بين العلمانية والدينية في معالجة أمور الحياة المختلفة.
ويعتبر المجتمع الإسرائيلي مختبراً بشرياً غريباً في تركيبته فتتوزع اللوحة على:
-40% أوربيون وأميركيون من يهود (الأشكنازيم) و(الخلوتصيم).
-20% أفارقة (يهود سود).
-17% من اليهود العرب (والسفارديم) و(الحريديم).
-20% من الشعب الفلسطيني.
ويلاحظ ازدياد اليهود الخلوتصيم الروس والشرقيين والاشكنازيم بسبب من التواتر الطائفي والطبقي والإيديولوجي بلوحة الفسيفسائية ذات الطابع العرقي والديني، وهنالك صراع حقيقي بين اليهود الأرثوذكس واليهود المحافظين واليهود العلمانيين الذين يمثلون الأغلبية في الولايات المتحدة وإسرائيل والصراع المفتوح بين (الحسيدية) و(النصية) اعتبر المفكر اليهودي البولوني "اسحق دويتشر" أن اليهود بسبب من البيئة المحيطة المعادية لهم استمروا كونهم يهود وبوصفهم يملكون ميزات يهوديتهم أما الذين ذابوا في المجتمعات فقد منحتهم الحياة التجدد والوقوف بوجه إسرائيل على اعتبارها تمثل غيتو يهودي كبير انتقلت باليهود من الغيتو الصغير إلى الغيتو الأكبر[12].
كثيرة هي أساطير اليهود وخرافاتهم التي تتجلى في الانقسام الداخلي حول تفسيرات توراتية بين تفسير خيالي وتفسير ماساداوي[13] توراتي مستند على أحداث خيالية تحض على طقوس بدائية حباً بالقتل والإجرام، والانتقاص من جميع بني البشر، وذلك ما نجده في العصر الإسلامي، ودور اليهود فيه حتى نهاية العهد العثماني وموقف السلطان عبد الحميد ضدهم، وعدم تخليه عن شبر من أرض فلسطين.
ظهرت بينهم أيضاً حركات مريبة في ظل الإسلام لعل أشهرها حركة الداعية اليهودي "أبو عيسى الأصفهاني" الذي عاش في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي دعا أبناء طائفته إلى التجمع في كيان له صفة سياسية وعقائدية به، وبعد وفاته جاء بعده (الراعي) أو (الداعي) يودجان وتنسب إليه طائفة يهودية تدعى (اليودجانية) كذلك ظهر في سوريا أيام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يهودي (سيرنوس) ادعى أنه المسيح ودعا إلى مجتمع فوضوي ملتزماً بالحرية المطلقة وإلغاء سلطة الخليفة وتعطيل الشرائع السماوية وإباحة النساء دون زواج.
كما قام كردستان يهوذا (داوود الرائي) المولود في مدينة آمد بكردستان 1163م باستخدام علوم السحر والشعوذة وعلوم الدين اليهودي ومارس عمله بإتقان وادعى أنه المسيح المنتظر ودعا لاحتلال فلسطين وإعلان دولة إسرائيلية وأشاع الفوضى في المجتمع الإسلامي، وظهر في المدينة المنورة (خيبر) داوود الرأوبيني 1490م مدعياً بأنه الوريث الشرعي للعرش اليهودي في خيبر التي احتلها الرسول الأكرم وتعاون مع بابا روما وملوك أوروبا ومدوه بالسلاح والأموال لطرد المسلمين من (خيبر) وقابل كليمنت السابع في الفاتيكان 1524م واستقبلوه باحتفال ضخم رسمياً وبحضرة ملك البرتغال، رغم أن اليهود حينها دخلوا في المسيحية في اسبانيا والبرتغال، أما ديجو بيريز (سالمون مولخو) فقد قام المسيحيون بحرقه لأنه ارتد عن المسيحية إلى اليهودية بتهمة الكفر وألقي القبض على داوود الرأوبيني الذي اتهم بالسحر والشعوذة والكذب فسقط بين أيدي الإسبان وسجن ثم قتل مسموماً[14].
إضافة إلى ذلك كله فشلت محاولات الدعوة إلى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، قبيل هرتزل لم يتمكن هؤلاء اليهود المشعوذون القيام بأية حركة تذكر من أجل ذلك، حتى أن الأسر اليهودية بعد محاكم التفتيش في إسبانيا هربت إلى أمستردام، وفرانكفورت ولندن أي إلى غرب أوروبا حتى شرقها أو إلى الولايات الأوروبية الداخلية، إيطاليا وشمال أفريقيا وإيران والعراق.
وقصص عائلة يوسف النسيء دليل على محاولات تجميع أنفسهم لتشكيل مجموعات ضغط. وعلاقة يوسف مع (موشيه هامون) طبيب السلطان العثماني بالقسطنطينية تمثل حالة التشرد والضياع والبحث عن الذات ووالد موشيه هامون (يوسف هامون) من الهاربين من محاكم التفتيش الإسبانية عام 1492م، فكان موشيه ووالده مقربين من السلاطين بايزيد الثاني وسليم الأول وحصلا على حظوة كبيرة في حضرتهما، وتمكن موشيه من أن يكون له نفوذ واسع في أوساط الامبراطورية، أما خالة يوسف النسيء (غراسيا) من أغنياء لشبونة والبندقية، فقد صار مع خالته من أكبر أغنياء وتجار الشرق الإسلامي وأطلق على المعبد اليهودي في استانبول (معبد غراسيا منديس) وتزوج يوسف بـ(ريتا ابنة خالته) وخططا فيما بعد للسيطرة على السلطان سليمان الثاني وحكمه وبمساعدة موشيه هامون، قبل ظهور هرتزل بـ ثلاثة قرون لاحتلال أجزاء من فلسطين في سبيل الوصول إلى أحلام توراتية بائدة.
طالب يوسف النسيء من السلطان تقديم إقليم (طبريا) ليكون ملجأ يهودياً- قومياً لليهود من تعسف وظلم الإسبان وأعطاه أيضاً أرخبيل جزيرة نيكسوس في اليونان حتى سمى نفسه حاكماً ودوقاً لطبريا ومتصرفاً ببحر إيجه[15].
في نفس تلك الفترة تقريباً (1648م-1658م) عند التمرد القوزاقي الذي قاده بوغدان شميلي نزاكي ضد بولونيا ويهودها المقيمين في أملاك النبلاء الكاثوليك في بولونيا، تجذرت محاولات عديدة من الشعوب وقياداتها لطرد اليهود واقتلاعهم وقتلهم لما أدوه من أدوار خطيرة عبر الدسائس والمؤامرات، واحتكار التجارة[16].
هنالك العديد من المواضيع والتواريخ التي يمكن كشفها في سلسلة الأحداث التاريخية التي ترصد الغيتو اليهودي أو دور زعامات يهودية حاولت الدعوة لتشكيل تجمعات، أو وطن ما في أماكن متعددة، وتوجهاتهالجعل فلسطين توراتية قبل هرتزل بمئات السنين، حتى إن أفكار هرتزل الأولية عما يسمى (الدولة اليهودية) كانت مجرد أفكار متواضعة فحسب وهي دعوات مأخوذة عن ارتباط مصالح البارونات في المستعمرات البريطانية مع مصالح الشركات اليهودية وبخاصة شركات آل روتشيلد، وبالأخص بعد ظهور النفط واكتشافاته في عام 1917م- وعام 1936م حيث كرست المصالح المشتركة للهيمنة على منابع النفط وتطوير مواقفها الاستراتيجية فيما بعد وكانت "إسرائيل" ولا تزال ركيزة متقدمة لتلك المصالح.
إلا أن المؤرخ اليهودي يسرائيل شاحاك، كعالم اجتماع في المجتمع الإسرائيلي اليوم، حاول التأريخ للمسألة اليهودية بشكل مثير فعلاً، فاعتبر اتساع حركة التنوير والتحر اليهوديين، من ظلم المحاكم الحاخامية التي لا تقبل إلا بشهادات اليهود ولا تقبل بأي شكل كان شهادات غير اليهود أضف إلى أنه أكد بأن النساء اليهوديات ممنوعات من الشهادة أمام تلك المحاكم وأن المجتمع اليهودي يعتبر المرأة غير اليهودية (عاهرة) واعتبر انتهاك حرمة يوم السبت من قبل أي طبيب وما شابه لإنقاذ حياة أي شخص يهودي مسألة إنسانية ودينية أما إنقاذ غير اليهودي، فذلك معادٍ للدين اليهودي و(الهالاغاة).
كذلك فإن بيع الأراضي لغير اليهود في دولة "إسرائيل" ممنوع قطعاً ويعتبر خارجاً عن الشريعة اليهودية.
اليهود لم يكونوا منذ زمن بعيد جداً ضحايا للحقد غير العقلاني ومعاداة السامية بل احتلوا مراكز اجتماعية، فبعد تشردهم الثاني تحولوا إلى طبقة وسطى ورجال نبلاء وأمراء وحاكمين بين الفلاحين والأقنان، فإن الكثير من الثورات والتمردات والانتفاضات التي قام بها فلاحو أوروبا الشرقية (بولونيا) إنما كان ضد مضطهديهم المباشرين أي التجار وأصحاب الأموال والمصارف من اليهود.
أما التعاون الذي قام في إسبانيا في العصر الذهبي للإسلام بين (اليهود والإسلام). فقد ازدهر بشكل واسع بعد انهيار الخلافة الأموية ونشوء الممالك والمدن البربرية الصغيرة مثل مدينة (غرناطة) حيث كانت فئات التجار والضباط يحكمون السكان العرب المحليين.
لكن القائد صلاح الدين الأيوبي عين طبيبه الخاص يهودياً وهو المؤرخ والطبيب ابن ميمون (حاكماً ومتصرفاً بالمجتمع اليهودي) وفرض على مجتمعه قوانين دينية- يهودية صارمة وحظي (الغيتو) بحكم ذاتي مستقل، وهذا الحكم كان يخدم النخب الحاكمة اقتصادياً ومالياً داخلياً وخارجياً، رغم أن للغيتو حياته الخاصة الدينية والقانونية والاجتماعية في مدن عربية أوجدت تشريعات الأحوال الشخصية خاصة بزواج وحياة اليهود فيها، دون وجود لأية ظاهرة اضطهاد ضدهم.
لقد تأثر شاحاك بالعلماء والفلاسفة اليهود أمثال سبينوزا ضمن التصورات العلمانية التي كان يقودها مع الشعراء والأطباء والفلاسفة حيث شهد هؤلاء معاناة واسعة من الاضطهاد الأوروبي عبر التاريخ وليس من الاضطهاد الإسلامي أو العربي.
لقد اعتبر شاحاك بأن معظم مواقف اليهود كانت نابعة من (العجز والقلق) لا من الكراهية والحقد، وأن (الهالاغاة) اعتبرت شريعة يهودية داخلية ضمن المجتمع اليهودي (الغيتو) وموجهة أساساً إلى اليهود أكثر مما كانت موجهة إلى الأغيار (غير اليهود) بما فيها اضطهاد النساء اليهوديات وحسب (باروخ كيمر لينغ) فإن شاحاك لعب لعبة خطيرة في كتابه (التاريخ اليهودي- والديانة اليهودية) إلا وهي لعبة عتاة الرجعيين حينما تطرق لتأريخ المسألة اليهودية من خلال المؤسسة اليهودية واستند على تعريف (الغوييم) من دائرة المعارف اليهودية "التلمودية" و"العبرانية" فهو قد واجه مشكلة أساسية تتمثل بشخصيته ودوره في التأريخ لليهود من خلال (التزامه بالحركة الصهيونية العالمية) التي تسببت بطرد الشعب الفلسطيني من أرض وطنه ودياره، ذلك الشعب الذي لا يعتبر مسؤولاً عن المحرقة النازية المزعومة وهو لا يستحق ذلك الاضطهاد الأميركي والأوروبي واليهودي المفروض عليه حتى الآن[17].
الخطورة تكمن هنا برؤية شاحاك أنه اعتبر اليهودية ديناً متجانساً وليس بوصفها نظاماً اجتماعياً دينياً مغلقاً ومعقداً غير متجانس ونظام استيطاني إرهابي ويستخدم "الديا سبورا" لبناء دولته بالتآمر مع الدول الاستعمارية الكبرى والأيدي الخفية أما أفكار يسرائيل شاحاك التي اعتمد فيها على أسس نظرية هلامية لم تكشف فعلاً حقيقة الدور الخفي للصهيونية العالمية حيث كرست التصورات التآمرية بأجلى صورها في (البروتوكولات) لأن شاحاك اعتبر أن تطور المسألة اليهودية جاء في إطار تاريخي طبيعي للمسألة اليهودية- وما تبعها، لكن دور الحركة الصهيونية العالمية لم تنشأ في سياق التاريخ بل هي حركة معادية لتاريخ منطقتنا العربية ومحطمة لآمال ومصير الشعب الفلسطيني لأن تاريخ الحركة اليهودية- والصهيونية هو جزء من تاريخ أوروبا نفسها وبخاصة (المسألة اليهودية) التي تحدث عنها كارل مارك وانتقدها جيداً وهي أساساً غير تاريخ الشعوب العربية والإسلامية ولم يكن منهجه منهجاً سليماً بل عقيماً[18].
لذا أكد هرتزل وغيره أن الصهيونية يمكن أن تكون حلاً جزئياً جداً للمسألة اليهودية لأن جزءاً صغيراً من يهود أوروبا يريدون الهجرة إلى "أرض الميعاد" أينما كانت تلك الأرض في الأرجنتين، أو الكونغو، أو قبرص، أو فلسطين.
إلا أن بن غوريون دعا إلى تهجير يهود الشتات كلهم إلى أرض الكيان الصهيوني- الجديد في فلسطين متوجها برغبات بريطانيا الاستعمارية ومدعوماً منها.
