[رشيد الميموني]

[align=justify]الطريق

"إلى أين ؟". الطريق لا نهاية له يمينا وشمالا. لكنه حتما ينتهي إلى شيء ما... حاجز، قد يكون سورا أو غابة أو جرفا. وقد تكون نهايته في انحناءة أو منعرج ليبدأ طريق آخر غير هذا الذي يمتلئ نقعا وذبابا . و"المعلم" أو "خاي أحمد" كما عرف بين الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه ، لم يعد يهمه أي الطريقين ، أو على الأصح أي الاتجاهين أهون مادام ذهنه منشغلا بما سيفعله الآن وقد ودع الوظيفة وانسلخ عن "شلة الأنس" المجتمعة صباح مساء ، كل في مكتبه الخشبي المتآكلة أطرافه والمكدس بأكوام الملفات والأوراق الصالحة و الغير الصالحة . يتساءل عن أي طعم سيبقى للقهوة والسيجارة التي طالما حاول استبدالها بالطابة لكنه عاف منديلها الأحمر المتسخ دوما . لا شك أنهم سيفتقدونه هناك ويفتقدون مستملحاته وتعليقاته الجادة والساخرة الشاملة لكل المجالات ، خاصة السياسية . ربما يطالبون بإرجاعه ولو على سبيل الاستضافة . لكن ، هل هذا ممكن مع مجيء رئيس جديد شعاره الجد ولا شيء غير الجد حتى اكتسب كراهية الجميع ؟ مسكينة السكرتيرة الشقراء . شكلت استثناء في بداية الأمر ودافعت عن جديته وصرامته وحرصه الشديد على الانضباط والمواظبة واحترام الوقت واللطف في التعامل مع المواطنين والنزاهة والعمل... لكنها انساقت في الأخير إلى موقف زملائها . مسكينة ... كم تأنقت وتجملت وتفانت في العمل وفي الأخير كانت خيبة الأمل ، ولم تسلم بدورها من تأنيب خفيف على إهمالها بعض الوثائق مما اضطر أحد العجزة إلى الانتظار يومين كاملين للحصول على إحدى الشواهد . لكنه تأنيب كان له وقع الصدمة على نفسها المترعة بالآمال، فلم تتردد عن التكشير عن أنيابها والنيل منه ، بل وفاقت الآخرين في حملتها العشواء . قالت وهي تبلع إهانتها أمام أعين الشامتين – لأن كثيرين تشفوا بما حصل نكاية بها بعد انحيازها إلى صفه في البداية ، أو ربما لأمر آخر لا تدركه سوى القلوب الولهة :
- كنت أعرف عجزه . كم راودني في الخفاء ، لكني لم أصده رفقا به ...
وقاطعها "النمس" المشهور بتسويقه الأخبار لنيل الحظوة عند الرؤساء السابقين :
- أعوذ بالله... يفرغ علينا- نحن المساكين- عقده باسم النزاهة والشرف ، ويدعي كرهه للتجسس وقد ضبطته يتلصص عبر النافذة العريضة المقابلة للمؤسسة الأخرى...ويتظاهر بالاستقامة تاركا باب مكتبه مشرعا لذر الرماد في العيون ، بينما عيناه تغليان عشقا في وجه الحسناوات. ثم ، هل يظن أن سره خافيا علي، أنا النمس؟ هيهات هيهات.
تتطلع إليه الأعين في شغف ولهفة ، فيضيف خافضا صوته في خيلاء :
- يقال إنه طلق زوجته بعد أن رفعت عليه دعوى لانكشاف أمره مع ابن الخادمة ... أعوذ بالله ، الناس أسرار. دعوني من فضلكم… لا أحتمل الغيبة.
يستمع "خاي أحمد" إلى الحديث بلا مبالاة ، لكن بتشف . فهو لن ينسى حرمانه من ارتياد جميع الأقسام ليمزح كما يشاء ، موزعا نكته على الجميع قبل أن يتفضلوا عليه بقهوة وسيجارة . وعدا ذلك ، فهو يعترف مع نفسه أن للرجل شخصية لها وقع خاص على نفسه.
- لو كنت تزوجت لكان لي ابن في مثل سنه .
- العياذ بالله من تمنياتك... أفضل الموت على أن يكون ابني معقدا .
"السير" كان أكثر الموظفين حقدا على المسؤول الجديد لأنه - كما قال – جرده من لقبه الشرفي وناداه باسمه "حافيا"... قال إن انكليزية أطلقت عليه لقب "السير" حين كانت تقطن بجوارهم في حي Plaza Mozart... كان متأنقا و يعشق ربطة العنق مقلدا مقدمي الأخبار بالقنوات التلفزية الإسبانية . لكن زملاءه يؤكدون أن ترديده للمثل الشائع"ادهن السير يسير" يفند ادعاءه.
"السير" يجد نفسه فجأة معدما. لا يسعفه مرتبه الذي يذوب في الأسبوع الأول من الشهر في الحانات و المواخير و La quiniela والديون ، لكنه كان يستدرك عجزه بالاقتراض و ما يدره عليه شعاره الخالد :
"ادهن السير يسير"...
كل شيء انتهى. ويغادر "خاي أحمد" المكتب ، تاركا الشلة في حالة يرثى لها من القنوط والإحباط
لدرجة أن التساؤل بدأ يتكرر عن التقاعد النسبي أو الاستقالة أو فعل شيء...أي شيء بدل الوقوف مكتوفي الأيدي أمام "هذا المنكر".
