التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,863
عدد  مرات الظهور : 162,375,162

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > قال الراوي > الـقصـة القصيرة وق.ق.ج.
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 22 / 08 / 2008, 36 : 02 AM   رقم المشاركة : [1]
نورالدين حسن
كاتب نور أدبي
 




نورالدين حسن is on a distinguished road

عتد حدود القفار

كان يسمع عبر النافذة صوت الريح تهدر غاضبة ... كأنها تنادي فارغة الصبر .. تبحث عن منفذ يرميها خارج البلدة ... وكانت في هياجها تصطدم بالبيوت و الأشجار ورايات المدارس ... ووجوه العابرين للساتر الترابي الأصفر الأبدي وجوده .. غير المبرر لدي .. كان كل ما حولها يعيق تحركها ... فتبدي حركة ملولة من ذيولها لتقذف الغبار عاليا ً كرايات ٍ داكنة تلوح بها لي .. عبر النافذة .. منتزعة إياي من شوارع وبحار ... وحانات ... وفقراء ... وأرواح مهومة ...وروائح ورد ونفايات متعفنة ... وجثث لأموات ٍ منذ قرون .... باختصار .. حدقت الريح في وجهي بعينين غباريتين ... وانتزعتني من كتاب ٍ لمجموعة من كتــّاب أمريكا اللاتينية ... وينبغي أن أقول لمجموعة من المشعوذين السحرة ... الذين يتقنون ترويض الريح وتحويل رائحة الروث إلى عطر ... والتقاط الهمسات من أعالي الغيم المسحوب على صفحات السماء ... ونثره على جدران البيوت ... وطاولات المقاهي .
هذا هو عرس الخريف .. حضوره العاصف .. أشهده للمرة الأولى في هذه المنطقة ... المحروقة أبدا ً بلهيب الشمس .
كنت وحدي هذا الصباح ... وكانت الغرفة ما تزال مدفأة بحرارة أجسادنا نحن الثلاثة وأرواحنا التي حلـّقَت ْ في فضائها الضيق ونحن نتلو الشعر طوال الليل ... وكان ثالثنا الساكن الجديد والأخير في غرفتنا ... أكثرنا تألقا ً أكثرنا مرحا ً ، وقد نسينا فورا ً أنه يدرس التربية الدينية في ثانوية من ثانويات البلدة ... وأن مَن يحمل هذا الاختصاص يقف في الصف المعارض لما يسمى هذرا ً ومضيعة للوقت .. يعارض الشعر والموسيقى و الرسم الذي هو سمتنا نحن الاثنين الآخرَيْن ... وكنا نتوجس صراعا ً سيكون له طعم حساء العدس المجروش ينقصه بعض الملح و نكهة الليمون .
كنت قد خرجت لتوي .. وكان عليّ الوصول في الوقت المحدد إلى موقف الباص - باص المدرسين - بدأت السماء تتلبد .. وراحت تتلطخ بغيم ٍ أسود .. توارت الشمس خلف سحابة داكنة من الغبار العالي ..ويُسمع في كل الأنحاء حفيف الأشجار.. و احتكاك الهواء بالحاجز الحديدي الضخم الذي يفصل الرصيف عن الحديقة العامة ... أكياس وأوراق .. وفتات قماش كان يتدحرج مسرعا ً كأنما يسابقني إلى البعيد حيث تتوزع عربات باعة الخضار ... وقوافل الدراجات النارية التي ينتظر أصحابها مغفلا ً مثلي يوصلونه إلى جهة ما بضعفِ السعر . الجو برمته كان يوحي بأن الطبيعة تتواطأ .. كأن تآمرا ً يحاك ... وتكتشف فجأة ً أنك تلبس لباسا ً خفيفا ً ... لا وقت للعودة ... فالمطر قد بدأ بالهطول ... وعليك تلقـّيهِ راضيا ً .. كان مطرا ً موحلا ً ... لزجا ً ... وابلا ً... و لا مجال لاتقائه.