إن حقيقة "الدياسبورا" في فكر وممارسات القيادات الصهيونية كانت متناقضة، وبخاصة أن اليهود الأغنياء في أوروبا الشرقية أو في بقية أنحاء العالم لا يريدون الهجرة إلى تلك الدولة، بل فقراء ومضطهدو اليهود هم الذين وجب تهجيرهم. وهذا ما رمى إليه سمولنسكن: (نحن مدعوون ألا نحاول الذهاب إلى الأرض المقدسة دفعة واحدة بل يرغب الرب أن تكون الهجرة على دفعات).
وأكد بنسكر: (إن الفائض من اليهود غير القابلين للاندماج في وطن آمن لا تنتهك حرمته).
لا ريب أن دعوة الحركة الصهيونية لبناء المستعمرات لم ينتج بنفسه نمطاً يوافق طبيعة وأخلاق وعنصرية ذلك العقل اليهودي وشخصيته إلا بكونه مشروعاً استعمارياً وعلى أن تكون الدولة اليهودية استيطانية وذات خصوصية فريدة، ركز عليها هرتزل كدولة روحية وثقافية لليهود فقط، هي بالتالي دعوات عنصرية خالصة معادية لشعبنا الفلسطيني والشعوب العربية والأمم الأخرى[19].
4 الحلف غير المقدس تحت النجمة الصهيونية
عند القيام بالبحث عن الدور الذي لعبته الدول الرأسمالية الكبرى للتخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا يلاحظ بأنها خططت عن سابق إصرار وعبر كل أشكال الخداع والتضليل تارة وعبر التآمر المباشر والصريح الفعال تارة أخرى، حرصاً منها على تفكيك (الغيتو اليهودي) فيها لأنه شكل بؤر توتر ومشاكل لها أو عبر ترحيلهم وتهجيرهم أكان ضمن الدول والمدن الأوروبية للاندماج بالنهضة الصناعية وتبني آراء ثورية أو ليبرالية أو تبني آراء بورجوازية وإقطاعية رجعية أساسها ديني متعصب فمن المذابح التي تعرضوا لها في أوغسبورغ إلى مذابح نيدلينفن سنجد أن الأوروبيين لم يتحملوا وطأة الاضطهاد الطبقي والاقتصادي المفروض عليهم من المرابين اليهود وأصحاب المصارف مما أدى إلى الثورة عليهم.
وإذا كان (سيسيل روث) يؤكد أن عهود اليهود المظلمة قد بدأت بعصر النهضة الصناعية والتجارية الأوروبية فهي جاءت لتدلل على الدور الرجعي للمرابي اليهودي من جهة وللغيتو اليهودي من جهة أخرى مما حدا بالأوروبيين- وبالأخص فئة الأمراء البروجوازيين المتعصبين مسيحياً[20] إسدال الستار على المنافس اليهودي لأنه استغلالي وجشع ومتوحش إلى درجة أن الجمعيات الحرفية والمدن تعرضت للجوع والإفلاس جراء ذلك الدور اليهودي وحديث اللورد شافتسبري له مدلولاته أيضاً في أعوام (1801-1885).
أضف إلى أن حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام حملت الفتنة قبل أن تبدأ، فعلاقته مع حاخامات فرنسا الذين اجتمع بهم قبل حملته لعبت الدور الأهم في حملته (فالورقة الإسلامية) و(الورقة اليهودية) المطبوعتان في باريس، وعن طريق حاخامات فرنسا لعبت الدور الخطير في الأحداث السياسية حينذاك بعد أن اقتنع الشعب المصري وقيادته بأن الورقة الإسلامية لا لبس ولا غموض فيها، وهم يرحبون بقائد كبير مثل نابليون لأنه (قرأ القرآن الكريم وحفظ بعضاً من آياته) ويحترم المسلمين والإسلام، ولم يدرك هؤلاء أنه يدس السموم في العسل.
لقد أكد نابليون أنه على اليهود الاعتماد على فرنسا لكي تخلصهم من نير العبودية في أوروبا وجور الاضطهاد المسيحي المتعصب باعتبار أن لفرنسا كما لروما أرثاً يهودياً ستدافعان عنه، وإلا ماذا نفسر التسلسل التاريخي للأحداث بنظر الأوروبيين فقبل استصدار وعد بلفور البريطاني (2) تشرين الثاني 1917 أصدر المسؤول الفرنسي في خارجيتها وعد كامبو في شهر أيار عام 1917، كل ذلك يدل على التأثير اليهودي والصهيوني الخطير جداً على الأوروبيين.
إذاً لم تكن البعثات التبشيرية بعثات حضارية كما يدَّعي الغرب بل بعثات استطلاعية للحملات الاستعمارية ولم تكن بالأساس إلا لبناء (دولة توراتية) تمثل العنصرية الاستيطانية بأجل صورها والتعاون وثيق الصلة بين المصالح الاستعمارية وبين اليود والأوروبيين لتوجيه الأنظار إلى أعداء وهميين تحولوا فيما بعد إلى أعداء حقيقيين.
وكسبت الصهيونية معركة من معاركها منذ البداية لكن لن تكسب الحرب كلها ولو لبعد حين وظهر جلياً كم كانت الصهيونية ولا تزال وكيلة استعمارية مدللة لأوروبا وفيما بعد للولايات المتحدة فهي تحرك مصالحها وتمثل القمة الإدارية والسياسية المهيمنة على مواقع قراراتها وتحركاتها لأنها كما قال بنيامين فرانكلين أصبحت عبدة تحت النجمة الصهيونية.
أولاً: دور نابليون بونابرت- لدعم الحلم التوراتي:
اعتبر نابليون من القادة العسكريين القلائل في العالم الذي استخدم مهاراته المتعددة لغزو دول المنطقة وبالأخص مصر بما تحمله من تاريخ وحضارة وموقع استراتيجي هام، ورغم ما قيل عن حملة نابليون من إيجابيات وسلبيات، إلا أنها استطاعت أن تشكل بالنسبة لفرنسا البعد الاستراتيجي لدعم وجودها في مختلف المناطق العربية.
إلا أن انكسارها في روسيا وانتقال العديد من اليهود للعيش في المدن الروسية بعد أن استسلم الجنود والضباط الفرنسيين للروس، استطاع بونابرت أن يلحق هزائم عديدة بجيوش كبيرة، إلا أنه وحسب أهم المصادر العربية ووثائق (الحربية المصرية- والفرنسية) لعب هذا القائد العسكري الكبير أدواراً مثيرة للشك والريبة، وحملته الاستعمارية على مصر والساحل السوري قبيل اتفاقيات سايكس بيكو وفي العهد العثماني استطاعت أن ترسل منشورات ورسائل إلى الشعب المصري والسوري أن الحملة العسكرية لها طابع حضاري وإنساني ويهدف من ورائها دعم الإسلام والمسلمين.
ويقال إن رسالته إلى شيوخ مصر سبقته والتي أكد فيها احترامه للإسلام، وأنه مطلع على القرآن الكريم الذي يحترمه ويجله ككتاب مقدس للمسلمين، وعبر هذه الخديعة وغيرها من أساليب القائد العسكري الأوروبي النشيط المتطلع إلى توسيع نفوذ الامبراطورية الفرنسية كشف النقاب بعيد حملته العسكرية على مصر وبعد سنوات طويلة أنه قدم ورقتان واحدة علنية للشعب المصري المسلم وأخرى سرية لليهود والحاخامات في الاسكندرية والباب العالي، وفرنسا وإيطاليا:
أولاً-الورقة الإسلامية: وجه الورقة هذه إلى المسلمين في مصر وأنه على دراية واسعة بالإسلام ويعتبر صديقاً عزيزاً للخليفة وولي الإسلام في الباب العالي، واعتناقه للإسلام وحبه للدين الإسلامي والقرآن الكريم لا يضاهيه أي حب واهتمام آخر، ولم يستدرك المصريون أن ذلك الموقف لنابليون ليس له أي أساس فعلي، وبسبب عاطفتهم وبساطتهم صدقوا كلامه وتعاملوا معه على أساس أنه واحد منهم، وسيفيد الإسلام، لكنه هدف من وراء ذلك إضاعة الوقت وتمرير الفتن والمؤامرات لصالح اليهودية- والصهيونية بالخبث والدهاء الذي فطر عليه[21].
ثانياً: الورقة اليهودية
شكلت الورقة اليهودية لنابليون بونابرت قمة الدهاء والكذب فقد أظهرها أمام أسوار القدس وعكا ويافا موجهاً الورقة "كنداء ليهود العالم"[22] لكي يحزموا أمورهم للرجوع إلى فلسطين باعتبارها أرض يهودية أخرجهم منها العرب والمسلمون من مئات السنين، إذ لم توزع الورقة في فلسطين ومصر فحسب بل وصلت إلى حاخامات الباب العالي وروما وباريس ودول أوروبية أخرى وكان نداءه يرتكز على:
أ- مساندة نابليون بونابرت لليهود بخطابه كي يدعموا مشروعه الاستعماري وإعطائهم فرصة تاريخية بأنهم "شعب الله المختار" "والفريد" الذي ينتظر وجوده القومي في المنطقة العربية بمباركة فرنسا وأخذ الثأر التاريخي من الشعوب الإسلامية والكنيسة الشرقية.
ب- إن فرنسا تقدم لليهود يدها لأنهم سيحملون لها مساندة كبيرة وبالتالي سترعى فرنسا حلم اليهود بالمستقبل للتخلص من نير العبودية في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، باعتبار أن فرنسا تحمل إرث اليهود وإسرائيل وستدافع عنهما بقوة.
ج- إن نابليون أراد أن تكون مدينة القدس عاصمة للاحتلال الفرنسي وعلى أنه سينتقل إلى دمشق التي اعتبرها مدينة يهودية تابعة لداوود، ويرجع تفكيره إلى أن صلاح الدين الأيوبي الذي انطلق من دمشق كعاصمة له ضد الرومان والصليبيين وعملائهم اليهود سيتم تأديبه وهو في قبره؟!، لذلك يجب استرجاع القدس ودمشق أيضاً.
(وهنالك كتب لبعض الكتاب اليهود الفرنسيين الذين يذكرون بان جوبر، وحلبون، وحرستا، وجبال برزة "إبراهيم الخليل" مقدسة، وغيرها قدسها اليهود قبل آلاف السنين، ويرجعون أسمائها إلى اللغة العبرية، بينما تدحض السريانية والسريان والآرامية مزاعم اليهود الكاذبة).
إن ملفات وزارة الحربية الفرنسية ووثائق الحملة الفرنسية على مصر والرؤية الاستراتيجية الخطيرة لنابليون بونابرت ويهود فرنسا- حينما كان العالم ينتقل من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر- تدلل صفحاتها على الدور الاستعماري- اليهودي لحملة بونابرت على مصر وبلاد الشام.
وورقة نابليون لليهود هي وثيقة إدانة تاريخية لنابليون وحملته الاستعمارية والتي سبقت "تشكيل اللوبي اليهودي في فرنسا" بعشرات السنين وسبقت وعد كامبو في أيار من عام 1917م وهي في السياق التاريخي السياسي شكلت بالنسبة للوكالة اليهودية العالمية نقطة ارتكاز للاستناد والاعتماد عليها وعلى وثائق فرنسية- وبريطانية خطيرة تدّعي دفاع نابليون عن مقدسات مزعومة لليهود والمسيحية في مصر وسوريا والباب العالي.
لقد سعت الدول الثلاث فرنسا وبريطانيا وأمريكا إلى تشكيل "جمعيات سرية يهودية" التي ساندت الجيوش الاستعمارية لاحتلال المشرق العربي ودعوة نابليون كانت صريحة إلى يهود العالم بأن هلموا إلى تشكيل "جمهورية يهودية" تخلد بأعماقها المملكة الرومانية (المسيحية- اليهودية) في العصور الحديثة انتقاماً من العرب والإسلام.
وكانت شركة آل روتشيلد حامية الاستيطان الأوروبي- واليهودي في مستعمراتها تدعم تصورات اليهودية العالمية دون أدنى اعتراض ووفقاً لتوجهات بالمرستون التي بدأ بتنفيذها في بلاد الشام استدعت حاخامات القدس والباب العالي باسم ما يسمى سكان اليهود في المنطقة وكان عددهم قليلاً جداً بالنسبة إلى عدد السكان العام، وذلك بطرح مطلبين أساسيين:
1- إعلان قبول يهود العالم تحت الحماية الانجليزية والفرنسية لا بل ودعا نابليون لها قبل بريطانيا بفترة مبكرة.
2- التوجه بالرجاء الخاص إلى حكومة بريطانيا العظمى بأن تسهل لليهود استعمار فلسطين وتشجيع حركة الاستيطان فيها، وكان نابليون غير بعيد عن تلك الأفكار البريطانية، فقد قال شافتسبري في مذكراته:
"ذهبت ومعي البارون روتشيلد لمقابلة بالمرستون وكان روتشيلد متأثراً بشدة بفكرة هي أبعد درجة من أفكار بالمرستون مشيراً- الأخير- إلى خريطة كانت أمام رئيس الوزراء البريطاني قائلاً: "طردتم محمد علي باشا من بلاد الشام وكان العثمانيون قبله، والسلطان العثماني لا ريب مهزوم، فحكمه في الشام ضعيف وهنالك فوضى، والطوائف تناحر وعليكم أن تضعوا في الحسبان بدلاً من تلك القوة حتى تضبطوا الأمور هنالك وطن قومي ليهود العالم في بلاد الشام يساند تطلعاتنا في كل شيء"؟!.
