التسجيل قائمة الأعضاء اجعل كافة الأقسام مقروءة



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,830
عدد  مرات الظهور : 162,252,489

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > تحرير فلسطين قضيتنا > فلسطين تاريخ عريق ونضال شعب > موسوعة.كتّاب.وأدباء.فلسطين.... > الأقسام > غسان كنفاني
غسان كنفاني نفحات من كتابات الشهيد الأديب غسان كنفاني

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 19 / 02 / 2010, 41 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
ميساء البشيتي
شاعر نور أدبي

 الصورة الرمزية ميساء البشيتي
 





ميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: القدس الشريف / فلسطين

ما كتب عن غسان كنفاني


ذكريات عن غسان
هذه الأيام، كم نفتقدك يا غسان...
ونحن في حلبة الصراع مع قوى الغباء والتسلط، التخلف والجريمة...
من لم يعرف غسان كنفاني، في الستينيات، لكأنه لم يعرفه أبدا..
تلك الأيام، لم يكن المجال رحيبا أمامه. وكان فتيا، وناحلا، ومشفا، تملأه الأحلام والرؤى، يحاول جاهدا أن يقفز فوق المراحل، في سباق محرور مع الزمن.
في العام 1962، أقامت مجلة <<المعارف>> مسابقة للقصة، شارك فيها كتاب شباب من عدة أقطار عربية، وبلغ عدد المشاركين مئتين وخمسين قاصا. وقد كان لغسان عصا السبق فيها، ففاز بالجائزة الأولى. ونلت الثانية وحجبت الثالثة.
مع بداية العام 63 صدر له السرير رقم 12، ولي 13 قصة.
ورغم وثيق الوشائج التي كانت تربطني به، فقد تناول مجموعتي بمقال في الحرية، عدد 8 تموز 1963، تحت عنوان <<خالف تعرف أو تعرف>>. وقد تميز ذلك المقال بشيء كثير من الحدة وعدم المداراة. ولقد استطاع، في ما كتبه يومها، أن يضع يده، على مفاصل الوجع. ولم يترك شاردة أو واردة، إلا أحاط بها بثاقب رؤيته النقدية.
وأذكر يومها، أنني رددت عليه في <<المحرر>> الأسبوعية، بمقال طويل أيضا تحت عنوان: <<الصدق هو الالتزام الوحيد>>.
بعد أكثر من خمسة عشر عاما، عدت الى تينك المقالتين، فاكتشفت أن الحق كان مع غسان. هكذا بكل بساطة.. بهذا الاعتراف المتأخر، أردت أن أقول كلمتي بغسان كنفاني الناقد...
في تلك المرحلة، جمعتنا <<المحرر>> الأسبوعية، <<شلة>> غنية وطريفة. كان كل منا يكتب في أكثر من مكان، الأسبوع العربي، والحرية، وشهرزاد، و... ولكننا جميعا، كنا <<نلتم>> في المحرر، وكانت قد صدرت حديثا. وكل مكاتبها غرفتان، صالة وغرفة صاحبها.
أظن أن عددنا بلغ اثني عشر كاتبا، أذكر منهم: غسان، رفيق خوري، علي الجندي، نور سلمان، ليلى عسيران، لور غريب، ليلى بعلبكي، إبراهيم سلامة، رياض الريس، وأنا. وقد كثر النذر حول اجتماعنا، لو أخذناه بجدية أكثر، لكان منه مدرسة أدبية نادرة. وكل ما عملناه، أننا، وبعضنا كان يطلق على <<الشلة>> لقب جماعة <<النقاد الكلبيين>>، على طريقة المدرسة اليونانية المعروفة.
كنا نجتمع بما يشبه الصدفة، لنتفرق دون ناظم أو تنظيم، حين يجتمع أكثر من اثنين، في تلك الصالة العجيبة (البناية المركزية) كانت ضجتنا تصل الى الشارع. ولطالما ضايقنا دار الطليعة، والدكتور مجذوب في الجوار.
ومن خلال تلك الجلسات، كانت تمتلئ <<المحرر>> بالمقالات النقدية، التي تميزت بالحدة، والجدية، وشيء من العمق ليس بقليل. ولو طالت الرحلة، لكانت تلك الجريدة الأسبوعية قد استقطبت اهتمام الأوساط الأدبية، لا في لبنان وحسب، بل وفي الوطن العربي.
وفجأة أخذ غسان يزداد توهجا، يفرد جناحيه، وسع القضية الفلسطينية، لكأنه كان يحس بأن الزمن لن يعطيه الفرصة التي يريد ليقول كل ما عنده. والغريب أنه كان يحسب أن المرض هو الذي سيختطفه، ولم يكن يخطر له ببال، إلا لماما، إن رحلته ستكون على الشكل الذي تمت فيه.
أخذ يصدر في كل سنة كتابا أو أكثر. أذكر أننا، قبيل غيابه بعام ونيف، عددنا كتبه فكانت اثني عشر كتابا. وذلك خلال تسع سنوات، أو أقل بقليل.
هو أول من نشر وكتب في <<الحرية>>، ثم في كتاب مستقل، عن شعراء الأرض المحتلة.
وهو أول من عرفنا على محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وسواهم.
وكان أول، من أمعن في الرحلة، في أعماق <<الأدبيات الصهيونية>>، وعاد إلينا بكتابه الفذ عن أدب الصهاينة، أو الأدب في خدمة الصهيونية.
كان ما يترك لنا فرصة لنلتقط أنفاسنا، ونحن نتابعه في مسيرة نتاجه الثر. إذ كان على الواحد منا أن يكتب عن كل كتاب يصدر له. وكانت تتابع كتبه، أرض البرتقال الحزين، مسرحية الباب، رجال في الشمس، و... حتى لم يكن في مقدرونا أن نعرف أيها صدر قبل الآخر.
في مجال الصحافة، أيضا كان يصعب عليك أن تحصر نشاطاته المتعددة.
أذكر، في إحدى الليالي، أنه هتف لي في <<الديار>> اليومية، العام 1964، قائلاً: اترك كل شيء وتعال. كانت <<المحرر>> قد تحولت الى يومية، يترأس تحرير ملحقها الفلسطيني، ويمارس عمليا، نوعا من رئاسة التحرير فيها. وقد نقلت مكاتبها الى اللعازارية، الطابق السادس، كما أذكر.
جئت إليه، كانت يده تتحرك على الأوراق البيضاء، فتتطاير من تحتها، وقد امتلأت بالأفكار، والصور، والكلمات الساخنة.
<<خذ طاولة، واكتب خاطرة أدبية، بلا طق حنك>>.
وأسرعت أنفذ ما طلب. وبدقائق، ناولته إياها. وضحك.. كن من المعروف عنه، أنه أسرعنا كتابة. وقد أعجبه أنني حاولت مجاراته في سرعته.