انصرف يائسا. لكن أصداء ترددت عن تباشير في الأفق تؤكد قرب رحيل الرجل المغضوب عليه . لماذا ؟ الأقوال متضاربة ... صرامته لم يستسغها رؤساءه و طموحه اللا محدود أرعبهم... جديته استوجبت مكافأته بنقله إلى مراكز عليا... وشاية اتهمته بالاختلاس وتهريب الأموال إلى الخارج ... تحرش وشطط في استعمال السلطة... الخبر اليقين مفقود ، إنما جو الارتياح يسود معلنا عن عودة أيام الانشراح وليالي الملاح . ويطول الانتظار... متى ينصرف الرجل من تلقاء نفسه حفظا لماء الوجه ؟ لكنه يبقى ، فينفذ صبر الصابرين.
- لماذا لايقيلونه ؟
- ركائزه صلبة فيما يظهر.
- أو لأنه بريء من كل ما قيل .
- مستحيل... في هذا الزمن ؟
- أنا لا أفهم ما يراد منه. ألم نكن نشكو قبل مجيئه من اختلال النظام وتفشي الفساد ؟
- دعك من هذا ... من يجرؤ على الوقوف في وجه التيار إلا مجنون . هل هو يملك خاتم سليمان؟ ليأكل ويدع الآخرين يأكلون .
"خاي أحمد" أو "المعلم" مقتنع بأن الرجل مناسب في الزمن والمكان المناسبين . فقط ، لو تأخر تعيينه يوما واحدا ، لتم تمديد خدمته سنوات أخرى ... ما أسهل تغيير الأرقام في زمن تغفو فيه العيون عن لغة الأيادي المتصافحة. غير أن الزمن لم يكن في صالحه هذه المرة كما في السابق . لكن ما العمل والوظيفة كانت تتطلب سنا معينة ؟ كم كان الأمر هينا حينئذ ، وكم هو عسير الآن . ستون سنة بلا زيادة ولا نقصان . قضي الأمر. وعليه منذ الآن تنظيم حياته الجديدة. وهنا فقط يتذكر فجأة أنه لم يكمل نصف دينه. هل فات الأوان؟ كيف لم ينتبه إلى ذلك ومستملحاته لم تكن تخلو من حكايات الزيجات ؟ ثم ، من التي ترضى بكهل في مقتبل الشيخوخة وعلى عتبة الهرم بأسنان مهترئة وفم أبخر وسعال يصحبه خرير ومخاط لا ينقطعان ؟. حتى منظفة الأقسام التي عاشرها بين ردهات وسلالم وأيضا مراحيض المؤسسة بعلم الجميع ، لم تكن ترافقه إلا على مضض. ربما لاحتياجها له ولغيره ، أو لتمضية الوقت معه ومع سواه . ومع ذلك ، يشعر نحوها بالود. فهي التي بدأت بمناداته ب"خاي أحمد" حين لم يكن يعرف إلا ب"المعلم" ، اللقب الذي يكاد ينسى سبب إلصاقه به... ربما لأنه كان في يوم من الأيام معلما قبل أن تطاله حملة أبريل الشهيرة ، أو لاحترافه عدة مهن ضمانا للعيش . حتى الفرن جربه ، واقتحم متاهات التهريب وسبر أغوار المواخير، فكان لدى البعض صاحب " سبع صنايع" ، ولكن الرزق لم يضع إلا عندما تاقت نفسه من جديد للوظيفة. كم استعطف وترجى وقبل المناكب حتى أوصي به خيرا وزج به في عمل لم يعرف بالضبط وظيفته فيه. لكنه قر عينا على ضآلة الراتب ، وطابت نفسه برفقة شلة الأنس ." شلة الأنس ؟ تفو . بل شلة العفن" ، وإلا لماذا لم يسألوا عنه ويتفقدوا أحواله ؟ "طيب ... ينظر إلى الطريق القاحل ويتنهد. هل انتهى أمره وطواه النسيان ؟ وهل يحتمل هذا ؟ "كلا.." صاح بأعلى صوته. التفت نحوه أحد المارين الذي انشقت الأرض عنه فجأة - لماذا تحدق في هكذا ؟ ألم تر في حياتك أحدا يصرخ ، أم أن " البلوة " لم تستثن أحدا ؟ تفو عليكم جميعا ... رهط الزبل ."
الطريق خال الآن. يحس بشيء من الهدوء. عليه أن يفعل شيئا ليريهم من هو " خاي أحمد المعلم " ، وإلا اندثر ذكره من على الألسن . تنقبض نفسه لتذكره عزوبته . لكن ما عساه أن يصنع ، وماهو هذا الشيء الذي لا يخطر على بال أحد ؟... أن يقتحم المؤسسة ويعتصم بمكتبه السابق مطالبا بإدماجه من جديد في الوظيفة ؟... أن يطلب علنا من السكرتيرة الشقراء الزواج منه ، وإذا رفضت يختطفها ويغتصبها أمام الملأ بالطابق العلوي من البناية ثم يرمي نفسه وإياها ؟... أو- ياللفرحة . كيف لم يخطر ذلك بباله ؟ - لماذا لا يطال انتقامه أصل البلوى ، أولئك الذين جردوه من رسالته النبيلة ولم يتركوا له سوى لقب " المعلم" ؟ يتمنى في قرارة نفسه لو أنه لم يكتف - حين عزل من منصبه كمعلم- بالاحتجاج والسب ...إذن جاء الفرج ووضحت الأمور، وما عليه الآن سوى وضع الخطة ليكون انتقامه رهيبا . ليسمها خطة الطريق أو- لم لا- خارطة الطريق مادام الآخرون يحددون طرق العيش للآخرين ، ومادام هذا الطريق الممتد أمامه في صمت الشاهد الوحيد على زفراته ونحيبه.
وفي انتظار تنفيذ الخطة أو الخارطة ، يقضي "خاي أحمد المعلم " معظم نهاره وجزءا من ليله في عبور الطريق طولا وعرضا غير عابئ بأزيز السيارات المارقة في سرعة جنونية ، ولا بأنين فراملها وهي تتحاشاه قيد أنملة. [/align]