كما استغلت اليهودية العالمية هزيمة حاكم مصر لتدفع بموجات يهودية للهجرة من أوروبا إلى فلسطين، رغم أن (محمد علي باشا) استفاد من أحد الضباط الفرنسيين ويدعى (سيف) ببناء المدارس الحريبة والمدفعية وسلاح الفرسان، وإذا كان بالنسبة للبعض أن الحرب والغزو هما وسيلتان من أهم الوسائل للسيطرة على الشعوب وجزء من السياسة بوسائل أخرى فإنه من الخطأ تصوير التاريخ على أنه مؤامرة ويقف مع الكتائب الأقوى، فالأشد تورطاً في الخطأ تصويره على أنه مصادفة والتاريخ البشري مجموعة أفكار ومصالح وخطط وإرادات أمم وشعوب وزعماء وصراعات بين مصالح فئات وقوى تريد الهيمنة والتفوق على غيرها للاستفادة منها وتحقيق مصالحها ونفوذها بشتى الإمكانات بما فيها الوسائل العسكرية الأكثر همجية.
ثانياً: الصهيونية المسيحية والتآمر الدولي:
لا بد من الإشارة في السياق التاريخي نفسه بأن هنالك قضايا هامة في سياق تلك الأحداث شكلت محطات هامة للعمل التآمري:
1- عام 1850م بناء أول مستوطنة يهودية زراعية في ضواحي القدس بدعم من القنصل الأمريكي.
2- عام 1875م قام ذرائيلي أول رئيس وزراء بريطاني بمساندة أسرة روتشيلد بشراء حصة مصر في شركة قناة السويس، حيث كان الخديوي إسماعيل دائناً يريد بيع أسهمه في شركة قناة السويس لليهود الأغنياء وكان المبلغ المطلوب في حينها (4) ملايين جنيه ذهباً عداً ونقداً.
3- 1877م: بعد سنة واحدة من شراء أسهم الخديوي إسماعيل عملت أسرة روتشيلد اليهودية لتمويل إنشاء أقدم مستوطنة لليهود في فلسطين على مساحة تقدم بـ2500 فدان وهي مستعمرة (بتاح تكفاه).
4- 1882م: تذرّعت بريطانيا بوجود اضطرابات في مصر بُعيد ثورة أحمد عرابي فقامت باحتلالها في السنة نفسها إذ قام البارون ادموند روتشيلد بتنظيم أول هجرة يهودية جماعية إلى فلسطين حتى وصل عددهم حينذاك إلى 24 ألف يهودي.
وخلال عشر سنوات قامت أسرة روتشيلد وأسرة لازار ببناء عشرات المستعمرات تمهيداً لاغتصاب فلسطين كلها وتسريب عناصر من العصابات الصهيونية إليها.
من هنا لا يمكننا تجاهل التواريخ والأحداث الخطرة التي ظهرت في المنطقة بعد ذلك وكيف يمكننا التساؤل الآن في القرن الحادي والعشرين عن دور الولايات المتحدة النزيه في عملية السلام في المنطقة وهي التي كرست جهودها لدعم تصورات الاستيطان اليهودي منذ أكثر من مئتين سنة إنه التساؤل المشروع عن تضافر القوى والشركات العالمية لدق مسمارها في نعش الامبراطورية العثمانية وظهور دور الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمية ودفعتها المصالح الاحتكارية والتنسيق مع الاحتاكرات اليهودية بشكل مريب لتحقيق المآرب المشتركة، وهي التي كانت القوة الاقتصادية والعسكرية البعيدة عن الحرب العالمية الأولى والثانية أو بعيدة عن المشاركة بهما لتمرير صفقات السلاح وأرباحها الخيالية، وأعطتها موارد اقتصادية خيالية بتهريب رؤوس الأموال من أوروبا إليها مما أدى إلى بناء قوتها العسكرية الضخمة.
5- (1784-1865)م كان اللورد بالمرستون مدافعاً سياسياً وفكرياً وروحياً عن فكرة التهجير اليهودي ومدافعاً عن فكرة الاستيطان اليهودي في بلاد الشام، وكانت الامبراطورية البريطانية تتقاسم نفوذها مع فرنسا ضماناً لدحر الامبراطورية العثمانية والقيصر الروسي، وكرست بريطانيا جهودها خلال مئات الأعوام لخدمة مآرب اليهود والصهيونية فطبعت لهم (بروتوكولات حكماء صهيون)[23] عن طريق الحاخامات واللوردات المتعاونين والمشجعين لهجرتهم واستيطانهم للأراضي المقدسة، فقد دعا بالمرستون إلى عدم محاربة السلطان العثماني والدعوة لإقناعه بضرورة هجرة اليهود إلى فلسطين بعكس ما دعا إليه تشرشل الذي حض على القضاء نهائياً على الامبراطورية العثمانية و(محمد علي باشا) لأنهما يقفان عقبة أمام بريطانيا واليهود وعلى أنه لا يمكن الاستفادة من الباب العالي لأنه المدافع الأول عن المسلمين ومقدساتهم فمن الضروري التآمر على السلطان وتقطيع أوصال دولته بمساندة مصطفى كمال أتاتورك، وشكلت حملة نابليون حينذاك إحدى الحملات الأوروبية العسكرية لإخراج أوروبا من مأزقها لصالح إقامة الكيان اليهودي في بلاد الشام ضد محمد علي باشا ونظامه القوي وضد الامبراطورية العثمانية والسلطان في لعبة قديمة لما يسمى بتوازن القوى في البلقان أيضاً.
كانت الحركة اليهودية العالمية وتنظيماتها السرية تدفع بثقلها العالي باتجاه الانتقال من روسيا وأوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية[24] نظراً لما يلقاه اليهود من تجريح ومذابح وملاحقة من معظم الدول الأوروبية كروسيا، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، وفرنسا، وقبل ذلك إسبانيا، وكانت قيادة هرتزل، وبن غوريون، وآل روتشيلد تدعم إمكانات الوكالة اليهودية العالمية لتركيز قيادة الحركة في الولايات المتحدة لأسباب كثيرة.
المسألة الأولى: إن قيادة الحركة اليهودية- الصهيونية في أوروبا ومركزها بريطانيا، وألمانيا والنمسا وبولونيا قبيل الحرب العالمية الأولى والثانية عملت على إنشاء جمعيات وبيوت لليهود لمساعدتهم وإعانتهم حيث كان معظمهم مشردين في الشوارع والأزقة ذكرت ذلك غولدامائير في مذكراتها. كان هنالك في (بيت اليهود- جمعية خيرية لإعانة اليهود) في روسيا وألمانيا والنمسا يدفعهم الأوروبيون للهجرة إلى الولايات المتحدة من جهة وتدفعهم قياداتهم السياسية إلى الطريق نفسه على أساس تأمين الاستمرارية والمعيشة والحياة الاقتصادية الأفضل وكان منهم صبيان صغار تحولوا إلى حاخامات وزعماء للحركة الصهيونية واليهودية في العالم منهم "الحاخام صموئيل هليل أيزاكس" الذي هاجر من بولونيا إلى الولايات المتحدة ودعا منها إلى:
1- إقامة السلام العالمي لضمان حق اليهود في الشتات بالعيش الكريم.
2- أن تقوم دولة إسرائيل برضى وموافقة كاملة من شعبها وشعوب بلاد الشام وبدون ذلك ستبقى هذه الدولة عنصرية وفي منطقة معادية لها.
3- الهجرة إلى الولايات المتحدة تكفل ليهود العالم التطور الاقتصادي أفضل من أي منطقة أخرى.
كذلك فإن العالم اليهودي (آنشتين)- كزعيم (للبيت اليهودي) في ألمانيا والنمسا، وكقيادي معروف في الحركة الصهيونية الأوروبية ومن نشطائها- قد دعا اليهود إلى عدم الهجرة إلى فلسطين وطرد شعبها لأن الحركة الصهيونية بذلك ترتكب حماقة جديدة ضد شعب فلسطين ودعاهم للهجرة إلى القارة الجديدة لأنها تؤمن ليهود العالم العيش الأفضل، وقد كان آنشتين يدفع أبناء جلدته بذلك الاتجاه خوفاً من هتلر والنازية والحزب الحاكم في ألمانيا بعد صعود هتلر لسدة الحكم، وهرب إلى الولايات المتحدة خوفاً من أن يستغله هتلر أبشع استغلال، بينما خدم العالِم اليهودي الولايات المتحدة مع علماء يهود، أما بن غوريون فقد قدر الإغراءات العديدة والمدروسة ليهود أوروبا للهجرة إلى كندا واستراليا بأنها إغراءات معادية لأهداف الحركة الصهيونية ووقف ضد دعوة لآل روتشيلد وآنشتين وغيرهم الذين كان لهم أهداف أخرى لدفع اليهود للهجرة إلى أمريكا الشمالية وكندا والبرازيل.
المسألة الثانية: موجات الهجرة اليهودية من أوروبا وبالأخص أوروبا الشرقية، كان عليها أن تتحول إلى بناء ما يسمى بالوطن القومي اليهودي في فلسطين وجنوب لبنان وجنوب سوريا وسيناء، وبينما كان (ناحوم غولدمان) ينتقد بن غوريون على هذه المسألة مؤكداً أنه يدفع المسألة اليهودية إلى حافة الهاوية بتجميعهم في فلسطين؟! دفع اليهود الأحداث قبيل الحرب العالمية الثانية كما حصل في الحرب العالمية الأولى بشكل مثير جداً، فأدى اجتماع مؤتمر (يالطا) بين روزفلت (الرئيس الأمريكي) و(تشرشل رئيس الحكومة البريطانية) وستالين (رئيس الاتحاد السوفيتي) لتقاسم مناطق النفوذ وتأييد قيام دولة إسرائيل بدعمها بقرار خاص من هيئة الأمم (قرار التقسيم)، إلا أن الرئيس الأمريكي روزفلت قام بزيارة مصر، ورسا بمدمرة أمريكية في منطقة البحيرات المرة بالطراد الأمريكي (كونيسي) لكن ماذا حصل بعد زيارته تلك:
1- قابل روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود باعتباره الحاكم الأوحد لآبار النفط في السعودية والخليج، فوصفه روزفلت بأنه العربي المتوحش ولكنه "المتوحش النبيل"؟!
2- التقى روزفلت بالملك فاروق ودعاه لأن يكون له دور مهم في الهجرة اليهودية فرفض الملك فاروق هذا العرض بشكل شديد، فوصفه روزفلت بـ"المملوك المتوحش المزركش الشرقي"؟! لكن روزفلت توفي بعد عودته إلى الولايات المتحدة فور رحلته لمصر والبحر الأبيض المتوسط وخلفه (هاري ترومان) إلا أن المشكلة الأساسية والمأزق الحقيقي للسياسة الأمريكية الخارجية هي أن تنامي قدرتها وقوتها في منطقتنا العربية توافقت بشكل ملحوظ مع تنامي دور الحركة الصهيونية في المنطقة وكذلك تنامى دور مجموعات الضغط والابتزاز اليهودية والصهيونية في الولايات المتحدة نفسها وبمواقع اتخاذ القرارات الأمريكية فوصلت الاستراتيجية الأميركية للمنطقة وأمامها كيان استعماري استيطاني ساهمت بإنشائه إلى حد كبير ودعمت استراتيجيته العدوانية ضد دول وشعوب المنطقة ولغزوها واحتلال منابع النفط فيها؟!
من هنا نستطيع فهم طبيعة نشاطات الحركة اليهودية العالمية وتأسيسها المبكر لجماعات الضغط اليهودية ليس في بريطانيا وفرنسا فحسب بل وفي الولايات المتحدة إضافة إلى محاولاتها المستمرة للاستفادة من الوجود اليهودي في اليونان (سالونيك) ومن روما (صقلية) ومن دول أخرى كالبرازيل للاستفادة المدروسة والمخطط لها مسبقاً من مراكز القوى العالمية والقرارات الدولية عبر كل وسائل العنف والإرهاب والخديعة والافتراء والتضليل وعليه استطاعت دفع بريطانيا للمنطقة للانتداب على بعض دولها تحت حجج كاذبة ودفعت فرنسا أيضاً الهدف نفسه مما أدى إلى تقسيم منطقة بلاد الشام والخليج إلى دول ودويلات ولعبت لعبتها الدولية في وعد بلفور عام 1917م وعد كامبو الفرنسي قبيل وعد بلفور بأشهر، إضافة لاتفاقيات سايكس بيكو 1916م، إلا أن الملك عبد العزيز آل سعود ناشد مراراً وتكراراً حكومة الولايات المتحدة بأنها تسعى جاهدة إلى تسوية قضية فلسطين على أساس تقاليد العدل والمساواة للدستور الأمريكي وليس لدستور المنظمات اليهودية (البروتوكولات)، لا أن تختار ممالأة اليهود الملعونين في القرآن الكريم وفي آخر الدنيا، وهدد الملك عبد العزيز بمواقفه تلك الذي سجلها التاريخ بأن الولايات المتحدة إذا ما أيدت قيام "إسرائيل" عبر وعد بلفور فإنها ستخسر وجودها وصداقتها مع المملكة السعودية فوراً.
وعلى الفور أرسل مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوزيف كرو (وبالطبع عائلة كرو عائلة يهودية عريقة) إلى وزير الخارجية الأمريكية مذكرة يرد فيها على الملك عبد العزيز آل سعود:
بان د. ستيفن وايز (رئيس المجلس الصهيوني العالمي) ود. ناحوم غولدمان (رئيس الوكالة اليهودية العالمية) وهرمان شولمان يحتجون على تصريحات وتهديدات الملك السعودي، أما ستيفن وايز فكان حاخام أمريكا الأكبر والذي فتح المسألة على النحو التالي:
"إن أبواب فلسطين يجب أن تفتح أمام اليهود رضي بذلك الملك عبد العزيز أم لم يرض"! ورغماً عن الملك عبد العزيز والملك فاروق كرّس روزفلت وبعده ترومان مواقفهما لتأييد أهداف الصهيونية واليهودية العالمية[25].