قلت: <<يا أخي حيّرتنا. أنت في الحرية، في المحرر، ملحق فلسطين، الصياد، الأنوار، و... ربك ما بيعرف وين كمان>>.
شد على يدي ضاحكا، مشيرا بضرورة الانصراف، كي لا أعطله. وكان ثمة حزن شفيف يطوف في نسمة عينيه، لكأنه يعتذر عن تقصيره!!...
مضت على غيابه ست سنوات، وفي كل عام، حين تحين المناسبة، أجدني، حيث كنت، أكتب عنه، ودائما من الذاكرة، وأشياء شخصية. وأحيانا أكثر من كلمة أو مقال. وكلما أمسكت القلم، في ذكراه، أجد أنه ما يزال لديّ الكثير الكثير لأكتبه عنه. هكذا يكون الفنان الحق، معينا لا ينضب للناهلين في حياضه...
وإن غساناً ليشكل نوعاً من الرد الدامغ، على القائلين بعدم إمكانية تعدد المواهب، وتعدد مجالات العطاء.
في النقد، كان المؤلفون <<يعدون للعشرة>> قبل أن يصدر لواحدهم كتاب.. لأنهم يعرفون أنه سيقع بين يديه.
أما في الصحافة، فكان يكتب في السياسة، في الأدب، في الفن. فإن غاب أي محرر في الجريدة أو المجلة التي يعمل فيها. سارع الى ملء فراغه برغم كثرة مهامه، حتى ولو كان ذلك المحرر مسؤولا عن الرياضة، أو المجتمع، أو ركن التسلية والحظ.
الغريب، أنه الى جانب كل ما أسلفت، كان يجد لديه الوقت، يقرأ، يترجم، يرسم، يكتب الرواية والقصة الطويلة والقصيرة والمسرحية والشعر أحيانا.
ويسألونك، كيف تستطيع أن تكتب عن غسان في كل ذكرى تمر، وأنك دائما تجد ما تكتبه عنه.
حتى في مجال تنسيق الكتب والمكتبات، كان له مزاجه الخاص، فنه الخاص.
أذكر أننا ذهبنا نزوره <<زيارة غلاظة>> في بيته الجديد، فوق صيدلية المدينة في الحمراء. وكان قد تزوج من آني. فوجدناه قد أحضر عدة ألواح خشبية بسيطة، لا تكلف غاليا، وجعل منها مكتبة، مع أحجار القرميد الأحمر.
<<ديكور>> بسيط وجميل ولا يكلف ماديا، ولم تمض سنة، إلا وكانت شقق وبيوت الأدباء تمتلئ بذلك النوع من المكتبات.
كان يحب جلسة المقهى، حد العشق. مقهى الجلسة والحديث الأدبي والسياسي والنكتة اللاذعة. <<الأنكل سام>>، <<فيصل>>. وخاصة <<الدولتشي فيتا>>. ولكنه في أواسط الستينيات، أخذ يقلل من ارتياده لتلك الأماكن، إما بسبب انها تحولت الى نوع من التكايا الأدبية السياسية، وهو ما لم يكن يرضاه، وإما لأن مشاغله الكثيرة أخذت تصرفه عنها، خاصة بعد أن أصدر <<الهدف>>، وكثرت مسؤولياته السياسية والتنظيمية. ولكنه لم يأل جهدا، بين حين وآخر، في أن يمر علينا، ويتفقد جلساتنا، ليطمئن على <<الندامى>> ثم يغيب.
في السنوات الأخيرة، صارت لقاءاتنا به شبه نادرة. فوجئت به مرة، في العام 72، يجلس في غرفة مغلقة في <<الدستور>> يأتي ليحرر بعض المواضيع، بتواقيع عدة، ويمضي. فتحت عليه الباب برغم <<التنبيهات المشددة>> بعدم الاقتراب من تلك الغرفة وقلت ضاحكا: <<وصلت مواصيلك الى هنا>>..
وكانت بضع لحظات. اختصرنا فيها سنوات، نكاتا، وتعليقات، وتركته مستغرقا في عمله.
كانت تواقيع غسان المتعددة، وما تزال، مشكلة المشاكل. باعتقادي أن الكثير من نتاجه، لم يجمع بعد، هو شبه ضائع في <<غابة التوقيعات>> تلك، التي كان من أبرزها فارس فارس. وكان مرغما على ذلك، لضرورات أمنية أو صحافية أحيانا وأحيانا كثيرة، لأنه لا يجوز أن تصدر له في اليوم الواحد، عدة مقالات وتعليقات، في أكثر من مكان، وبتوقيع واحد.
هل أبالغ، هل يجنح بي الخيال وأنا أحكي عن الغالي غسان...
على العكس، كلما كتبت عنه أكثر، أحسست أنني مقصر أكثر. فهو عالم، عوالم متعددة الإمكانات، حافلة بالغنى، والقدرة الهائلة على العطاء، جمعت في واحد.
ولكنه غاب وهو في السادسة والثلاثين (عمر غياب اللورد بايرون، الذي كان يعتقد أن الفنان يجب أن يغيب فيه، وأن أية أمجاد بعد هذه السن، لا معنى لها، لأنه ريعان الشباب).
هل نستطيع أن نتصور، كم كان سيعطي، لو استمرت رحلته الى الخمسين أو الستين، وأية آفاق كان سيبلغ، وأية مجاهل كان سيفض أختامها؟!!
لقد اجتمع عليه داءان مزعجان، السكري والنقرس، و<<بضعة>> أدواء أخرى <<لا تستحق الذكر>>.. وكان عليه أن يأخذ نوعا من الإبر لا أفهم في الكيمياء فإنه لم يجد من يعطيه إياها، حين تزور العلة، كان مرغما أن يعطيها لنفسه، بكل ما في ذلك من مشقة وألم.
هكذا، كان المرض، سيف ديموقليطس المصلت على مسيرة نضاله الأدبي والسياسي، ولكنه، لا هو ولا الآخرون، كان يعتقد، ان الضربة ستأتيه عن طريق تلك الشحنة اللعينة، على مشارف الحازمية.
إن يغب غسان، فإن نتاجه باق، بقاء القضية التي ناضل من أجلها، وقدم حياته قربانا سخيا على مذبحها.
إنه باق بيننا أبدا، بضحكته الصافية، المطلة علينا خللا أو شالا مغيبا دامع العينين، بحجم صداقته وإخائه، بعظمة الإنسان وطفولة الفنان فيه.
سيظل غسان، القصة، تحشرج في أعماق كل من عرفه، وكلما اصطدم رفاقه في الكلمة، بحاجز جديد، بسلطة غبية غاشمة، كان هو العزاء، وكان هو النبراس والمثل والنموذج. في وقفاته، وفي صراعاته، وفي قدرته العجيبة على مقارعة قوى التسلط والغباء والشر...
وفي هذه الأيام بالذات، كم نفتقدك يا غسان، كم كنا بحاجة إليك، والنخاسون.. المجوس، يجوسون داخل أبهاء الهيكل، محاولين تمزيق عذريته، وتشويه حرمته.
ولكن لا بأس، فإن خليتنا وارتحلت، فإنه ما يزال فينا بقية من قدرة على الصراع، وسنطرد المجوس، وستنتصر دائما، الكلمة الصدق، الصراح، والتي هي كحد السيف، رقة، وعذوبة، والتماعا، واستقامة، وقدرة على إسالة دم .الأعداء
عاصم الجندي