[زين العابدين إبراهيم]

شكرا لك أستاذ رشيد على هذا النص الجميل والممتع ...... هي فعلا طريق الحياة التي لا تعرف التوقف ....
شكرا لك أيها الأديب الطيب اشتقنا لك كثيرا.....

[رشيد الميموني]

اقتباس  عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زين العابدين إبراهيم شكرا لك أستاذ رشيد على هذا النص الجميل والممتع ...... هي فعلا طريق الحياة التي لا تعرف التوقف .... شكرا لك أيها الأديب الطيب اشتقنا لك كثيرا.....

هو ما قلته بالضبط أخي الكريم زين العابدين ..
لكل طريقه الذي اختاره أو خطه له القدر ..
ممتن لمرورك وتجاوبك .
محبتي لك .

[خولة السعيد]

طريق السير..
طريق الذكريات
طريق الحياة...
كل ذلك جعلت كلماتك تمشي على طريقه بمهل وترسم لنا طريقا من الخيال ... فنتخيل أحداثا لم تذكرها أو أومأت لها ونتخيل نهايات لخاي احمد المعلم..
ممتع حكيك

[رشيد الميموني]

اقتباس  عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خولة السعيد طريق السير.. طريق الذكريات طريق الحياة... كل ذلك جعلت كلماتك تمشي على طريقه بمهل وترسم لن طريقا من الخيال ... فنتخيل أحداثا لم تذكرها أو أومأت لها ونتخيل نهايات لخاي احمد المعلم.. ممتع حكيك

ومتعة العودة الى هذا النص تفوق أية متعة ..
سعيد جدا بما تناله نصوصي منك من اهتمام خولة ..
كلمات الشكر غير كافية في حقك ..
أهديك محبتي بلا حدود

[غالب احمد الغول]

وهل المحبة كلها لخولة , يا أخي خصص لنا نصف كيلو من محبتك ( ابتسامة )
أشكرك على سرد هذه القصة الذي يتمازج فيها الخيال بالواقعية دمت لنا قاصاً مبدعاً , وحياك الله , وكل محبتي إليك أخي

[رشيد الميموني]

اقتباس  عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ] المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غالب احمد الغول وهل المحبة كلها لخولة , يا أخي خصص لنا نصف كيلو من محبتك ( ابتسامة ) أشكرك على سرد هذه القصة الذي يتمازج فيها الخيال بالواقعية دمت لنا قاصاً مبدعاً , وحياك الله , وكل محبتي إليك أخي

العزيز الغالي غالب ..
لو أنك تراجع ردودي على الأحبة كلهم بدون استثناء ستجد أنني استعمل كلمة محبتي ومودتي وودي وورودي بالتناوب .. ولهذا لا أستثنيك ولا استثني أحدا من محبتي .. ابتسامة)
شكرا على مرورك الذي أبهجني .
تحية ومحبة متبادلتان .

[غالب احمد الغول]

لا أستغني عن محبتكم أخي , فأنت في القلب , ومحبتكم لي في القلب بلا حد ولا حدود ,