والجدير بالذكر أن روزفلت أخذ مذكرة (جوزيف كرو) لعرضها على تشرشل وستالين اللذين وافقا على المذكرة شفهياً ودون أدنى موقف عملي مضاد لها، وحسب هارولد هوسنز الكولونيل والملحق العسكري بالمفوضية الأمريكية بالقاهرة وهو بالتالي منسق المفاوضات العربية مع (الملك عبد العزيز والملك فاروق) ومع الولايات المتحدة أكد بأن ستالين الذي كان يرافقه (بيريا) قد قال لروزفلت بأنه ليس عدواً لليهود والصهيونية وليس صديقاً لهما، فما كان من بيريا إلا أن استلم من روزفلت وتشرشل مساعدات مالية كبيرة لوضع السم لستالين حينما تحين الفرصة بسبب موقفه هذا؟![26]
تآمرت الحركة اليهودية والصهيونية على ستالين والاتحاد السوفيتي، فدفعت بزعمائها في اللوبي اليهودي- الروسي وبالأخص بيريا لقتل ستالين والتآمر من الداخل على الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية لتأكيد ستالين على تشكيل (حلف وارسو) ومنظومة الدول الاشتراكية كقطب سياسي عالمي جديد ضد بريطانيا وأميركا.
لكن حينما أصبح هاري ترومان رئيساً للولايات المتحدة كان المساند والداعم الأكبر للحركة اليهودية العالمية وحسب مذكرة (إيفان ويلسون) رئيس إدارة شؤون المنطقة العربية في الخارجية الأميركية بأن رئيس اللجنة التنفيذية إلى المؤتمر الصهيوني العالمي حذر الحكومة البريطانية والحكومة الأمريكية على التوالي من ترددهما بإعلان نواياهما المعادية لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وأن الحركة الصهيونية ستتخذ كل الإجراءات العملية بما فيها العسكرية والإرهابية على الأرض لتحقيق أهدافها وبأنهم على استعداد للقتال لتحقيق أحلامهم التوراتية وتشكيل فيالق ومجموعات حربية، وبدون دعم بريطانيا وأمريكا لا يمكن تحقيق ذلك الحلم والذي سيكون مفيداً في المستقبل لهما.
وأكد رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الصهيوني العالمي أنه يجد في القيادة اليهودية بزعامة ناحوم غولدمان قيادة خائنة وجب عدم الاعتراف بها من الحكومتين البريطانية- والأمريكية وأنه إذا لم توافق بريطانيا وأمريكا على الخطط العسكرية للقيادة الصهيونية في فلسطين (وعصاباتها المسلحة) فإنهما معرضان للقتل أو يطردان من مواقعهم في الحركة الصهيونية.
وكانت تهديدات بن غوريون موجهة لناحوم غولدمان وزملائه أيضاً وبعد أسبوع بالضبط عاد غولدمان ومعه ديفيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية العالمية عام 1937م إلى فلسطين متفقين على احتلال فلسطين وفرض قوانين الحركة اليهودية- والحركة الصهيونية على شعب فلسطين بقوة السلاح، ودعا بن غوريون بعصبية مطبقة الولايات المتحدة بألا تدفع بريطانيا للتدخل أبداً بهذه المسألة وأن يدعم الانتداب البريطاني الجنود والضباط اليهود للانتساب في الجيش البريطاني أينما كانوا وسحبهم جميعاً للخدمة في سيناء ومصر وفلسطين للقيام بواجبهم باحتلال فلسطين مع العصابات الصهيونية لأن الوقت حان لذلك.
كانت الحركة اليهودية العالمية برئاسة غولدمان فرع الولايات المتحدة وأقواها قد تمكنت من الوصول إلى الرئيس هاري ترومان عام 1945م/ شهر آب/ عبر صديقه الحميم وشريكه السابق في محل للخرداوات (إيلي جاكوبسن) في ولاية منيسوتا الأمريكية، وتحت تأثير عامل الصداقة والضغط المعهود أصدر ترومان قراراً اتخذه بدون علم الوزارات والإدارات في حكومته بأن تسمح الولايات المتحدة بإرسال 100 ألف يهودي مسلح ومدرب بكل عتاد الحرب لاحتلال فلسطين.
وساندت السفن والبوارج الحربية الأميركية التي كانت تتواجد في موانئ حيفا ويافا وعكا غزو فلسطين ليلاً، وعلى مسمع ومرأى من جنود وضباط الانتداب البريطاني وموافقتهم كما وافق أسيادهم على تلك الهجرات المسلحة والمنظمة، واستغرب الملك عبد العزيز آل سعود مما سمعه من إذاعات وتقارير استخبارية من بريطانيا وأمريكا وما قرره ترومان ونقض ما تعهد له روزفلت سابقاً كل ذلك ذهب أدراج الرياح؟!
أما رئيس الوزراء البريطاني (كليمنت أتلي) رئيس الحكومة العمالية كان متضرراً ومتأثراً جداً من النفوذ اليهودي والتأثير الصهيوني المنظم على قواعد حزب العمال البريطاني، وحزب المحافظين، وكان وزير خارجيته (أرنست بيغن) يواجه ويتصارع مع زعيم اليهود الصهاينة في أكثر من مناسبة قائلاً لغولدمان:
"لقد قرأت التوراة جيداً، ولم أجد فيها ما يشير إلى ضرورة أن يمتلك اليهود فلسطين لأنهم أقلية فيها..."
ورد عليه غولدمان:
"وأنا أيضاً قرأت التوراة ولم أجد فيها ما يدل على أن للحكومة البريطانية أي حق باحتلالها فلسطين..؟"[27].
ثالثاً- وعد بلفور المشؤوم 1917م:
بعد كل ما تقدم لا يغفل العرب والمسلمون عن الظروف الإقليمية والعالمية وأنشطة زعماء الحركة اليهودية- والصهيونية العالمية ورؤساء الدول بريطانيا- الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (السابق) ودورهم في تكريس ما أصدره وزير الخارجية البريطاني اللورد (أرثر بلفور) وتعهده للزعيم اليهودي الانجليزي (جيمس روتشيلد) ومجموعته الاستعمارية وراعي الإرهاب والقتل والعصابات الصهيونية بأن تصدر بريطانيا وعداً عن حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين فيما قبل الانتداب وفيما بعده حيث أرسلت رسالة لـ اللورد جيمس روتشيلد:
"إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل وتحقيق هذا الهدف..."[28]
وعلى أساس أن اليهود والصهاينة سيظلون أصدقاء مخلصين وموالين لبريطانيا فإن "الوطن القومي اليهودي" سيزدهر على حساب هؤلاء العرب الذين يكنون العداء لبريطانيا، لقد كان هربرت صموئيل حاكماً عاماً على فلسطين[29] وقت الانتداب وطبقاً لاعتقاداته الرسمية فإنه من خلال الانتداب لا بد من تطبيق وعد بلفور.
وكانت ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى قد فضحت الحكام، لما يخططون له فكشفت عن مؤامرة وعد بلفور عبر البحارة السوفييت الذين قدموا لميناء حيفا عام 1917م وأوصلوا وثائق اتفاقية /سايكس- بيكو/ لتجزئة المنطقة إلى دويلات من أجل خلق الكيان الاستعماري الصهيوني القادم وتوسيع النفوذ الاستعماري.
إن الشعوب العربية والإسلامية لا يمكنها مطلقاً نسيان الأدوار الخطيرة لأسرة روتشيلد في بناء الدولة العبرية وبخاصة بجمعها للتبرعات الضخمة ومساهمتها لشراء أراضٍ واسعة في فلسطين والضغط على العرش البريطاني لاستصدار وعد بلفور المشؤوم ومن خلال مؤسستها لاستثمار الأراضي الزراعية في فلسطين وجنوب سوريا ولبنان، كذلك أنشأت الحركة الصهيونية العالمية (جمعية دولية) تختلف عن سابقاتها سميت بـ(التروست اليهودي الاستعماري) وكان ذلك عام 1902م، قام ذلك التروست بدور بالغ الأهمية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وبريطانيا فوقف التروست ضد تحرر سوريا والعراق وإيران والجزائر وروديسيا والكونغو والهند ووقفت إسرائيل منذ نشوئها مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا نظام الفصل العنصري (الأبرتهيد).
ووسعت الصهيونية أنشطتها في الهند والصين وحاولت مراراً إهانتهما مع قياداتهما التاريخية- غاندي- وصن يات صن ووقفت مع استراتيجية وتكتيك الاحتكارات البريطانية في أندونيسيا وتايوان وكان (ليسل روبين) العضو السابق لمجلس الشيوخ الأمريكي والأستاذ في جامعة هارفرد أن انتقد بشدة الأنظمة الحاكمة في آسيا وأفريقيا وتعاملها الفظ السري والعلني مع الحركة الصهيونية العالمية ومنظماتها الأمريكية والبريطانية وانتقدها لأنها لجأت عملياً إلى إبادة الجنس البشري والتطهير العرقي تحت سياسة تأييد الاستعمار البريطاني.
كذلك تحالفت المنظمة الصهيونية العالمية في نيسان 1967م ورئيسها (لويس بنكوس) مع المنظمة السرية الفاشية المسماة (بروذر بوند) الإخوة اليهود في جنوب إفريقيا والتي كان يدعمها مجلس النواب اليهودي في جنوب إفريقيا.
وإذا انتقلنا من إفريقيا وآسيا إلى أميركا اللاتينية فإن المنظمات الصهيونية العالمية لعبت الدور الكبير فيها وبالأخص في البرازيل ودول أخرى ودفعت بنشاطات (أوراسيو) الملياردير اليهودي الذي يمتلك بمفرده عشرات الشركات السياحية والصناعية والتجارية، وجهازاً إدارياً واستخباراتياً ضخماً بحيث يقدر نشاطه الزراعي فقط بمساحة تزيد عن مساحة لبنان وفلسطين بنسبة الضعف، وعلى أنه يملك مع عائلته مدينة كاملة بكل ما تعني الكلمة من معنى في البرازيل واسمها (سير آدي نوفا) وتسمى عند يهود أميركا (تل أبيب) البرازيل.
هنالك أيضاً تقارير ودراسات صحفية أتت من البرازيل تؤكد أن هنالك دولة إسرائيلية أخرى غير "دولة إسرائيل" في الشرق الأوسط بل في أميركا اللاتينية وتسمى دولة أوراسيو الإسرائيلية وهي وطن ثانٍ ليهود العالم بعد الكيان الصهيوني في فلسطين.
والشيء الخطير الذي سعى إليه أوراسيو كملياردير يهودي في البرازيل بأنه درب يهود البرازيل[30] ويهود أميركا اللاتينية والولايات المتحدة على شكل عصابات ومافيا في معاهد ومدارس عسكرية خاصة به ويرسلهم إلى الخدمة في الجيش الإسرائيلي لاحقاً أو أنه يستخدمهم بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي وعصابات المافيا في بعض الدول العربية والغربية حاملين جوازات سفر برازيلية تحت حجج التجارة بالورق أو بالبن والشاي وما شابه ذلك، إضافة إلى تهريب صفقات السلاح واليورانيوم والمواد المشعة لإسرائيل، ويكاد يشكل أوراسيو فعلياً حكومة خفية في البرازيل لدعم المنظمات الصهيونية والمافيا التابعة له في مختلف أنحاء العالم خدمة لهدف استراتيجي هو دعم إسرائيل بلا حدود وتمجيدها مالياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً حتى أن كل تدريبات جيشه السري تجري تحت مظلة النجمة الصهيونية الزرقاء ويتعاون بشدة مع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وفي مختلف الدول الأمريكية ويعود له تنظيم الفتن والمؤامرات ضد الأنظمة الوطنية الثورية في أمريكا اللاتينية وبالأخص ضد كوبا.
ومن المعروف عند التدقيق أكثر أنه نظمت مجموعة كيبرة من الرأسماليين اليهود الكبار حفلة عالمية عام 1967م وفي شهر آب بالتحديد، من أجل وضع خطة عالمية لغزو العالم بطرق جديدة ومركزة، باعتبارهم من أصحاب المليار وأسسوا الاتحاد الدولي لأصحاب المليارات اليهود ومركزه في الولايات المتحدة ولندن والبرازيل ووضعوا خططاً مستقبلية خطيرة كان أهمها:
1- السيطرة التامة على أجهزة الأمن والشرطة في مختلف دول العالم وبالأخص في الدول الكبرى، وتوريط بعض الزعماء والمفكرين والكتاب[31].
2- تنشيط دور الوكلاء والشركات والأشخاص اليهود بحمل جنسيات وأسماء أميركية وأوروبية وبرازيلية.
3- تأييد كامل لسياسة إسرائيل وتطوير إمكانياتها ودعمها عسكرياً ومالياً والتعاون المستمر مع قياداتها.
4- صهينة الأجيال في كل أنحاء العالم أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا وإبراز المجتمع الأمريكي كنموذج حضاري فريد وتوجيه الاهتمام للدول العربية للتطبيع الثقافي والاقتصادي مع إسرائيل.
5- استخدام الصحف والمجلات والمحطات الفضائية الخلاعية في خدمة المآرب الصهيونية اللاأخلاقية لتعزيز النشاط السياسي والإعلامي الصهيوني وتم الضغط على رؤساء الولايات المتحدة جميعهم والتأثير عليهم من خلال مجموعة من السياسيين والمتعاطفين معهم في الكونغرس ومجلس النواب، وقد فضح تشومسكي سياسة اللوبي الصهيوني في إحدى دراساته[32].