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع ميساء البشيتي
 [BIMG]http://i21.servimg.com/u/f21/14/42/89/14/oi_oay10.jpg[/BIMG]
ميساء البشيتي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 02 / 2010, 45 : 11 PM   رقم المشاركة : [2]
ميساء البشيتي
شاعر نور أدبي

 الصورة الرمزية ميساء البشيتي
 





ميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: القدس الشريف / فلسطين

رد: ما كتب عن غسان كنفاني


رسالة إلى غسان كنفاني
من فوق التراب الى تحت التراب. والموت واحد وإن اختلف الموقع. والمدفن واحد وإن اتسع ما فوق التراب ليشمل العالم كله حيث انتشر الفلسطينيون وضاق ما تحت التراب فانغلق على جثمان وحيد.
فشل القتلة وإن نجحوا في تغييبك. ونجحوا في تغييب غيرك وإن فشلوا في قتلهم. ولو كان القتلة يعلمون أنهم بقتلك يطلقونك من عالم مجنون ومتخاذل ومستسلم باع شرفه وأرضه وحقه ومبادئه بثمن زهيد أو حتى بدون ثمن، لكانوا ترددوا قبل وضع الأصابع المتفجرة في سيارتك في صباح ذلك السبت المشؤوم قبل عشرين سنة. إن انفجار الفولسفاكن حررك من هذا العالم وأبعدك عن المأساة التي نعيش وأخفى عن عينيك عيوب الحاضر وجرائمه وانهزاماته. فأغمضت عينيك على صورة جميلة من صور النضال والإيمان والثورة والقيم. وفي عشرين سنة خبت هذه الصور، وبهتت، وأخذت مكانها صور قاتمة وتعيسة.
كم توهمت، بعد استشهادك بعشرة أيام، أن وحشية العدو التي نالت منك لم تنل مني تماما، فبقيت أتنفس وأتحرك وأرمش، وإن خف السمع والبصر الى ما يقارب الزوال. ولكني، بعد عشرين سنة من اقتراف هاتين الجريمتين، أغبطك وأغبط مصيرك ولا أغبط مصيري.
ماذا كنت ستسمع يا غسان، وماذا كنت ستشاهد، لو كنت تشاركنا الجلسات هذه الأيام؟
كنت ستسمع أن الصهيونية ليست حركة عنصرية استيطانية معادية، بل هي حركة سياسية تقف في وجه حركة سياسية مقابلة، كلاهما من طينة واحدة: تدافع الأولى عن <<حقوق>> جماعة (اليهود) وتدافع الأخرى عن حقوق جماعة ثانية (العرب)، تماما مثلما نص وعد بلفور قبل استشهادك بخمس وخمسين سنة: إن وطنا قوميا لليهود يقام في فلسطين بشرط ألا يمس بمصالح <<الجوالي>> المقيمة في ذلك البلد؛ وكما كان <<السير>> مارك سايكس، أحد بطلي الاتفاقية المشؤومة، يزعم أن الصهيونية والقومية العربية صفحتان لورقة واحدة.
وكنت ستسمع أن <<إسرائيل>> بلد مثل سائر البلدان، له حقوقه وأمنه وحدوده ووجوده ومصالحه. وما علينا إلا أن نعترف له بذلك حتى يكف عن التعدي علينا. ف<<إسرائيل>> أصبحت <<جاراً>> ولم تعد عدواً. وللجار حقوق. وما الجدار الذي يفصل بيننا إلا جدار وهم وخيال نصبه التعصب والجهل في قرن من الزمان.
وكنت ستسمع أن فلسطين ليست فلسطين؛ أن نصفها اسمه إسرائيل، ونصفها الآخر اسمه الضفة الغربية وقطاع غزة.
وكنت ستسمع أن القضية الفلسطينية هي قضية ما سقط عام 1967 من أرض فلسطين، وأن استعطاء حكم ذاتي يجعلنا أحرارا في شؤون الصحة وجمع القمامة وفتح الدكاكين وتعليق اليافطات ويغنينا عن المطالبة بتحرير محبوبتك عكا والعودة الى محبوبتي طبريا. بل ان قضية فلسطين امّحت وذابت في ما أصبح يسمى <<قضية السلام في الشرق الأوسط>>.
وكنت ستسمع أن التفاهم بالحسنى، أو الاتفاق بالتراضي، هو شرف <<الثورة حتى النصر>>؛ وأن شرف الجلوس مع مندوبي العدو في هذا البلد الأوروبي أو الأميركي أو الآسيوي أو ذاك، في ظل الرعاية الأميركية <<الصديقة>>، هو النصر بحد ذاته. فقد فاتك أن أميركا لم تعد دولة استعمارية أو إمبريالية وعدوة للشعوب، بل أصبحت صديقا عزيزا حاميا لحقوقنا وجنديا مخلصا لاستعادة حقوقنا. لم يعد هنري كيسنجر <<عزيزا>> وحده، بل أصبح الطاقم السياسي الحاكم في أميركا كله عزيزا على قلوبنا.
لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد أصدقاء يسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية
لو كنت لا تزال حياً يا غسان لكنت تشاهد وتسمع أصدقاء مشتركين لك ولي (وبعضهم أصابته قنابل العدو مثلما أصابتك وأصابتني) يقولون هذا الكلام وأكثر، ويسيرون في جنازة الحق الفلسطيني مزهوين بالانتصارات الوهمية. لقد سقطت الأقواس حول اسم <<إسرائيل>> وأصبح الاستمرار في استعمالها غباءً وتحجراً وسماجة لا تليق بنا ونحن نجالس الإسرائيليين ونستعطفهم ونتملقهم ونغازلهم ونمنحهم بركات الشرعية. والصحيح أن الأقنعة سقطت عن وجوههم هم بمجرد إسقاطهم تلك الأقواس.
ألا توافقني، بعد هذا، أن مثواك تحت التراب أرحب وأرحم من منازلنا الفخمة وطائراتنا الخاصة وعروشنا والبسط الحمر تحت أقدامنا؟
لكنه ذنبك أنت يا غسان، أنك أتحت لهم أن يغتالوك. ركبت الفولسفاكن. ولم تكن تركب المرسيدس 500 المصفحة، تحيط بك حراسات مسلحة تفتح لك الطرقات وتغلقها عن غيرك. تماما كما كان الذنب ذنبي حسب رأي أحد كبار قادتنا العباقرة الذي صرخ مستنكراً أن أفتح المظروف المفخخ، الأمر الذي جعل القنبلة تنفجر بين يديّ. قال: <<أليس عنده سكرتيرة تقوم بفتح الرسائل عنه>>؟ وكأنه أراد أن يقول: <<لتبتر أصابع السكرتيرة، أما أصابعه فلا>>. فالموت للمساكين وليس للمسؤولين!
وهكذا تتحول المسألة من جريمة صهيونية قذرة ضد الفكر الفلسطيني الى خطأ نقترفه نحن وندفع ثمنه حياتنا أو بعض حياتنا.
لقد هددوك، وحذرك <<العارفون>> قبل أيام من الجريمة واستخففت فنالوا منك. وهددوني، وحذرني بعض <<العارفين>> قبل أيام من الجريمة فسخرت ولم أتعظ منك، ونالوا مني. وهكذا كانت الحال مع الكثيرين غيرنا، رحم الله الموتى وشفى الجرحى والمصابين وغفر للمتخاذلين وهداهم. إن وحش الموت، كما يقول المثل الدنماركي، يلتهم الأدسم بين ضحاياه. ترى، هل كانت لدينا رغبة خفية في التنافس والتدافع أمام الوحش ليختارنا نحن من بين آلاف المقاتلين بالبندقية أو بالقلم؟
لقد أراحك الموت من سؤال سخيف كان المحقق سيطرحه عليك مثلما طرحه عليّ وأنا أستلقي على سريري في المستشفى بين الموت والحياة: <<ومن تعتقد أنه وراء الجريمة؟ هل هناك خصومة بينك وبين جار أو زميل أو منافس؟>> ولو كانت لديّ قدرة على الكلام لكنت أجبت: <<نعم. هناك خصومة بيني وبين العقل والمنطق عقل هذا الزمان ومنطقه اللاعقلاني واللامنطقي>>.
يبدو أنهم هم العقلاء والمنطقيون، ونحن كنا المغفلين. المغفل فقط يرث الرضى الذاتي، وراحة الضمير، وشرف النضال. وهم يرثون كل شيء آخر رنان، من لقب الى ذهب.
أنت وأمثالك تعيشون في المخيم وتناضلون في الخندق وتشربون الماء الآسن وتقتاتون الفتات. وأما وجهاء النضال الكلامي والخطاب السياسي المهرجاني ومحترفوه فقد جنوا ثمار ذلك النضال، ألقابا فخمة تحتضن أسماءها، ومباني ضخمة تنطح بأعناقها السحب، ومواسم الترف ومهرجاناته وأعراسه التي قصّرت عنها ليالي الألف ليلة وليلة.
  