.
البلدة صغيرة وعارية، دروبها مقفرة، لا تسكنها الشرفات و لا مظلات الدكاكين، والشارع عريض ... طويل كنهر ٍ أسود ، ممتد إلى آخرها ، يتفرع منه نهيراتُ شوارع ٍ على ضفتيها تنتصب مكعبات بيوت ٍ أغلبها طينية، وإلى مسافة ليست بعيدة تجف هذه النهيرات الشارعية لتضيع في صفحة لا جهات لها من قفر ٍ أصفر منبسط يشوبه ندباتٌ من صخور حزينة على حوافها ذكرى لأعشاب يابسة .
لا شيء سوى المطر ... مطر ٌ جاف ّ ٌ ... قاس ٍ .. يكنس بساط الشمس عن وجه الأرض .. ينزع عني قميصي الواهي ، ليلفني بدثار ٍ من حبيباته المتعطشة للحرارة .. تلتهم شيئا ً فشيئا ً دفء جسدي الذي راح ينتفض بوتيرة متقطعة ... كنت أرغب في الركض .. لكن إلى أين ...! كل ما حولي هارب ٌ منذ زمن بعيد ... لا شيء يمكنه حمايتي ... لا شيء قادر على منحي حتى نظرة مشفقة ... كل شيء كان يعمق غربتي .. أدركت بما يشبه الاكتشاف أن لا أصدقاء لي هنا .. لا بيوت أعرفها ... يا إلهي .... ما هذه القفار .
" أين أنا ..؟؟ " صحت في داخلي ... تردد صداها طويلا ً و أنا أدلف في الباص_ باص المدرسين _ لم أنتبه إلى أنني هويت في داخلي أكثر مني صعدت .
رحت أرتـّب ما تبعثر في قلبي بفعل الريح و المطر ... كنت مستباحا ً منذ وصولي إلى هذه البلدة البائسة قبل سنة .. لم أكن قد انتبهت إلى ذلك .. حتى جاء مطرها و غبارها اللزج ، ليعرياني أمام الجميع ، ليقلباني على قفاي أمام السماء ... و البيوت .. و الأشجار .. و الشوارع النهرية .. الميتة عند حواف القفار ... دون أن يتسنى لي حتى النظر إلى نفسي .. كذبيحة العيد تطرف بعينها صوب الجزار لتلقي النظرة الأخيرة عليه و على حياتها .
" أوه ه ه ..." أسمع نبض قلبي في رأسي .. يطرق كساعة مدينتي البعيدة .. و مدفأة راحت تدنو مني لتخدرني بحرارتها .. دون أن أتلذذ بدفئها .. وراح لعاب ٌ مستحلب ٌ يملأ فمي .. بصقت فلم يخرج سوى بخار ٌ ملأ عيني ّ كسحابة ... وصعب علي ابتلاعه ، فقد كان في حلقي أشجار ٌ يابسة ، و قنافذ غاضبة .. كنت أحس بالعجز عن ترتيب فوضى قلبي .. و راحت النبضات تدق عاليا ً في رأسي عاليا ً جدا ً ، صَمـّت أذني معلنة ً أنها الثانية عشر بينما كنت أهوي عميقا ً في داخلي .
- الحمد لله على السلامة ...!
- ..................................
- كنت َ تهذي كثيرا ً ..! صوت ٌ آخر
- ................................
- حرارتك جيدة .. تعافيت َ و الحمد لله ... !! الأول وهو يلمس جبيني
- كيف حاله ؟؟؟ ..... صوت ثالث ٌ عند باب الغرفة كان علي أن أرفع رأسي لأتبين ملامحه .. لكني كنت ضعيفا ً للغاية .
- أحسن من السابق ... الصوت الثاني وهو يصب في كأس ٍ ما سائلا ً ما .
كان يلح علي خاطر ٌ واحد وهو أنني كنت مستباحا ً كذبيحة ِ العيد، لا أحد يشفق عليها و لا يترحم عليها أحد .. و كنت في عباءتي المطرية ، أركض في كل الاتجاهات .. بحثا ً عن مكمن يؤويني .. عن وجوه ٍ أعرفها فأضمها إلى صدري لتدفئني .
كانت الصور تستعيد وضوحها ... فأسترجع دقات قلبي في رأسي ، لكنها الآن بفعل ساحر ٍ طبي على الأغلب كانت دقاته مكتومة بلا صدى كأنها آتية من ساعة مدينتي البعيدة ... البعيدة .
فـرّت دمعة من عيني ، هرولت على صدغي بينما كان الصوت الأول يؤكد لي مهدئا ً بأنني بين أصدقائي
قلت بصوت ٍ ضعيف :

" استباحتني الأرصفة " .



نورالدين حسن

الخميس 20/10/2005
الحسكة – الشدادة



شرح المفردات :
لا تدع طيور روحك َ
تفر ّ
فقد تستبيحها الأرصفة
وتغريها
القفار ...
لا تنظر خلفك
كي لا يشدك حنين
و لا تجلس منتظرا ً
عودة الريح
فأنت في الحالتين
ماض ٍ
مستباح .

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
نورالدين حسن غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جحود سيد يوسف مرسي الشعر العمودي 7 05 / 02 / 2020 04 : 10 PM
جحود ليلى مرجان القصة القصيرة جداً 9 26 / 09 / 2014 48 : 11 PM
تزغرد القفار(((((((((((((معلم في الباديه زياد الشرادقه اعرض نصك للتصحيح اللغوي والإملائي 0 13 / 04 / 2013 06 : 07 PM
تزغرد القفار زياد الشرادقه شعر التفعيلة 2 12 / 04 / 2013 22 : 06 PM
جحود فؤاد حميدان قصيدة النثر 1 25 / 06 / 2008 50 : 12 AM


الساعة الآن 03 : 01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|