رابعاً- كيولاه وفوج البغال ويهود الاسكندرية والقاهرة:
ما إن وصل خبر إعلان وعد بلفور وربطه بعد سنوات بمعاهدة (صهيونية بريطانية) مع (تركيا) لتأمين يهود العالم بتاريخ 26 نيسان عام 1920م حتى عمت الطائفة اليهودية في مصر الفرحة الكبرى فكان نائب رئيس الحركة الصهيونية بالقاهرة (ليون كاسترو) قد دعا إلى اجتماع يهودي- صهيوني في نادي ماكابي حضره (هـ. دجين) مندوب الاتحاد العالمي للصهيونية السفاردية الذي ألقى كلمة فيه أيضاً شرح أهمية يهود مصر وأصدقائهم كحلقة وصل مهمة في الهجرة اليهودية وكان ليون كاسترو قد ألقى كلمة رحب فيها بالضيف الزائر[33].
وفي آب 1918م تشكلت في الاسكندرية لجنة لنصرة (إسرائيل) من اليهود وجمعت مبالغ طائلة لـ اليشوف (المنظمة الزراعية) ووضعت المبالغ تحت تصرف (اللجنة اليهودية لنصرة إسرائيل) وقبل ذلك أوضح باترسون الكولونيل البريطاني أهمية تشكيل فوج عسكري يهودي من البغالة والحمير في شهر نيسان وأطلق عليه (زيون مول كوريس) وتتألف من 500 متطوع ومنهم بعض اليهود المستوطنين في فلسطين إضافة إلى 150 يهودياً من الاسكندرية وكانت ألبستهم وخوذاتهم تحت النجمة الصهيونية وخاطب باترسون اليهود وفوجهم العسكري الجديد قائلاً:
"مضى ألف عام وأكثر على عدم وجود جيش نظامي يهودي واحد، لهذا عليكم أن تكونوا نواة هذا الجيش اليهودي ويتطلع إليكم يهود العالم كله، وليس واجبكم أن تكونوا من ضمن الجيش البريطاني كقطعة عسكرية محترفة فيه فحسب بل لا بد أن تثبتوا للعالم أنكم كقطعة عسكرية محترفة فيه فحسب بل لا بد أن تثبتوا للعالم أنكم مقاتلون ورجال قادرون على الانتصار كي تكسبوا الأرض الموعودة"[34].
أثار تشكيل هذا الفوج العسكري الذي يحمل أعلام النجمة الصهيونية الحماسة بين يهود القاهرة والاسكندرية والمستوطنين اليهود في فلسطين.
وفي عام 1914م-1915م وصل إلى الاسكندرية (11227) يهودياً روسياً طردتهم السلطات التركية من فلسطين فعملت الطائفة هنالك لإشعال حماستهم والدعوة للتضامن مع اليهود وكان لهذا الحدث دعاية مثمرة وتحريض لا ينقطعان بخاصة وأن هؤلاء وصلوا إلى ميناء الاسكندرية حفاة عراة وعملت جمعية النازحين اليهود الروس في مصر بتنظيم إكسائهم ومساعدتهم فوراً واعتنى زعماء الحركة الصهيونية في مصر بأمورهم الصحية والنفسية والمعيشية.
وحصل تناقض كبير بين القنصل الروسي والقنصل البريطاني حول وجود هؤلاء اليهود الروس في مصر طلب تسفيرهم فوراً إلى روسيا إلا أن رئيس المجمع اليهودي قدم طلب التماس من المندوب السامي البريطاني تجاهل طلب القنصل الروسي، فأمر البريطاني فوراً بإرسالهم إلى الجيش البريطاني وتشكيل فوج البغالة والحمير للانضمام كفوج مستقل ضمن الجيش البريطاني وتم تعليمهم على كل أنواع القتال والتفجيرات كما وافق قائد القوات المسلحة البريطانية على هذا الاقتراح الذي أكد عليه فوراً "موييس القطاوي" باشا اليهود ورئيس مجمعهم بالاسكندرية[35].
وعند انتصار الاقتراح اليهودي عمد اليهود في مصر إلى إقامة الاحتفالات في الاسكندرية والقاهرة بذكرى (كيولاه) وازدانت أحياء اليهود بكل المظاهر الاحتفالية، ولسوء طالع المسلمين الذين يمرون بتلك الأحياء هتفوا مع اليهود (لتحيا القومية اليهودية) دون وعي أو وجل ويرد عليهم اليهود (تحيا مصر حرة) وكان مندوبان من المسلمين والأقباط يحضران تلك الاحتفالات وفي غمرة الاحتفالات أقام اليهود صلاتهم المعهودة من أجل إحياء الدولة اليهودية في فلسطين وتلقى الصهاينة تبرعات سخية دون معرفة أين تذهب تلك التبرعات.
وأنشأت الحركة الصهيونية في الاسكندرية جهاز مخابرات سري (مكتب للاستعلامات) مرتبط مع المخابرات البريطانية لمساعدة يهود مصر وإيران وسوريا ولبنان وإفريقيا لتمكينهم من الهجرة بما في ذلك تأمين جوازات سفر لهم على وجه السرعة لتسفيرهم إلى المستوطنات اليهودية في فلسطين.
نظمت الصهيونية المصرية الحفلات الشعبية الراقصة على (الطريقة المصرية) وعلى (الطريقة العصرية) والمسابقات الفنية والمسرحية وتنظيم ألعاب اليانصيب وغيرها بهدف استقطاب التبرعات والضرائب من تلك النشاطات للحركة الصهيونية.
وكانت الرابطة الإسرائيلية العالمية تعادي الحركة الصهيونية وتدعو اليهود إلى البقاء في أوطانهم، إلا أن العضو البارز في تلك الرابطة الحاخام ناحوم رشح لرئاسة مجمع الحاخامية في مصر بعد أن اشترط عليه تأييد قيام إسرائيل وكان (الكيرن كيميت) الصندوق القومي اليهودي يمتلك فروعاً في الاسكندرية 1933م وقام بشراء الأراضي في فلسطين لتوطين يهود مصر فيها ومنها مستعمرة (كفاريديدياه).
من المؤسسات والجمعيات التي نشطت في ذلك الوقت:
1- رابطة الشبيبة اليهودية 1923م.
2- جمعية الدراسات التاريخية اليهودية 1925م.
3- نادي الشبيبة اليهودية في الاسكندرية 1930م.
4- مؤسسة "مودان هايفري" لتعليم العبرية.
5- مدرسة وايزو لتعليم العبرية للأطفال.
6- جمعية أصدقاء اليهود من المصريين والانجليز (بريتش ترامبيدور).
7- الجامعة العبرية في القدس.
8- مؤسسة الصحافة ومجلة (كاديما). (1935م-1937م).
9- مجلة الشمس العبرية (1934-1948م).
10- مجلة إسرائيل (1919م-1939م) شومير هاتناعر (الحراس الشباب) أسسها ألبيرت موصيري.
11- مجلة شومير هاتناعر بالفرنسية ومجلة لودور (الفجر) ومجلة (ليللو ستراسيون جويش) 1928م أسسها الحاخام (دافييد براتو) تعنى في الأدب الأوروبي واليهودي وبما يسمى بالنهضة القومية والثقافية الصهيونية.
12- مجلة (لافوا جويش) الصوت اليهودي أنشأها ألبيرت- سهاتارازليسكي (1931م-1934م).
13- صحيفة لاتريبيون جويش المنبر اليهودي (1936م-1948م) جاك رابان، الاسكندرية.
لعبت معظم هذه الصحف والمجلات والمدارس والجامعات لإشاعة الفساد والفوضى والإشاعات المغرضة من أجل التخريب الاجتماعي في مصر، دون وجود مراقبة تذكر عليها.
وفي المجتمع اليهودي في مصر خطان: أحدهما معاد للصهيونية، بخاصة الذين انفصلوا عن اليهودية وعينوا مسيحياً في مدارس التجمع لكي يؤمن لهم دوراً مميزاً في داخل المجتمع المصري والحفاظ على امتيازاتهم العديدة وتلقى الجيل الذي تعلم على يد المسيحية تعاليم مسيحية (لوثريه) وكان جيلاً منشقاً عن اليهودية ومعظمهم انتقل للتعلم في المدارس التبشيرية المسيحية وارتد هؤلاء عن اليهودية وهي التي ظلت تحافظ على نفوذها وامتيازاتها.
بينما كان هنالك خط آخر كرس جهوده العديدة للمشاركة بصنع أهداف الصهيونية العالمية والذي تصادم مع رئيس الحاخامية (بيهو الياهو هازان) و(الحاخام الأكبر د. براتو) الذي دعا إلى احترام عنصرهم الشرقي الجوهري والروحي ورفض هؤلاء تحويل التبرعات للحركات الصهيونية لأنهم بهذه الحالة سيعيشون فقراء وكانت الصهيونية بتوجهاتها العلمانية ملحدة لا تعترف بالأديان ومنها الدين اليهودي مما أثار حفيظة الحاخامية المصرية بشدة ضدها.
وحاولت حركة الشبيبة من استعادة قوتها وجهودها لدعم اليشوف والصهيوني وهي التي تعلمت في مدارس (الأليانس المسيحية) وعملت على نشر الأفكار القومية والعنصرية واللغات العبرية واليديشية والفرنسية لتوسيع النفوذ الصهيوني الذي دفع الرابطة اليهودية العالمية للتدخل لدى السلطات في مصر كي يتبع اليهود فيها (للجنة التنفيذية) للحركة الصهيونية بزعامة بن غوريون[36].
خامساً- النفوذ الصهيوني في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا (1850م-1945م)
استطاعت المنظمة الصهيونية العالمية العمل باتجاهات مختلفة رغم تناقض أفكار المنظمات الصهيونية المنضوية تحت لوائها، إنما كان هدفها بالأساس دفع اليهود من أوروبا وروسيا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية للهجرة بالترغيب والترهيب إلى فلسطين، واعتبر التحالف بين الرأسمالية اليهودية وشركاتها العالمية مع الرأسمالية الأوروبية- والأمريكية المخرج للمسألة اليهودية، وهم بذلك أسياد تلك المسألة وحماة الاستيطان الأوروبي- اليهودي في جنوب إفريقيا والهند وفي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ووفقاً لتوجهات شركات استعمارية من مثل شركات أسرة روتشيلد وشافتسبري (1850-1933) وآل لازار في الأرجنتين إلى شركة هافارا في ألمانيا والنمسا إضافة إلى توجهات عصبة وكاوتسكي والبوند في روسيا وبولونيا، الذي مكن بالمرستون قبل ذلك ودفع عمليات الاستيطان وساندت اليشوف بإنشاء المستعمرات الجديدة في فلسطين، بتطبيق توجهات جديدة لليهود في العالم لا بد من تنفيذها شيئاً فشيئاً فقررت بناء المستعمرات في فلسطين وإثيوبيا وإيران وتركيا وقبرص والتركيز على فلسطين ضمن سياسة ركزت عليها شركة "اليشوف" للاستيطان الاتحاد الزراعي اليهودي الاسعتماري وكان لها أهمية كبيرة جداً في توجيه اهتمامات يهود أوروبا والعالم للهجرة لفلسطين تحديداً ودعم بالمرستون وأسرة روتشيلد وشركة هافارا فيما بعد اتحاد عمال صهيون، وشركات التجارة اليهودية، وتم التركيز على أن (العمل والتجارة العبرية) هو ضد (العمل والتجارة العربية) لذا توجب التركيز منذ البداية على (العمل العبري) في المستعمرات اليهودية وطرد العرب من السوق اليهودي الجديد، وتم تحدي اليهود الذين يطرحون شعارات شيوعية لأنها تضر بالعمل العبري، وشكلت رؤية بالمرستون رؤية برنامجية عنصرية بنظر الشيوعيين والاشتراكيين الصهاينة، وقد اعتمد قادة الصهاينة في أفكارهم وسلوكهم الشوفيني على أفكار ميكافيلي في كتابة The Prince والذي يعتقد فيه أن الشعوب في عهد الأشرار والإرهابيين هم أحسن حالاً من عهد الساسة الأخيار، وكان موسوليني ومناحيم بيغن وشتيرن ممن يؤيدون تلك الأفكار ويمارسونها وبخاصة المنافية للقيم والأخلاق الإنسانية على أساس الغاية تبرر الوسيلة، ولم يكن لشركات أسرة روتشيلد وهافارا أو للمنظمات الإرهابية الصهيونية أي دور عالمي فحسب رغم الفارق الكبير بين مصالح الدول الكبرى ومصالح العصابات الصهيونية بل انساقت لتأييد أعمالها الإجرامية لتأمين مصالحها.
وفيما إذا انتقلنا إلى الدور الصهيوني ونفوذه باتجاه ألمانيا النازية سنجد أن هنالك قضايا عديدة يمكن التركيز عليها وأهمها:
*قضية كاستنر والجستابو:
لقد أثبتت مجموعة وثائق وأحداث قضية كاستنر الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية العالمية في التعاون الوثيق مع أجهزة استخبارات هتلر، بخاصة وأن رودولف كاستنر كان مفوضاً للوكالة اليهودية العالمية وهو دكتور في الحقوق من أصل روماني وعضو مهم في المنظمة الصهيونية العالمية ورئيس اللجنة التنفيذية لاتحاد صهاينة بنسلفانيا، وبالوقت نفسه شغل منصب رئيس الاتحاد الصهيوني الهنغاري والرئيس التنفيذي لإنقاذ يهود هنغاريا ورومانيا في خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن فضيحة (إيخمان) في خلال المحاكمة في نيورينبرغ قد كشفت إذ تم جلب الوثائق والشهود والتأكيد بأن رودولف كاستنر قام في معسكرات الاعتقال النازي عام 1944م بدفع آلاف اليهود الهنغار والرومان للموت وسعى إلى دفع الـ أس. أس لإبادتهم وهو مسؤول عن مقتل 590 ألف يهودي من هنغاريا ورومانيا بموافقة قادة الجستابو والمنظمة الصهيونية العالمية بعد فرضهم للنظام الفاشي في غيتو "بودابست" وسوق هؤلاء اليهود بالقطارات
بعد إقناعهم أنهم مهاجرون إلى أميركا، وبالخداع تم سوقهم إلى حتفهم وكتب الصهيوني (بن هتيا)[37] في كتابه بعنوان (الغدر):
"كان الكثير من يهود هنغاريا على بعد ثلاثة أميال من حدود رومانيا وتحت حراسة الجستابو النازية دفع بهم كاستنر إلى الموت دون وازع من الضمير أو الشفقة...".