أخي العزيز غسان: لقد متّ مرة. ونموت نحن كل يوم ألف مرة.
أكاد أسمعك تسأل: أليس من أخبار غير هذه التعاسات؟
نعم.
فايز وليلى يرفعان اسم فلسطين واسم والدهما عاليا، بكفاءاتهما ونشاطاتهما ونجاحهما. وآني وفية لك في وفائها لقضية زوجها التي أصبحت قضيتها، مثابرة تنجز ما يعجز عنه العشرات. ورفاقك على إيمانهم وسلاحهم وأصالتهم. وجبهتك صامدة بالرغم من الإغراءات التي تستميل الضعاف وتشد الأقوياء. و<<الحكيم>> القائد يزداد مرضه قسوة وتزداد عزيمته قوة. وكتبك ورواياتك وقصصك تجتذب القراء المعجبين طبعة بعد أخرى. ومجلة الهدف تتحدى وتواصل الصدور. والواحات النادرة في صحارينا الواسعة لا تزال خضراء، وينابيعها لم تجف، وإن أعرض الكثيرون عنها ولم يعد ماؤها الزلال يروي لأن عطشهم هو الى نوع آخر من المشروبات.
وبكلام آخر: لم تغب الشمس بالمرة، وإن كانت العتمة تلف حياتنا. فلا بد للشمس أن تشرق ثانية. إن دماء الشهداء، الأموات منهم والأحياء، ستظل تشع نورا يضيء لأجيال قادمة. وحده هذا الأمل يمنعنا من الاستسلام/ الانتحار.
() رئيس تحرير الموسوعة الفلسطينية منذ العام 1982، ورئيس مجلس إدارتها منذ 1988. له حوالى عشرين مؤلفاً في التاريخ والسياسة. أصيب برسالة ملغومة بعد استشهاد غسان كنفاني بعشرة أيام، أثّرت في سمعه وبصره
.قبيل استشهاده
د. أنيس صايغ

توقيع ميساء البشيتي
 [BIMG]http://i21.servimg.com/u/f21/14/42/89/14/oi_oay10.jpg[/BIMG]
ميساء البشيتي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 02 / 2010, 47 : 11 PM   رقم المشاركة : [3]
ميساء البشيتي
شاعر نور أدبي