وقد اعترف كاستنر أمام محكمة نيورينبرغ التي حاكمت المجرمين النازيين بأنه غطى على قسم كبير من أجهزة الأمن والمباحث المشتركة النازية- والصهيونية حقيقة وعدم كشف حقيقة دفع اليهود إلى المذابح بمؤامرة دنيئة منه كي يكونوا عبرة لغيرهم ليهاجروا إلى فلسطين قبل فوات الأوان إلا أنه في عام 1948م عين كاستنر مديراً للعلاقات العامة بوزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية ثم التحق بإذاعة إسرائيلية خاصة تبث برامجها إلى هنغاريا ورومانيا لتضليل الرأي العام هنالك[38]. حاول فيما بعد أحد الصحفيين اليهود التعرف على شخصيته واتهمه بأنه تعامل مع النازيين وجلب وثائق تدينه تماماً، وأظهر ذلك في قاعة المحكمة الإسرائيلية[39]، إلا أن الأجهزة السرية الإسرائيلية باغتت الصحفي وسرقت منه الوثائق بالكامل لإغلاق ملف تعاونها مع المخابرات النازية، وقررت قتله بعد تهديده من قبل الموساد للتراجع عن الدفع بالقضية إلى الأمام وإلا سيقتل، وهرب الصحفي إلى خارج الكيان الصهيوني ولم يعد أحد يعرف عنه شيئاً، وقررت الأجهزة السرية الإسرائيلية في آذار عام 1957م إسكات رودولف كاستنر للأبد، واغتالته بالرصاص ورغم أن جراحه خفيفة قررت قتله في إحدى المستشفيات وكان بن غوريون وغولدا مائير وآلون المخططين لهذا العمل، لأنهم أهم عناصر القيادة الصهيونية الذين عقدوا الصفقات والاتفاقيات مع الأجهزة السرية الألمانية لنقل الأسلحة وإيرادات الممتلكات اليهودية التي لم يستطع اليهود بيعها[40].
لنعود إلى الاتفاق الذي وقع بين الوكالة اليهودية- العالمية وبين فرع الجستابو تحت رقم (11-112) المسمى مكتب فلسطين المشترك الذي كانت مهمته انتقاء أفضل اليهود الألمان المناسبين من النواحي السياسية والمالية والفنية، لإرسالهم إلى فلسطين والدول العربية وبالأخص إلى مصر، واتفق الطرفان لكي يغادر هؤلاء بمجموعات سرية إلى البرازيل والأرجنتين بضمانة الجالية اليهودية الغنية والقوية فيها، ثم انتقلوا إلى جزر آزور بعلم الطرفين بين أعوام (1933م-1937م) ووصل منهم أكثر من 40 ألف يهودي ألماني، وكان قسم (ميلدنيشتاين) أنشئ ضمن جهاز أمن القوات الخاصة الألمانية النازية، وأقام صلات قوية مع المنظمة اليهودية العالمية، وفي عام 1937م وبمبادرة من شاخت رئيس البنك الألماني تمت الموافقة الشخصية من هتلر بتوسيع مجال عمل (الجمعية التجارية اليهودية- هآفارا[41] والتقى و(ايزرمان وجولدمان) زعيما المنظمة الصهيونية في خلال الثلاثينات بزعيم الفاشية الإيطالية (موسوليني) حليف هتلر والذي كان صاحب فضل كبير على اليهود الألمان والإيطاليين بتوسيع الصلات الاقتصادية لجمعية- هآفارا- وتم بالتعاون فيما بينهم افتتاح مدرسة عسكرية بحرية صهيونية (غير شرعية) في مدينة تشيفيتا فيكيا، الإيطالية، وظلت تنشط لصالح المنظمة الصهيونية، وأدخلت عليها مجموعات من منظمة يهودية شتيرن وآرغون (تزفاي ليؤمي) (المنظمة العسكرية القومية لإسرائيل) وهي جماعة انشقت عن الهاغاناه برئاسة (ف. جابوتنسكي زعيم بتيار الإرهابيين الصهاينة الإصلاحيين وشكلت فرقة (الحرس الأسود)[42] في خارج وداخل فلسطين ويعود إليها مجموعة أعمال إرهابية ضد العرب.
وزودت المستعمرات اليهودية في فلسطين بالمتخرجين من المدرسة العسكرية البحرية الإيطالية بالاتفاق مع موسوليني، واستطاعت القيادة الإرهابية الصهيونية في إيطاليا وتشكيوسلوفاكيا ودول أخرى جمع أموال كبيرة لشراء زوارق حربية وطوربيدات لهؤلاء المتخرجين وتم إرسالهم إلى ميناء (تل أبيب) لحماية المستعمرات تحت حجج حماية أنفسهم من العرب، وبمذكرات غولدا مائير أكدت أنهم لم يحلموا يوماً ما أن يكون لديهم ذلك الأسطول الجديد الحربي الذي اعتبر ميناء تل أبيب القريب من يافا ميناء حيوي لأنشطة البحرية الصهيونية واتصالاتها الخارجية عبر البحار.[43]
أما كاناريس رئيس جهاز (أبفيهر) المختص بـ المخابرات المضادة لألمانيا النازية نسق أنشطته مع رجال المخابرات الإسرائيلي في المنظمة الصهيونية العالمية، لاضطهاد اليهود وأوضحت وثائق الحرب العالمية الثانية، وبعد أن استولت عليها القوات السوفييتية حتى دخولها لبرلين، بأن هنالك شخص يدعى (يعقوب- ياكوف) كان ذاته مائير أميت أحد قادة المخابرات الخارجية الإسرائيلية، وهو الذي كشف محطة إذاعة الشيوعيين الألمان السرية، بعد أن باءت جهود الجستابو وجهاز أمن القوات الخاصة بالعثور على مكانه.
ألقيت المهمة على عصابة (شتيرن) وهاغاناه بيت و(آرغون تسفاي ليؤمي) في ألمانيا وإيطاليا، وزجت بمجموعات تلك العصابات بزعامة مناحيم بيغن الذي نسق بالكامل مع النازيين والجستابو لتحطيم وملاحقة الإذاعة وأنصار السوفييت، وكان تلميذاً لـ بينو في مقر الصهيونية في ألمانيا بشارع (ماينيكر- شتراسه) ببرلين، وبيغن وبينو صديقان حميمان بالإرهاب وسفك الدماء.
وتم كشف المجموعة في الإذاعة عبر اليهود الموالين للنازية الألمانية وجواسيس مناحيم بيغن وتم إعدامهم رمياً بالرصاص وأخذ بيغن على عاتقه مع (بينو) وموشيه أورباخ الذي كان بمدينة فيينا لإجراء كل عمليات التنسيق المشتركة مع الصهيوني (بولكيس) وصديق آخر لمناحيم بيغن، أما إيخمان فكان تحت تصرفهم دائماً في إدارة جهاز الأمن الخاص بفرع فلسطين (11-112) وهو أحد أهم عملاء النازيين الألمان بعد ذهابه خلسة إلى الشرق الأوسط، وكذلك الحال تم التقاط مجموعات من الشباب في الغيتوات في أوروبا الشرقية ممن يشبهون العرب (من رومانيا وهنغاريا) وحظيوا باهتمام الجستابو والأجهزة السرية للعصابات الصهيونية وبتأييد من (كاناريس- وبيغن) لإرسالهم إلى الدول العربية للتجسس وبالأخص في القاهرة حيث أثبتت فضيحة لافون وجود يهود ألمان بضمن المجموعة الإرهابية حينذاك.
كذلك كانت علاقة كاناريس بـ جابوتينسكي ورازين وشتيرن وإسحاق شامير قوية جداً وقد كان شامير معروفاً بـ"إسحاق يزرنتسكي" وقامت مجموعة مرتبطة بهؤلاء الإرهابيين سميت بـ مجموعة (كاناريس- شتيرن) من عام 1939م- حتى 1944م بالتخطيط لقتل اللورد موين المبعوث البريطاني للقاهرة للتداول مع الملك بقضايا معينة، وقد تأثر ونستون تشرشل بقوة بالحادث ثم علق على ذلك:
"إن بريطانيا هي مهندسة لمعماريين يهود نصنع لهم مستقبلهم، ونضمن ذلك المستقبل للصهيونية الجديدة، إلا أن مقتل الوزير المبعوث البريطاني في القاهرة هو من أسوأ أنواع الإرهاب والإجرام على الطريقة النازية الألمانية..."[44].
لقد أثبتت قضيتا كاستنر وكاناريس وعلاقاتهما مع قادة الإرهاب النازي وبأن المنظمات الصهيونية عملت خلال الحرب العالمية الثانية باتجاه واحد ضد السوفييت وستالين والجيش السوفييتي وفضحت تلك الأعمال والوثائق والسلوكيات الفاشية علاقات شتيرن، وآرغون، وغيرهما مع النازيين وبقتل وتشريد اليهود الألمان والرومان والهنغار وتسليم اليهود الموالين لموسكو إلى الأجهزة الألمانية أما غولدا مائير فقد أكدت بأن هؤلاء المرتدين أنصار شتيرن وآرغون كانوا يتمسكون بالعنف الشوفيني[45].
سادساً- فضيحة لافون وشبكة موليسس في القاهرة
في عام 1953م قدمت الولايات المتحدة عن طريق وزارة خارجيتها باقتراح لإقامة السلام بين العرب وإسرائيل لكي يتم نقاش المسألة في جامعة الدول العربية وكتب في صحيفة نيويورك تايمز في ذلك الحين بأن هنالك شخصية أميركية تقوم بإجراء اتصالات سرية ومباحثات دبلوماسية بين مصر وإسرائيل وبطرح موضوع القدس في الاتصالات إضافة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن النائب البريطاني العمالي (أورباخ) أكد بأن (رالف بانش) هو المبعوث الأميركي الذي يتصل مع المصريين، وذكر ناحوم غولدمان كيفية إجراء الاتصالات مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر من خلال وسيط أميركي، باعتباره رئيساً للكونغرس اليهودي الدولي وحصل على تأييد ترومان للقيام بدور كبير لإقامة علاقات ما مع مصر وحاولت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ابتزاز الزعيم المصري من أجل تأييد قيام السوق المشتركة في الشرق الأوسط برعاية أمريكية تضم إسرائيل كدولة عادية وعضوة في هذه السوق، إلا أن "ناصر" رفض الطلب الأميركي، وحثت إدارة ترومان وغولدمان أيضاً الزعيم الهندي "غاندي" إضافة إلى جواهر لال نهرو بأن يعرضا الفكرة على عبد الناصر وأخذ موافقة مبدئية منه[46].
إلا أن المصادر تذكر بأن عبد الناصر تحدث مع (أورباخ) في خلال شهور متتالية لمناقشة عدد من الاقتراحات التي تقدم بها بالأساس (موسى شاريت) في تحقيق وفاق بين إسرائيل ومصر، وبخاصة بعد أن أطلقت مصر سراح السفينة الإسرائيلية التي احتجزتها وهي تحاول عبور قناة السويس، كنوايا حسنة لإيقاف الحملات المعادية للعرب بعد التوسط الأمريكي، وعمل (آفي شليم) لكتابة تقرير سياسي حول دور شاريت في تحقيق الوفاق بين مصر وإسرائيل، باعتباره باحثاً ما بين 1980م- 1981م في برنامج دراسات الأمن الدولي في مركز وود رودلسون في واشنطن (D.C).
أما بيريز وموشي دايان اعتبرا تصرفات (شرتوك- موشي شاريت) بأنها تصرفات شخصية وليست ذات مغزى أو فائدة، وذهب دايان إلى أبعد من ذلك واعتبرها خطيرة، لأن شاريت سيجعل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة عنصراً حاسماً في المفاوضات مع جمال عبد الناصر، لا بل وتتدخلان في شؤون إسرائيل، فعمد دايان رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني إلى تصعيد سياسة العدوان والتسلط بحرب محدودة (1954-1955م) على الحدود المصرية والأردنية والسورية ومحاولة ضرب أهداف مدنية وعسكرية بهدف فرض شروط إسرائيل على تلك الدول وعلى مصر أساساً، وكان وقتها نافون وزيراً للدفاع أما دايان فكان رئيساً للأركان معارضاً فكرة شاريت السلمية، وأدرك الأخير بأن مواقف بن غوريون عدائية للسلام وللعرب، إلا أنه حينما تسلم (شرتوك) رئاسة الوزراء ازداد ذعر ورعب دايان ونافون، وانتقد تصرفاتهما علناً بعد مجزرتي (قبية، ونحالين) وحصلت تناقضات صارخة بين أهداف رئيس الوزراء (شرتوك- شاريت) المتجهة نحو المفاوضات السلمية وبين أهداف نافون ودايان اللذين سعيا لتسعير نار الحرب والعداء ضد العرب وعبد الناصر، وقام أرئيل شارون بارتكاب مجزرة (نحالين) من خلال القوة الخاصة رقم 101 دون موافقة وزارة الدفاع التي تتبع لرئاسة الوزراء بهدف معارضة تصورات وأهداف موش شاريت (شرتوك) وفي عام 1954 امتدت الاعتداءات الإسرائيلية إلى مدينة القاهرة المسالمة، بالتخطيط بين (بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا) وعناصر يهودية تابعة للحركة الصهيونية العالمية عبر شبكة (مولسس) التجسسية للقيام بأعمال تخريبية ضمن العاصمة المصرية لإحراج القيادة المصرية ودفعها لاتخاذ إجراءات تخرب العلاقات المصرية البريطانية والمصرية الأمريكية، وكان شاريت لا يعلم فيما يبدو بهذه الأعمال لأن أهدافه كانت تتجه بمسار آخر، بينما خطط لذلك موشي دايان وشارون، فأحدثت العملية ضجة كبيرة واختلالات في علاقة مصر بالدول الغربية وأميركا[47].