 الصورة الرمزية ميساء البشيتي
 





ميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: القدس الشريف / فلسطين

رد: ما كتب عن غسان كنفاني


عائد إلى حيفا
بين الرواية والسينما
كثيرة هي الأعمال السينمائية التي أخذت عن روايات معروفة، بل ان بعض الروايات حققت سينمائياً عبر أكثر من رؤية، وبأكثر من مكان، كما الملك لير والحرب والسلام، وأيضاً عائد إلى حيفا، وغيرها..
وعندما كتب غسان كنفاني <<عائد إلى حيفا>> عام 1969، كانت المقاومة الفلسطينية المعاصرة في ذروة تألقها، ولم تكن قد عرفت أياً من الإجهاضات والهزائم. من هنا جاءت الرواية متماهية مع المرحلة، ومدركة لأهدافها، كما هو شأن غسان في كل أعماله الإبداعية.
فالسكون، والانتظار المرهون بالشلل، الذي كان يعيشه الشعب الفلسطيني منذ أيام النكبة الأولى، وحتى لحظة كتابة <<رجال تحت الشمس>> عام 1963، دفع غسان لقرع جرس الإنذار.. لماذا لم يدقوا <<تدقوا>> جدران الخزان؟
في عام 1966 عندما بدأت الحوارات الجنينية، في أكثر من مكان، أحياناً همساً وأحياناً جهاراً، حول ضرورة انبعاث الكيان الفلسطيني، وثورة التحرير، كتب غسان <<ما تبقى لكم>> حيث كل الأشياء تدق وتنبض، فالساعة تدق، والخطوات فوق الصحراء تدق، والجنين ينبض في رحم الأم، وأيضا الصمت يدق.. وكان في ذلك رصد للحراك الجنيني المبشر بالانبعاث والولادة.
ولاحقا، في رواية أم سعد، تحققت الولادة، ولدت خيمة الفدائي بمواجهة خيمة المخيم، و<<خيمة عن خيمة تفترق>>.
المتتبع لهذه الأعمال سوف يكتشف ذلك التلازم بين الإبداع والواقع.. بين الإبداع والقضية التي نذر ذلك الإبداع من أجلها.
وسوف يكتشف ذلك التوازن المدهش بين البنية الفنية المتجددة دائماً وبين أهداف تلك الأعمال المحملة بالرمز الذي يحيل الى العديد من القراءات، والذي وفر لها الديمومة فلم تعد رهينة بزمان محدد، وغسان المبدع كان على وعي كبير بما يريد.
والسؤال، هل كان لغسان أن يكتب رجال تحت الشمس في زمن أم سعد، وهل كان سيكتب عائد الى حيفا زمن رجال تحت الشمس؟ والإجابة القاطعة، لا.. لأن غساناً كان يكتب عبر واقعية صارمة، لا تصادر استشرافاً لواقع لاحق مغاير.
كتب غسان <<عائد الى حيفا>> عام 1969 عندما أصبحت الثورة الفلسطينية حقيقة ملموسة على الأرض، وأصبح هاجسه تحديد هوية تلك الثورة من جهة، والتحريض للذهاب بها حتى مداها من جهة أخرى. كل ذلك عبر حدث مفترض: سعيد. س وزوجته صفية يجبران على ترك ابنهما الرضيع <<خلدون>> في سريره بمنزلهما في حيفا عام 1948، ويفشلان في استعادته عبر كل الوسائل بعد أن قذف بهما اللجوء بعيدا عن الوطن.
هاجس محاولة استرداد الطفل ولاحقا الابن ظل هاجسا يسكن قلب وعقل الأبوين عبر إفصاح أحيانا، وسكوت متواطأ عليه أحيانا أخرى.. وعندما أصبح ذلك ممكنا بعد فتح بوابة اندلبوم عام 1967، تطلب صفية من زوجها سعيد أن يصطحبها معه إذا قرر الذهاب الى <<هناك>> وهكذا كان.
يلتقي الأبوان بابنهما الذي لم يعد <<خلدونا>> بل حمل اسما آخر <<دوف>> بل وأصبح ضابطا في الجيش الإسرائيلي. وهنا يدور بينه وبين من يفترض أنه أبوه حوار طويل يطرح كل منهما حججه، فالأب يحاول إقناع خلدون أو دوف بأنه ابنهما، وهو إنما قدم مع أمه لاسترداده لكنفهما، فيما يصر دوف على أن ليس له من أم أو أب غير تلك السيدة اليهودية البولونية التي ربته.. ويسأل أين كنتما كل تلك المدة.. وتدور تساؤلات حول الانتماء والوطن تعصف بالعديد من القناعات الماضية لتؤكد أن الإنسان قضية، و<<أن الوطن ليس هو الماضي فقط، وليس مجرد تفتيش تحت غبار الذاكرة، فلسطين أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد>>.
وهكذا وأمام هزيمة سعيد. س بمواجهة دوف وبمواجهة القناعات الجديدة، لم يجد ما يدافع به عن نفسه سوى أن يضع دوف في ما ظنه مأزقا، حيث ادعى أن لديه ابنا آخر اسمه خالد وهو الآن مع الفدائيين فيما كان دائما يمنعه من الانضمام إليهم، ويسأل، إذا صدف وتجابهتما أنت وأخوك، فما هو موقفك؟ وتأتي الإجابة المريرة، إما أقتله وإما يقتلني، فلكل منا قضيته والإنسان قضية.
لم يكن أمام سعيد. س سوى الاعتراف بصدق تلك المقولة، الإنسان قضية بعيدا عن أي انتماء عرقي أو قومي أو طائفي، معلنا هزيمته في مهمته، فتسوية الأمر <<تحتاج لمعركة أخرى>>. فلا استرداد صورة فارس اللبدة ولا استعادة خلدون تعني شيئا.. وكل ذلك سيكتسب مشروعيته تلقائيا، فقط بعد استرداد الوطن.
ولعل الكاتب المبدع شاء برؤية استشرافية مبكرة التأكيد على عقم الحوار مع الآخر، الذي هو العدو الصهيوني.
ترتقي الرواية لذروة التحريض عبر إشارتها للصمت الذي لف سعيد. س وزوجته طيلة طريق العودة <<فقد ظل صامتا طوال الطريق، ولم يتلفظ بأي كلمة إلا حين وصل الى مشارف رام الله، عندها فقط نظر الى زوجته وقال: <<أرجو أن يكون خالد قد ذهب.. أثناء غيابنا>>.
لقد تم تناول هذه الرواية كمرجع لعملين سينمائيين، أولهما حمل نفس عنوان الرواية <<عائد الى حيفا>> مجسدا أحداث وشخوص الرواية كما وردت عند غسان، وأنجز في زمن إنجاز الرواية تقريبا، حيث الواقع لم يتبدل بين زمن الرواية وزمن الفيلم.
أما ثانيهما فقد حمل عنوانا مغايرا، المتبقي، ولكنه اتكأ على الحدث الأساسي في الرواية، الطفل المتروك في سريره وحيدا في أحد منازل حيفا، حيث تتبناه عائلة يهودية. وهنا يتدخل المخرج الإيراني مغيرا بالحدث الروائي، فيقتل الأب والأم عبر محاولاتهما الرجوع الى المنزل من أجل إنقاذ طفلهما، ويضيف للفيلم شخصية جديدة غير موجودة في الرواية وهي الجدة، التي تعمل المستحيل لإنقاذ الطفل من العائلة اليهودية، الى أن تتمكن من ذلك عبر مغامرة خطرة فهي الفلسطينية التي تحف بها الشكوك من كل جانب.
قراءتنا للفيلمين لا تهدف لتقييم فني، بل لزاوية تناول كل منهما في زمنين مختلفين: زمن الحلم والنهوض وزمن الهزيمة.
فالعمل الأول كان مطابقا تماما لأحداث الرواية، فيما جاء العمل الثاني <<المتبقي>> في زمن الهزيمة وهذا ما دفع المخرج الإيراني للتدخل في المعالجة بإملاءات من واقع ثورة مهزومة.. وأصبح الطفل <<خلدون>> وليس دوف هو <<المتبقي>> بما يحيله ذلك الى المستقبل، وأصبحت الجدة هي الراعية لمستقبل مغاير تغذيه ذاكرتها. إلا أن المخرج الإيراني أقحم دورا باعثا على الشك من موقف المسيحيين ضمن عملية الصراع، وذلك بسبب إيديولوجية سابقة دفعت به للقفز عن الواقع.
والسؤال هنا هل أساء مخرج المتبقي للرواية بتدخله بأحداثها وشخوصها ومصائرهم؟ والسؤال يستدعي سؤالاً آخر، لو أن غسان كتب عائد الى حيفا زمن هزيمة الثورة وتراجعها، أي زمن إنجاز فيلم المتبقي، هل كان كتبها بنفس الأحداث والهواجس؟ للإجابة عن ذلك لا بأس من العودة لقصة قصيرة كتبها غسان بعد هزيمة حزيران عام 1967، وهو زمن مشابه لزمن إنجاز المتبقي بعنوان: <<الطفل يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس>>.
تتناول القصة منزلاً في إحدى قرى فلسطين الشمالية له باب كبير ليس كأبواب منازل القرية، وله مفتاح لا يشبهه أي من مفاتيح أبواب منازلها، فهو مفتاح يشبه الفأس. وهكذا أصبح معروفا لأهل القرية ب<<المفتاح>>. يرحل أهل القرية الى لبنان عبر رحلة اللجوء، ويصطحب بطل القصة مفتاحه في تلك الرحلة، ويضعه في غرفة الجلوس في منزله الجديد في بيروت، واضعا مسمارا في حلقة المفتاح وآخر تحت ذراعه بحيث أصبح متوازيا مع الأرض. ويتزوج الرجل ويرزق بابن يكبر مع السنين، فيما تعتمل في صدر الأب أمنية، أن تتحقق المعجزة ويكتشف الابن أن المفتاح يشبه الفأس.
في أحد الأيام يعود التيار الكهربائي بعد انقطاع، ويصدر عن المذياع القابع تحت المفتاح صوت عال، يسقط على اثره المسمار الذي تحت ذراعه، ويبدأ بحركة تشبه حركة بندول الساعة. (فجأة قال ابني <<انظر، انظر، إنه يشبه الفأس>>).
قصة مفعمة بالرموز، وقصة تتماهى مع اللحظة، وقصة تستشرف مستقبلاً مغايراً لزمن الهزيمة، فمعظم الشهداء الذين سقطوا على أرض فلسطين اكتشفوها، كما اكتشف طفل غسان أن المفتاح يشبه الفأس.
في تلك الأيام فعلت تلك القصة فعلها، وليس في الأمر مبالغة إذا قلنا إنها أعادت الكثير من التوازن لأولئك الذين أودت بهم الهزيمة الى أعماق اليأس وأخذوا ينظرون الى المستقبل بكثير من الأمل.
أليس في المتبقي صورة مشابهة لطفل غسان الذي اكتشف بعد سنين أن المفتاح يشبه الفأس؟ ثم أليس هو ذلك الطفل المتبقي في المتبقي الذي يبشر بمستقبل مغاير؟
مع كل انتصار، وبعد كل هزيمة نقول: ما أحوجنا الى غسان؟
سعيد البرغوثي

توقيع ميساء البشيتي
 [BIMG]http://i21.servimg.com/u/f21/14/42/89/14/oi_oay10.jpg[/BIMG]
ميساء البشيتي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19 / 02 / 2010, 49 : 11 PM   رقم المشاركة : [4]
ميساء البشيتي
شاعر نور أدبي

 الصورة الرمزية ميساء البشيتي
 





ميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond reputeميساء البشيتي has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: القدس الشريف / فلسطين

رد: ما كتب عن غسان كنفاني


ثلاثية غسان كنفاني
(رجال في الشمس) و(ما تبقى لكم) و(أم سعد).. تشكل مجتمعة رواية القضية! <<رواية الأرض التي أحب.. والتي أراد أن يصلنا بحبه لها.. والتي حمل معنى الحب لها معنى الموت في سبيلها..>>.. إنها مجتمعة رواية قضية مصيرية.. كلها تحمل هم القضية.. وتحدد اتجاه السير الصحيح واتجاه السير الخطأ. ولئن كان الرجال في الشمس يبحثون عن لقمة عيش لعلها تكون طرية لهم ولأسرهم ولأولادهم بعد أن حرمتهم منها حياة التشرد في المخيمات.. ولئن مضوا يتجهون شرقا.. ويبتعدون عن عشقهم (أرض فلسطين) ويضيعون عشقهم.. ولا يظفرون إلا بالموت الذي ينتظر من يخطئ في اتجاه السير.. وأين؟ على مزبلة الصحراء.. صحراء النفط التي لا تعطي خيرها بسخاء إلا للأعداء.. لكن كان شخوص الرواية الأولى كذلك يمثلون العتمة والليل والعجز.. إلا أنه ليل غير مقيم.. بل هو آخر الليل. فتأتي الرواية الثانية لتشير الى طلائع الفجر.. والى الظروف الموضوعية التي توقظ الإرداة فيمن كان يظن أنه فقد إرادته!
تأتي رواية القضية الأخرى أو الحلقة الثانية في هذه المسيرة الروائية.. تأتي رواية (ما تبقى لكم) لترفع شعارها السياسي المتوهج.. شعار الهم الساخن والقضية السيدة.. ولتشير الى الاتجاه الصحيح في حركة السير.. لتعلن أنه لا سبيل للخروج من الدوامة.. دوامة الضياع والركود والعجز إلا بالمواجهة.. وبالمواجهة وحدها.. وهذه المواجهة العريضة تتداخل فيها مجموعة من الخيوط أو العروق أو القنوات وتنبض فيها وتتلاقى معها وتشكل شبكة متداخلة!
العروق الاجتماعية.. المتمثلة في أسرة بسيطة التكوين فقدت الأب.. ونزحت الأم.. وابتعدت الخالة.. وبقيت البنت (مريم) وأخوها (حامد).. البنت والأخ في ضياع.. في عجز.. لا يحسان بأية قيمة لوجودهما.. مقطوعان أمام هذا الموج من حركة الاحتلال التي أفقدت الناس ترابطهم.. وتواجه البنت حالة من الافتراس.. يفترسها نتن (زكريا) تحت ضغط المطلب الجسدي وإلحاحه في الخامسة والثلاثين من عمرها.. وتتجمع الظروف: المأذون.. والحمل.. والشرع.. والتقاليد.. لتحمل مريم وتنتقل بها الى المستنقع.. مستنقع زكريا النتن المفترس الذي يخون ويتعاون مع رموز الاحتلال ويشي بالفدائي ويكون سببا في قتله..
هذه الظروف التي خلقت هذا العجز في ظل الفقد تأخذ في التغير.. فينطلق (حامد) ليتخلص من قيده.. لعله يصل الى أمه النازحة.. فيقطع الصحراء من غزة الى بئر السبع في الطريق الى الأردن.
ولكن صحراء بئر السبع غير صحراء الكويت.. إنها رمال الأرض والوطن.. فحين تنشأ ظروف تدفع به الى معانقة هذه الرمال يحس بنبضها وحرارتها ولسعتها فتبعث فيه حالة عجيبة من العشق.. وينفض عن ساعده العجز.. ويخلع ثوب الخوف ويقطع القيد.. وحين يجد نفسه وجها لوجه مع جندي صهيوني.. تشتعل فيه حالة المواجهة.. وتزول من عروقه دقات التردد.. وكأنما يجد ذاته.. ويحس بوجوده لأول مرة في حياته.. فيواجه! وفي اللحظة ذاتها تبدأ (مريم) تحس بالتغيير وبدقات تطرد من عروقها الخوف والعجز والتردد.. فتنتزع السكين وتغرسها في صدر زكريا.. وتخلص نفسها من حالة الغرق في المستنقع وتنتشل ذاتها الى حالة الخلاص والإنقاذ والإحساس بالوجود! إنها عروق غير منقطعة.. بل هي متصلة بين (حامد) و(مريم).
عروق المكان والزمان:
في كل أعمال غسان القصصية والروائية.. يحتل المكان والزمان ما يحتله الحدث وما يحتله الإنسان.. فلا يشكل المكان لديه ظرفا أو وعاء منفصلا أو مجرد إطار فحسب تتحرك فيه الشخوص والوقائع.. بل هو شخصية حية نابضة تنمو وتتطور وتلتقي وتتصل وتتقاطع ولها أكبر دور.. كما قلنا في السابق.. فحين احتضن (حامد) حضن الصحراء ليتجنب ضوء (الدورية) ولينجو بنفسه منها.. نبضت العروق.. وتوحدت النبضات.. ولسعته الرمال، وانتفضت فيه إنسانيته المفقودة.. وقامت حالة من العشق عجيبة بينه وبين هذه الرمال.. رمز الأرض والوطن والحب! فتحول من حالة العجز الى حالة القدرة.. وكانت المواجهة التي نفضت الخوف بعيدا بعيدا.
أما الزمان فهذا المارد الذي خلقه غسان ليكون الإيقاع النابض في الرواية.. يتحول في لحظة العجز والفقد والضياع الى دقات خوف وشلل وقيد.. يبدأ لدى (حامد) أول عهده بالصحراء نبضا للخوف والفزع والتردد.. ثم لا يلبث أن ينزعه من معصمه ويلقي به (يلقي بالساعة) في الرمال ليخمد صوت الرعب في داخله.. ولتنشأ بعد ذلك حالة من الخلاص.. وإذا الزمن يتحول الى دقات تحريضية تساعده على المواجهة والإحساس بالوجود! وكذلك يمتد عرق الزمان في الوقت ذاته الى (مريم) التي تواجه (زكريا).. حيث أحست بدقات الزمان الرتيبة البليدة التي تفقدها الإحساس بوجودها.. وتحس كأنما هي تغرق في كل دقة من المستنقع.. مستنقع النتن.. مستنقع زكريا.. ولكنها لا تلبث أن تتحول الدقات لديها بفعل ظروف موضوعية ونفسية.. فإذا هي دقات تحريض بدلا من دقات جنائزية عجائزية! وتأخذ في النهوض والارتفاع بقامتها من المستنقع فتجد الخلاص.. كل الخلاص.. في المواجهة.. فتتناول السكين وتجهز على رمز المستنقع النتن.. زكريا!
هذه الحالة من التحول بدقات الزمان من العجز الى المواجهة الى الظفر بقيمة جديدة للحياة لم يكونا يحسانها.. أضافت قيمة جديدة للرواية.. قيمة فنية.. فظفرت الرواية بقيمتين على مستوى رفيع: قيمة حياتية وقيمة فنية.
وظل الشكل الحماسي الذي أقام عليه معماره الروائي الأول.. قاعدة للمعمار الروائي الثاني: حامد.. ومريم.. وزكريا.. والزمان وساعته التي تدق.. والمكان وصحراؤه التي كانت ميدان المواجهة!
وتظل الصحراء رفيقة لحامد.. لم يعد بمقدوره أن يكرهها.. لقد اختار حبها.. إنه مجبر.. ليس ثمة من تبقى له غيرها!