أما نافون فقد تسلم رئاسة الهستدروت وكان من أنصار شاريت معارضاً أعمال دايان وشارون وبناءً على تعليمات بن غوريون طرد نافون من الهستدروت، وبعد سلسلة أحداث داخل الكيان الإسرائيلي أعاد ليفي اشكول نافون لعضوية الهستدروت وحزب المابام[48].
في 26 تموز أعلن عبد الناصر قراره الجريء والمخطط له، إعلان الشركة العلمية للملاحة الدولية في قناة السويس شركة وطنية مؤممة حسب قوانين الثورة وتحويل جميع واجباتها والتزاماتها إلى ملكية للدولة والشعب، رغم التحذيرات البريطانية والأمريكية واليهودية العالمية من محاولات تأميم القناة ضمن معاهدة عام 1888م التي تتعلق بالملاحة ضمن القناة وتشاورت الدول الثلاثة بين وزير خارجية فرنسا كريستيان بينو ووزير خارجية بريطانيا أنتوني ايدن ووزير خارجية إسرائيل، وبعد ثلاثة أسابيع عمل مكتب وزير الدفاع الأميركي تحت ضغط إسرائيل وجماعات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لضرب مصر بحرب رادعة تلجم اندفاع عبد الناصر نحو تحدي الدول الاستعمارية وإقامة الوحدة العربية، ودفع بالجيش الإسرائيلي إلى مصر بالعدوان الثلاثي لإسقاط نظام عبد الناصر وتدمير جيشه 1956م وكان جون فوستر دالاس يؤيد /إسرائيل/ ولندن وباريس بالقيام بأعمال حربية، ودفع باللوبي الصهيوني لجمع المساعدات والتبرعات في الولايات المتحدة لدعم الجيش الإسرائيلي، بعد أن رفضت مصر عقد مؤتمر دولي لجعل قناة السويس ملكاً لاتفاقية دولية لها سلطة عالمية تهيمن عليها إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا على قناة السويس وقام رئيس وزراء استراليا (ح. متريس) بتوجيه إنذار لعبد الناصر بعد انتهاء أعمال المؤتمر الدولي وخططت وزارات الدفاع الفرنسية، والبريطانية، والإسرائيلية لشن حرب رادعة ضد مصر ومارس بن غوريون بعد زياراته للجاليات اليهودية ومجموعات الضغط في الولايات المتحدة، سلسلة أكاذيب لكسب الرأي العام الأمريكي والطائفة اليهودية في أوروبا وأمريكا لشن حرب رادعة، وعند إعداد الخطط العسكرية نهائياً اتصل بن غوريون[49] مع أيزنهاور لأخذ قراره النهائي بالتدخل وبالاتفاق مع بريطانيا زاعماً:
(إن عبد الناصر طوق إسرائيل بطوق فولاذي مستعداً "للحرب" وزار بن غوريون فرنسا سراً للانتهاء من خطة الحرب المشتركة).
سابعاً- الدور العالمي لشركة آل روتشيلد الصهيوني 1850م
اعتبرت الشركات اليهودية العالمية الحامية الكبرى لكل المسألة اليهودية وتطوراتها فهي حامية الاستيطان الأوروبي عوضاً عن الاستيطان اليهودي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أي باختصار في الدول الفقيرة. وفقاً لتوجيهات شركات أسرة روتشيلد وشافتسبري وأسرة لازار وتوجهات (البوند في روسيا وبولونيا) وتوجهات (الدونما في الدول الإسلامية والباب العالي) أعلن بالمرستو عن توجيهات جديدة لا بد من تنفيذها في بلاد الشام وإثيوبيا وإيران وتركيا فضلاً عن فلسطين ضمن سياسة "اليشوف" الاتحاد الزراعي الصهيوني واتحاد عمال صهيون الذين أكدا مع بالمرستون وبدعمه الخاص أنهم ضد العمل العربي، من أجل الاستيطان الذي سيقوم به (العمل العبري) لذا توجب منذ بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين طرد العرب من السوق الجديدة التي هي بالأساس سوقهم وأرضهم لأنها ضرورة هامة للسياسة الاقتصادية والاستيطانية للصهيونية العالمية، رغم أن العنصرية شكلت المفهوم الرئيس للعمل العبري حسب ما أعلن عنه الفهود السود أساساً[50].
لقد عمل حاخامات اليهود في الاسكندرية والقدس والباب العالي قبيل القرن العشرين لتوطيد ما يلي:
أ- إعلان قبول يهود العالم بما فيهم يهود مصر بالحركة الصهيونية ودور القنصل البريطاني في القاهرة ودور الحاخام الأكبر موييس القطاوي باشا يهود مصر ورئيس مجمعهم بالاسكندرية أصحاب احتفالات (كيولاه)[51]؟!
ب- التوجه بالرجاء الخاص إلى الحكومة البريطانية العظمى بأن: "تسهل لليهود استعمار فلسطين وتشجيع حركة الاستيطان مما أدى إلى إعلان وعد بلفور المشؤوم عام 1917م (2 تشرين الثاني) بتشابك مصالح شافتسبري وأسرة روتشيلد وبالمرستون مع العرش البريطاني "وكان لفرنسا أيضاً الدور نفسه بأن أصدر سكرتير وزارة الخارجية الفرنسية كامبو "وعد كامبو" الشبيهة تماماً "لوعد بلفور" ولكن في شهر أيار من العام نفسه، تكامل التآمر الاستعماري البريطاني- الفرنسي وساندا بقوة قيام الكيان الصهيوني ودعماه باتفاقية خطيرة سميت اتفاقية سايكس بيكو (1916م) التي قسّمت المنطقة إلى دول متفرقة خوفاً من وحدتها ضد الكيان القادم.
لقد كان هربرت صموئيل حاكماً عاماً على فلسطين وقت الانتداب البريطاني ولاعتقاداته الرسمية فإنه من خلال الانتداب البريطاني لا بد من تطبيق وعد بلفور، وبهذه الصورة تكامل الحلف الاستعماري تحت النجمة الصهيونية بعد أن كان لذلك الحلف خيوط وأصابع في كل مكان من أوروبا إلى أمريكا إلى الباب العالي، فالشعوب العربية والإسلامية لا يمكنها تناسي تلك الأحداث التاريخية الخطيرة ودور بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في زرع الكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في محاولات ضرب الوحدة العربية بين المشرق والمغرب، الأمر الذي يفسر الوقوف ضد وحدة مصر وسوريا ووحدة العمل الاستراتيجي العربية، والأخطر في الممارسات الانجليزية ما قام به "إدوارد لودفيج ميدفورد" الدبلوماسي الانجليزي غير اليهودي، بتقديم نداء عالمي بالنيابة عن اليهود لإنشاء كومنولث بريطاني في بلاد الشام على أساس من:
"فلسطين بمساحتها الصغيرة لا تتسع ليهود العالم، ويستحسن توسيع نطاق الدولة تلك عبر الاستيطان ليس في فلسطين فحسب بل في الأراضي المجاورة لها، ويمكن إقناع الامبراطور العثماني بتهجير كل السكان "المحمديين" من فلسطين حتى نهر الليطاني وحتى درعا السورية وسيناء المصرية وإلى مناطق داخلية في شمال العراق وسوريا"...؟!
الباب الثاني
اللوبي الصهوني في الولايات المتحدة ومجموعات الضغط اليهودية
((بناي برث- يوإيباك- معهد الأمن القومي))
1 لمحة عن اللوبي اليهودي- الصهيوني في الولايات المتحدة
يقصد عادة باللوبي الصهيوني في الدراسات والأبحاث التي تتناول أحزاب ومنظمات ومجموعات الضغط اليهودية- الصهيونية في داخل الولايات المتحدة وغيرها، وكيفية تعامل هؤلاء في مختلف مناطق تأثيرهم على أنشطة الوزارات والمؤسسات الأمريكية التنفيذية والقضائية والتشريعية، بالرغم من وجود مجموعات أخرى للضغط تختلف مبادئها وأهدافها منها مجموعات كوبية ويونانية وصينية وعربية، في مساحات التأثير بالسياسة الأمريكية، أكان اتجاه الصراع العربي- الصهيوني أو اتجاه قضية قبرص الشمالية أو في الحصار المستمر على كوبا في فرض تجاه واحد على العمل الرسمي الأميركي وتبنيه، إلا أن الطائفة اليهودية الكبيرة في الولايات المتحدة والبالغ عددها 6 ملايين تمثل 2% من عدد السكان والمجتمع الأمريكي، ولها تأثير مباشر وغير مباشر على مجمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة في واشنطن فإننا نحاول سبر غور الخلفية التاريخية لدور مجموعات الضغط اليهودية- الصهيونية مثل إيباك وبناي بريث، وجويش إبل، وجويش أنتيتي سنتر (مركزها تيكفا) الذي أسسه الحاخام مائير كاهانا ومدير المركز "مايك غوزوجسكي" إضافة إلى التناقضات بين الحركة الصهيونية العالمية وإسرائيل مع بعض مجموعات الضغط مثل "منظمة جونيت العالمية" و"هياس" ودور "لجنة البحث اليهودية الأمريكية العالمية" التي تتقصى وتتابع كل من يكتب أو يحرض على اليهود الصهاينة في العالم أكان ذلك إبان الاتحاد السوفيتي السابق أو في المرحلة الحالية ضد العرب والمسلمين وطبيعة الخلافات حول مركزية الكيان الصهيوني ودور اللوبي الصهيوني في دعم عنصرية وعدوانية "إسرائيل" ضد العرب منذ عام 1948م حتى الآن[52].
لا شك هنالك قراءات وتحليلات متعددة حول طبيعة الأدوار التي قام بها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية في مراحل متقدمة للتأثير على السياسة الخارجية والحربية وفرض قياداته على مراكز التأثير الحساسة ومواقع القرار مثل (هنري كيسنجر، مادلين أولبرايت، وليم كوهين) وهي المراكز الأهم في صياغة القرار الأمريكي، رغم التحذيرات الخطيرة التي أطلقها بنيامين فرانكلين حول دور اليهود الخطير في البلاد عام 1789م[53] باعتباره مؤسس الولايات المتحدة وأحد واضعي دستورها.
يلاحظ في السنوات الأخيرة من القرن العشرين بأن إدارة بل كلينتون هي من أبرز الإدارات الأمريكية التي اعتمدت بشكل رئيس على تلك القيادات النشطة في مجموعات اللوبي الصهيوني التي تتبنى الرأي الإسرائيلي وتدعمه منهم وزيرة الخارجية ووزير الدفاع ومستشار الأمن القومي إضافة إلى دينس روس مبعوث المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، ودوره الصريح في منظمة إيباك، وفي الضغط على السلطة الفلسطينية وابتزازها.
انتقلت مراكز الصهيونية العالمية وأجهزتها القيادية من أوروبا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (1940م-1945م).
وحصلت عمليات تقارب واسعة بينها وبين الأجهزة السياسية والدعائية والاقتصادية للولايات المتحدة بعد اختيارها كمركز للصهيونية العالمية، بسبب أن وجود المنظمات اليهودية الصهيونية فيها هي الأكثر تعداداً والأضخم نفوذاً من النواحي السياسية والمالية، ومكَّنها ذلك التزاوج مع المجمع الأمريكي الصناعي الحربي والقيام بنشاط واسع جداً، لأن الأمريكيين من أصل يهودي يملكون ويديرون الشركات الضخمة والبنوك والمصارف العالمية وشركات الاتصالات والتأمين، فهم يسيطرون فعلياً على أهم الشركات المتلفزة وأهم الصحف الأمريكية "الواشنطن بوست" إضافة إلى أضخم جهاز إداري، وأشهر المنظمات اليهودية "يونيتد جويش إبل" و"بناي بريث" و"إيباك" وتحويل مركز الصهيونية العالمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية كونها استفادت من تحويل الشركات والاستثمارات والبنوك من أوروبا إليها قبل وفي خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتالي اختيار الرؤيا السياسية التي تبنتها الدوائر الأمريكية والكنيسة المورمانية الأمريكية فتغير مع ذلك قوة تأثير اليهود والصهاينة على المسرح العالمي[54].
كتب الملحق العسكري الأمريكي في بيروت عام 1946م ضمن اهتمامات البعثة الدبلوماسية الأمريكية بالمنطقة، ما يمكن ذكره وتحليله عن الميول الشيوعي المتسرب للمنظمات والهياكل العمالية والاشتراكية اليهودية الكبرى ضمن فلسطين بما فيها الكتلة النقابية العمالية اليهودية "الهستدروت" وتخوفت الأجهزة الأمريكية والغربية من ازدياد النفوذ اليساري في داخل الحركة العمالية اليهودية المعادية إلى حد ما للوكالة اليهودية والحركة الصهيونية؛ واللتين استغلتا الهجرة اليهودية العالمية إلى فلسطين برعاية واضحة منهما، واستثمر قادة الصهاينة من مختلف الاتجاهات العلمانية والدينية خصوصاً التعاطف الأوروبي والأميركي المتزايد مع اليهود بعيد الحرب العالمية الثانية واستغلوا بشكل بشع مسألة "المحرقة النازية"[55] بالدعاية الإعلامية رغم أن الحرب أتت على عشرات الملايين من شعوب الدول المشاركة بها في أوروبا، لكن الملحق العسكري الأمريكي ذكر في تقاريره أن العرب ناقمون على اليهود والصهاينة والدول التي تدعمهم وهم بذلك يهددون المصالح الحيوية للدول الكبرى، ونصح قيادة أركان القوات الأمريكية التعاون مع زعماء الحركة اليهودية والصهيونية، وطالب بأن يقدر هؤلاء حجم المساندة من القوات الأمريكية لحماية الدولة اليهودية بعد عام 1948م ودعم العصابات الصهيونية بكل أنواع الدعم إضافة لدفع البوارج والقطع الحربية الأميركية للوجود قبالة موانئ حيفا ويافا عند الاستعداد المستمر لاغتصاب فلسطين وجعلها وطناً ليهود العالم منذ 1947م- حتى الآن[56].