ولئن كانت رواية غسان الأولى تغمرها العتمة.. ويشتمل عليها الليل.. ويتخللها العجز.. وتمضي إلى آخر الليل لا تخرج منه.. فإن روايته الثانية.. تبشر بطلائع الفجر.. كأنها رواية الظروف الموضوعية التي تخلق إرادة.. وإن تكن إرادة ذات أبعاد فردية.. فلم يكن للإرادة يد في خلق الظروف.. بل كانت اليد للظروف في خلق الإرادة.. ولم يكن الفكر الفلسفي هو الذي وعى وعبأ وخطط.. بل ترك الأمر للظروف تفعل فعلها.. فلولا الظروف هذه لكانت الخمس عشرة سنة التي مضت على الاحتلال قادرة على ترسيخ صوت الصمت والسكون والموت.. ولكن الظروف تغيرت بفعل المواجهات اليومية على أرض الاحتلال.. تغيرت عما كانت عليه في السنوات العشر الأولى.
ولئن كانت الرواية رواية العجز.. رواية الماضي المستسلم.. فالرواية الثانية تشير الى الحاضر حيث لا خلاص إلا بالمواجهة.. وقد رمز لبداية اليقظة هذه بدقات الساعة.. تلك الدقات التي تنتقل من سراديب الماضي المظلم الى خيوط الفجر الصادق.. وبذلك يتنامى غسان في أعماله الإبداعية بموازاة تنامي الظروف وخط السير التاريخي ومنطق الأحداث.. ويتم هذا التناغم الذي يحرص عليه بين الزمان التاريخي والزمان الاجتماعي الذي أشرنا إليه من قبل.
ويكون هذا التنامي معقولا.. من مأساوية مشتعلة غاضبة متفجرة صارخة.. الى مأساوية المواجهة التي تتخللها خيوط من الضوء لا تخفي المرارة والأسى.. ولكنها تشير الى بداية فرح وزهو وأمل مشرق.. إلى أن يتم امتلاك الزمام.. زمام المعالجة والسيطرة على الحركة في (أم سعد) وفي (الأعمى والأطرش) وفي (العاشق) وفي (برقوق نيسان)! لقد تحول الغضب لديه الى رفض.. ومواجهة.. فثورة.
أجل.. لقد كان (حامد) حريصا على الساعة متعلقا بها.. ولكنه حين أحس بأنها تقيده وتشده وتعيقه.. تخلص منها في الصحراء! لقد كانت دقاتها تشير الى دقات الركود الفلسطيني السياسي والنفسي والعسكري طوال خمس عشرة سنة.. كانت صوت الصمت والسكون والموت.. وحين تخلص منها أنتجت لديه قدرة لم يكن يحلم بوجودها في داخل هذا الجسد!
هذه الأصوات التي تتفجر لدى شخوص غسان.. ليست أصواتا غريبة.. أليس هناك من بذور بعيدة.. وكأنها صوت الأعماق التي يمتد إيقاعها في الواقع لعله يستشرف المستقبل!
وكأنما رأينا غسان يتخلى عن قوته الشديدة على شخوصه فيمنحهم قدرا من الإنصاف.. ولهذا حين أراد أن ينبعث هذا الصوت أو ينبجس في جنبات الصحراء فجره.. فدوّى في الدويه.. لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ وقد أذهلنا عن أنفسنا لم نعد نميز مصدر الصوت وكأنما أحسسنا أنه انبعث من أفواهنا مشاهدين وقراء ومستمعين.. ولئن لم نشعر بذلك فكأنما نحس أنه انبعث عن الراوي أو عن المؤلف أو الكاتب.. وإلا فقد نحس أنه انبعث من الصحراء نفسها.. وقد نحس أنه انبعث من هنا وهناك.. وحين نتبين أنه انبعث في رأس أبي الخيزران نشعر كأن غسان أراد أن يعيدها الى أعماق هذا الشخص حين كان قويا ونقيا وحين كان يجاهد.. فلا ضرورة لأن ينطمس كل هذا الجهاد وكل هذا الضوء في زاوية من زوايا نفسه! كل هذا الحوار تحتمله المواقف في روايات غسان.. أكثر مما تشير إليه التفسيرات القريبة.. من مثل أن أبا الخيزران حين تلقى الضربة من نبأ موت الثلاثة كان النبأ حارا فلم يؤثر فيه.. حتى إذا برد النبأ أحس بوقعه فصرخ صرخته!
هذا تفسير وليس حوارا.. وغسان كنفاني أجدر بالمحاورة منه بالفهم القريب.. لأنه لا يبدع إلا بعد أن يحاور واقعه.. ويحاور فنه.. ويحاور مواده الفنية!
وما قلناه في صرخة أبي الخيزران نقول مثله في (حامد).. حين نفض عن كاهله الخوف.. بعد أن رأى نفسه وجها لوجه أمام جندي صهيوني ضل الطريق في صحراء بئر السبع وضاع عن دوريته فتساوت الظروف تقريبيا في ما بينه وبين (حامد) وأصبحا في ظل وضعين متكافئين.. فتنبهت في عروق حامد كل دواعي المواجهة والإرادة والقدرة على الإمساك بزمام الموقف.. فانقض عليه وأخذ سلاحه.. وأحس أن كل إنسانيته قد رجعت إليه من مكان بعيد بعيد.. ووضع حامد الجندي في موضع معلق بين الموت والحياة وجعله يحس بأن حياته في يد (حامد) متى شاء انتزعها منه!
وكان غسان قد أشار إشارة عابرة مضت في الأعماق.. الى أن هناك بذورا بعيدة لدى (حامد).. إذا جاءت ظروف موضوعية واستحيتها تستطيع أن تستيقظ.. فأبو حامد كان قد مات شهيدا دفاعا عن الأرض!
إن غسان يحاور الظروف في هذه الرواية أكثر مما يحاور الفكر والتوعية والتعبئة والتخطيط.. إنه يتعامل مع الظروف الموضوعية.. والواقع الذي تتيحه الفرص.. حتى زكريا.. على نتنه وخيانته حين دل على الفدائي.. نرى أنه لم يقع في المستنقع.. مستنقع الخيانة إلا لضعفه وخوفه.. فهو وإن بدا شريرا كبيرا.. لا يعدو أن يكون تحت تأثير الخوف والعجز والتعاسة.. حيث له زوجة أولى وخمسة أطفال.. ونحن نحس من طرف خفي أنه لو هيئت له الظروف لعادت له نفسه.. لكن اليأس والعجز جعلا منه كائناً نتناً!
ولقد أصر غسان على أن يضع بين يدي القارئ لهذه الرواية (توضيحا) يقول فيه:
الأبطال الخمسة في هذه الرواية.. حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء.. لا يتحركون في خطوط متوازية أو متعاكسة.. كما سيبدو للوهلة الأولى.. ولكن في خطوط متقاطعة تلتحم أحيانا الى حد تبدو كأنها تكون في مجموعها خطين فحسب. وهذا الالتحام يشمل أيضا الزمان والمكان بحيث لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة وأحيانا بين الأزمنة والأمكنة في وقت واحد!
إن الصعوبة الكامنة في ملاحقة عالم مختلط بهذا الشكل هي صعوبة معترف بها.. ولكن لا مناص منها أيضا إذا كان لا بد أن تقول الرواية ما اعتزمت قوله دفعة واحدة..>>.
وقد عكف على كتابة روايته هذه بين عامي 1963 و1964.. وإن يكن نشرها تم في عام 1966.. <<وقد نالت جائزة جمعية أصدقاء الكتاب في لبنان.. عن أفضل رواية لعام 1966. وهي أكثر روايات كنفاني إشكالية.. لأنها تحاول أن تجعل من الشكل الروائي ساحة لصراعات الذاكرة والواقع. وقد ترجمت الرواية الى الفرنسية والسويدية والدنماركية>>.
هذا ما أورده الناشر في الطبعة الثانية التي صدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية.. مؤسسة غسان كنفاني الثقافية سنة 1980.