يلاحظ هنا أن مجموعات الضغط اليهودية أثرت بشدة على الرئيس ترومان، بعد أن قدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة مستنداً قانونياً لبناء الدولةا ليهودية بقرار التقسيم (181) وبالاعتراف الأمريكي الرسمي بدولة يهودية وأخرى عربية على أراضي هي بالأساس فلسطينية عربية كانت تحت الانتداب البريطاني منذ بداية عشرينات القرن الماضي، ووجهت الوكالة اليهودية العالمية نداء ليهود الولايات المتحدة لإرسال السلاح والمال والمتطوعين فوراً عام (1947م- 1948م) وأوفد موسى شاريت (شرتوك) للولايات المتحدة ليطلب رعاية للوكالة اليهودية رسمياً وعلى أن تحصل بالإذن للمشاركة في مجلس الأمن الدولي، وأيدت الخارجية الأمريكية، مشاركة الوكالة اليهودية بالمناقشات العامة في الأمم المتحدة على أن يسمح بموجب ذلك لليهود باستيراد السلاح إلى فلسطين بموافقة الأمم المتحدة بهدف تنظيم ميليشيات ضمن الدولة اليهودية تحت حجج حماية نفسها من العرب لأن اليهود فيها بسطاء وليس لديهم السلاح[57].
وعملت المنظمات الصهيونية اليهودية منها الكونغرس اليهودي الأمريكي، لجنة فلسطين الأمريكية اليهودية، المجلس الدولي للنساء اليهوديات، منظمة العمال الصهيونية في أمريكا، المنظمة الصهيونية الأمريكية والمحافظون الصهاينة في أمريكا، ومنظمة حداش التي تضم أكثر من 300 ألف عضو فيها الوقوف ضد الإدارة الأميركية ووزارة خارجيتها عام 1949م لرفضها لخطة إسرائيلية لتطوير حوض نهر الأردن، وخطة دولية لإعادة إسكان 200 ألف فلسطيني في الأردن وبأساليب الضغط والابتزاز تظاهر اليهود وأضربوا واعتصموا أمام الخارجية الأمريكية معتبرين الرفض الأمريكي على الخطة جزءاً من قطع المساعدات الأمريكية لإسرائيل بعد قيامها وهي محاولة لإجبار دولة صديقة (إسرائيل) بعدم تنمية مواردها بعد أن قطعت الخارجية الأمريكية المساعدات عن إسرائيل 19/10/1949م.
تصاعدت حجم الانتقادات والمعارضة اليهودية الصهيونية للسياسة الأمريكية الغامضة تجاه بداية المشاريع اليهودية في فلسطين، ولكنها نجحت إلى حد كبير فيما بعد لنيل رضى الحكومات الأمريكية بالضغط السياسي والمالي والأمني وبأساليب لا أخلاقية للوصول إلى أهداف الحركة الصهيونية والأحلام التوراتية بدعم الكيان الصهيوني.
لقد خطط حاييم وايزمن وغيره لإخراج الصهيونية من مأزقها بدعم فكرة الوكالة اليهودية لإقناع العرش البريطاني، وحكومتها إضافة إلى الولايات المتحدة ودول أخرى لتوافق على أنشطة مراكز القوى اليهودية في بلدانها، وعمل وايزمان لإقناع يهود الولايات المتحدة باعتبارهم أكبر تجمع يهودي عالمي إذ يبلغ عددهم 6 ملايين وتمكن من إقناع زعماء وحاخامات اليهود في أمريكا بضرورة العمل ضمن أهداف الحركة الصهيونية العالمية ومساندتها بكل شيء.
***
2 اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة:
(التأثير المبكر على مراكز القرار)
لعبت الكنيسة المورمانية الدور الخطير في إحياء المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة فأرسلت جوزيف سميث تلميذ (أوريسون هايد) إلى القدس من أجل استكمال النبوءات التوراتية ببعث إسرائيل من جديد عام 1840م أي قبل 160 عاماً ومن خلال "كتاب سري" له طابع رسمي حمله هايد نفسه من وزير خارجية الولايات المتحدة شخصياً إلى الحاخامات القدس. إضافة إلى كتاب سري آخر من حاكم ولاية (أيلينوي) بأن يقوم قنصل السفارة الأمريكية في القدس بدعم الاستيطان اليهودي في فلسطين بأي شكل حتى وإن كان ذلك من خلال الدسائس والفتن وفي عام 1850م آب أي بعد عشرة أعوام من بناء أول مستوطنة زراعية (لليشوف) بتاح تكفا في ضواحي القدس، وعمل على تأسيس مستوطنات جديدة، ودعا اليهود للهجرة من خلال تشجيع ما يلي:
أ-إقامة الحفلات الرسمية وغير الرسمية تحت إشراف الصهيونية سراً مع استخدام العلم البريطاني.
ب-ملتقيات الصداقة والمحبة والأنشطة السياحية ولجان الآثار والاستشراق بتشجيع قوي من أوروبا وأمريكا.
ج-تشجيع نشاطات الكنيسة البروتستانتية في الدول العربية (الجامعات الأمريكية).
وبخاصة أن اليهود يعتبرون المسيحية البروتستانتية هي الفكر الأسمى لهم لأن اليهودية تطرح نفسها "الحريديم" على أنها مسألة لاهوتية بالنسبة إلى ألمانية ومسألة تحرر ذاتي سياسي بالنسبة لفرنسا ومسألة علمانية بالنسبة لأمريكا، وعلى أثر النشاطات اليهودية الصهيونية في الولايات المتحدة توفر لها مناخ العداء القومي والعرقي والديني وحظيت معظم الصحف والمجلات ووسائل الإعلام والمؤسسات الأمريكية[58] باستشارات ونفوذ قوي للمنظمات الصهيونية من مثل: اتحاد العمل الأمريكي، والمؤسسة الثقافية الأمريكية، واتحاد الذهب واتحاد النحاس ومدرسة راند ومؤسسة العمل الأمريكي وصناديق الدعم المالي والبوندس نيتشر اليهود في كندا وشمال أمريكيا, والكونغرس الأمريكي, والكومنولث الصهيوني الأمريكي والوحدة الطبية الأمريكية واتحاد الشباب الصهيوني, ولجنة الطوارئ الصهيونية الأمريكية, ومنظمة جونيت العالمية, إضافة إلى الشركات المتفرغة عن اندماج شركات أسرة روتشليد وأسرة لازار في أوروبا وأمريكا المسماة (R.M) فوق القومية ومن فروعها شركة (فيليبس العالمية) التي تساند إسرائيل بصنع التقنيات الحديثة في مجال القوة الجوية والطاقة النووية إضافة إلى الكارتل النفطي في أمريكا اللاتينية[59].
***
3 دور المجلس المسيحي- اليهودي العالمي:
كذلك قامت مجموعة من المستوطنين التي تسمى الجالية الأمريكية التابعة للقنصلية الأمريكية من التجار ورجال الأعمال المسيحيين الأمريكيين منذ عام 1840م-1850م والمقيمين في مدن حيفا ويافا ومدن أخرى بإرسال رسائل خاصة لأعضاء الكونغرس الأمريكي هدفها إثارتهم ودعوتهم كذباً ورياءً لتخليصهم من أوضاع وصفوها بأنها رهيبة ولا تحتمل وذلك بالاتفاق المسبق مع الحاخاميات اليهودية في تركيا- وسالونيك وإيطاليا وفرنسا، والاسكندرية، فأرسل أكثر من سبعين شخصاً رسائل مغرضة بعد موافقة السفير الأمريكي في الباب العالي العثماني وجاءهم الرد من أعضاء الكونغرس، بالتشكيك بمحتوى الرسائل المرسلة وبالموقعين عليها مؤكدين بأن المشروع الاستيطاني اليهودي لا يعني أمريكا وهو غير ناجح، لكن رغم ذلك فإن أعضاء الكونغرس أكدوا أنهم سيرسلون مجموعات يهودية للاستطلاع وأنهم سيصلون ميناء يافا من ولاية (ماين) لتدارس الموضوع مع بريطانيا لتبيان نجاح مشروع الرسائل المرسلة إضافة إلى تشجيع هجرة المجموعات اليهودية، وجاءت ذروة تلك الأعمال بعد ضغوطات اللوبي الصهيوني ومنظماته على الكونغرس وزعماء أمريكيين ولا يمكن إغفال أحداث وتطورات القرن التاسع عشر في المنطقة أو في أوروبا.
أما اللورد بالمرستون 1784م-1865م كان سياسياً كبيراً ومدافعاً نزقاً عن فكرة هجرة اليهود واستيطانهم في الأراضي الفلسطينية المقدسة استكمالاً للحروب الصليبية ولتأديب الكنيسة الشرقية والإسلام وكانت الامبراطورية ومجمعها الاستعماري القديم في لندن مشغولة تماماً بترتيب كل ذلك بدقة، إذ كان ولا يزال الشغل الشاغل لهم احتلال واستثمار المنطقة العربية والإسلامية.
أما في القارة الأمريكية فقد تحققت بشكل تلقائي عملية اندماج اليهود وبخاصة في البرازيل فكانوا يملكون المزارع ومعاصر الزيتون الضخمة، وكان الزنوج يرسلون بأعداد كبيرة كعبيد يعملون في مزارعهم من إفريقيا وظهر مرسوم عام 1768م شهر آذار هدف إلى حرق وإتلاف كل الوثائق التي تؤكد بأن المسحيين الجدد الرأسماليين والإقطاعيين ليسوا من اليهود بل هم مسيحيون وأظهرت الوثائق الجديدة بأنهم مسيحيون لهم حقوقهم الكاملة بامتلاك العقارات والأراضي والمصانع والبنوك كغيرهم لكن في ألمانيا وإيطاليا ظل "الغيتو اليهودي" مغلقاً يلعب دوراً مرابياً متجولاً.
ولعبت الحركات التبشيرية المسيحية وبالأخص (المجلس المسيحي العالمي لفلسطين) الدور المخطط له كجزء من أذرع الحركة الصهيونية العالمية فهم في الخفاء يهود وفي العلن مسيحيون كما حصل في كنيسة البرازيل وكنائس أخرى مهمة هؤلاء بتأمين أنشطة خفية لليهودية العالمية وزيادة نفوذها ودورها في الحياة اليومية والرسمية فإذا ما نظرنا إلى عضوية 1500 شخصية عام 1942م من الأمريكيين انضموا إلى (المجلس المسيحي- الصهيوني العالمي) مع ثلث أعضاء الكونغرس الأمريكي وهؤلاء وقعوا مذكرة في تلك السنوات على أهمية دعم المنظمات العسكرية والإرهابية الصهيونية بالمال والسلاح والتغطية الإعلامية والتدريبية، إضافة إلى 500 كاهن مسيحي وقعوا عريضة وصلت إلى مقر الرئاسة الأمريكية في عهد (دالاس) لتحقيق مطالب الصهيونية في فلسطين إضافة إلى أكثر من 175 ممثل سينمائي من ممثلين قدامى وجدد في هوليود ينتمون إلى المجلس المذكور. إضافة إلى جامعات ومراكز أبحاث مثل كولومبيا يونفرسيتي وستانفورد وهارفارد واكوسفورد حيث تخرج منها ييغال آلون وحاييم لاسكوف وموشي أولنيك ويوسف الشيخ (عائلة يهودية من أوروبا الشرقية وهو مسؤول كبير في البنك الدولي...؟!).
وتخرج منها أيضاً يهوشفاط هركابي وجاد يعقوبي وريمون هرال ويوسف تشخنون من جامعة بركلي وشمعون بيريز ويوسي ساريد واورانمير من الكليات العسكرية العليا في مدارس البنتاغون الحربية.
أضف إلى النوادي والروابط والجمعيات الصهيونية التي وضعت تحت تصرفها بنوك ومؤسسات وشركات لتأدية خدمتها إلى الصهيونية منها "بناي بريث"، و"البناة الأحرار في أمريكا"، و"الروتاري الأمريكي"، الذي تنتمي إليه مادلين أولبرايت، إضافة إلى المشافي ودور نشر عالمية كبرى والمجالس الثقافية والنوادي الموسيقية والرياضية والمؤسسات الخيرية ومنشأة عليط وهي مركز دولي إسرائيلي موالي لـ(اللوبي الصهيوني الأمريكي).
عمدت الوكالة اليهودية ومجلس الطوارئ فيها إلى الاستفادة من الصحافة الأمريكية والمطبوعات الحديثة وروابط التحريض والدعاوي وبلغ عدد الصحف العبرية والموالية عام 1927م، أكثر من (535) ألف عائلة مهتمة بالصحافة والنشر والدعاية وتمتلك مؤسسات متوسطة وضخمة، ومن المجلات "كونغرس ويكلي"، ريكونستر كشنست"، و"جويش سبكتاتور"، و"بناي بريث منثلي"، وزودت الصحف ووسائل الإعلام الأميركية ببيانات ووثائق كاذبة وملفقة، وأن 10% من أعمدة الأخبار في الصحافة الأمريكية وعددها 3300 أعيدت طباعتها في الصحف الأمريكية مراراً لكسب الرأي العام الأمريكي، أما الصحيفة الوحيدة التي اتهمت بمناهضة الصهيونية فهي صحيفة "نيويورك تايمز"، الشهيرة حتى الآن!!...
يتبع