ولعل أهمية هذا الزمان ترجع الى ما كان يتردد في أوساط بيروت الأدبية والثقافية قبيل هذه الأعوام وفي أثنائها حول الرواية العالمية.. وأشهر المبدعين فيها.. وبنيتها الحديثة.. وجوائزها.
وكان الحديث يدور في هذا المجال حول (وليم فوكنر).. بعد أن كان جبرا إبراهيم جبرا.. الروائي الفلسطيني.. أول من أطلع القراء العرب على وليم فوكنر.. وذلك حين كتب من أميركا دراسة مطولة عن <<الصخب والعنف>> نشرتها مجلة <<الآداب>> البيروتية في مطلع عام 1959.. وفي أواخر عام 1962 فرغ جبرا من ترجمة كاملة لهذه الرواية.. وكانت معدة للنشر في أواخر ذلك العام. وكان وليم فوكنر قد توفي في السادس من تموز عام 1962. وكان من قبل أي في عام 1950 قد حاز جائزة نوبل للآداب، وقد أحيوا ذكر هذا الروائي الأميركي المتفوق وذكر روايته <<الصخب والعنف>> وبنيتها الفنية الحديثة في بيروت في هذه السنوات سنة 1962 وسنة 1963.
كان فوكنر بين يدي غسان في هذه الأعوام.. بل كانت روايته <<الصخب والعنف>> موضع اهتمام وحوار ومناقشات.. وكان غسان طرفا مشتعلا في هذه المناقشات الثقافية!
وقد عكف فوكنر عامين أو ثلاثة على إقامة المعمار الفني لروايته التي نشرها عام 1929.
وقد اتخذ فوكنر عنوان روايته من صرخة صدرت عن (مكبث) في رواية شكسبير، حين انتحرت (السيدة مكبث) المتجبرة العاتية.. بعد أن ارتكبت هي وزوجها مكبث عبث الحياة غاص في الدماء من أجلها.. فيصيح واصفا إياها:
<<شمعة آفلة.. ظل يتحرك.. ممثل هائج مائج يصرخ مدة ساعة على خشبة المسرح دون أن يسمعه أحد.. حكاية يرويها مجنون.. كلها (صخب وعنف) لا معنى لها..>>.
ويمضي فوكنر يروي عن المجنون حكاية (آل كومبسون) سنة 1699 سنة 1945.. هذه الأسرة التي تتعرض لصراعات داخلية تمزقها شرق ممزق.. وفي الأسرة إخوة ثلاثة يسردون الوقائع كل على طريقته.. ويعارضها بسرد الوقائع ذاتها في أسلوبه الخاص.. وتتوازى سبل السرد وأحيانا تتقاطع. ولعل الجزء الثاني من الرواية يلفت النظر الى رواية (كونتن) للأحداث التي تنتهي بقصة انتحاره.. وقد وضع فوكنر كل قدراته في التحرك بين أطراف الزمان ومستويات الوعي واللاوعي.. إنها معجزة فوكنر كما يقول جبرا إبراهيم جبرا.. بل يقول إنها من أعجب ما كتب في الأدب!
وينتهي كونتن جثة يلتهمها النهر.. وقد ثبتت فيها ثقالتان من الحديد لتبقي عليها في القاع انتظارا ليوم البعث.. يوم القيامة.. يوم ينفخ في الصور!
وفي الرواية إشارات ذات دلالات حول اللعنة التي حلت بالأسرة حين تخلى رب الأسرة عن الأرض الموروثة وباعها لينفق على ابنه كونتن في هارفرد وعلى زفاف ابنته كادي.. وينتحر كونتن قبل أن ينهي عامه الأول في جامعة هارفرد.. ويتم طلاق كادي.. وسقوطها في عالم الدعارة.. وتتقطع الروابط وتقوم المؤامرات بين الابن والأم وابنة الأخت بسبب المال.. ويعلل فوكنر كل هذا الدمار بتعلق أصحاب الأرض بحياة المدينة التي يدينها ويراها موطن الشر والفساد.
ويقيم فوكنر عالما من الخطوط المتقاطعة في الزمان.. خط يمثل الحاضر.. ويتداخل الأمس باليوم.. وجعل لصوت الزمن دقات تنبعث من الساعات المتعددة.. حيث وضع ساعة في البيت المدمر.. وساعة على الطاولة في غرفة كونتن في جامعة هارفرد.. وساعة في جيب كونتن.. وساعة في دكان الساعاتي تدق دقاتها.. وساعة في البرج في ميدان (جفرسن) عاصمة المقاطعة في جنوب الولايات المتحدة.. وتدق الساعات لتثير في سمع الوعي صوتا منبها مقلقا مثيرا حيث يأخذ منه كل فرد معنى غير الآخر...
وينتهي الزمان بهذا البيت الكبير الى أن يصبح بنسيونا (نزلا) ينزل فيه صغار الفلاحين.. إنها رواية الخراب والدمار والسقوط والانتحار والقتل والقسوة والخيانة في أحلك الليالي المأساوية.. بحثا عن خلاص نفسي <<يلوح ويختفي في غابات جفرسن النائية من مقاطعة يوكناباتوفا.. لصاحبها ومالكها الأوحد وليم فوكنر>>.
وكان فوكنر قد قال يوم تكلم حيث تسلم جائزة نوبل:
<<خوف خوف خوف يملأ الكون كله.. يلقانا في حياتنا.. لم نعد نقوى على تحمله.. ولم يعد يلوح لنا غير سؤال واحد: متى سأتفجر ويتفجر وجودي..>>.
مثل هذه الأصداء كانت تتردد في سماء بيروت الثقافية في أوائل الستينيات وكان غسان على بينة من أمرها.. وكان غسان يتأهب ليبدأ روايته <<ما تبقى لكم!>>.
وقد أحست الدكتورة <<رضوى عاشور>> بظلال لهذه الأصداء حين قالت: إن غساناً يتبنى في رواية <<ما تبقى لكم>> شكلا تجريبيا يعتمد فيه على استخدام تيارات الشعور المتداخلة لشخصياته.. وعلى التجريد.. وإدخال الزمان والمكان شخصيتين أساسيتين في الحدث.. ومن الواضح أن غسانا في اتجاهه التجريبي هذا كان متأثرا الى حد بعيد بإنجازات الرواية الأوروبية والأميركية في الثلث الأول من هذا القرن وخاصة برواية <<الصخب والعنف>> للكاتب الأميركي (ويليام فوكنر). ولقد أقر غسان بهذا التأثر في حديث إذاعي أعيد نشره في مجلة (الهدف) بعد استشهاده قال:
<<.. بالنسبة لفوكنر.. أنا معجب جدا بروايته <<الصخب والعنف>>. وكثير من النقاد يقولون إن روايتي <<ما تبقى لكم>> هي امتداد لهذا الإعجاب ب<<الصخب والعنف>> وأنا أعتقد أن هذا صحيح.. أنا متأثر جدا بفوكنر.. ولكن <<ما تبقى لكم>> ليست تأثرا ميكانيكيا بفوكنر.. بل هي محاولة للاستفادة من الأدوات الجمالية والإنجازات الفنية التي حققها فوكنر لتطوير الأدب الغربي>> (غسان كنفاني: في آخر لقاء إذاعي الهدف السبت 15 أيلول سنة 1973 العدد 129 المجلد الخامس ص 18).
هذا الإحساس لدى الدكتورة رضوى إحساس صادق.. وهذا الإقرار من غسان إقرار صحيح. وهذه الساعة النعش المعلقة أمام السرير في غرفة مريم في رواية (ما تبقى لكم) تبدو كالساعة لدى كوينتين في <<الصخب والعنف>>.. مقبرة كل الآمال.. غير أن الزمن المتطور والظروف المواتية الموضوعية تنتشل ساعة (مريم) وساعة (حامد) من دقات العجز الناتج عن حصار الماضي الكئيب.. الى دقات الفعل والمواجهة ونبذ الخوف والعجز والهزيمة..
إن أسرة فوكنر تنتهي الى الدمار والانهيار بينما الأسرة لدى غسان تنتهي الى التحرر والانعتاق.
وأنا أرى كأن غسانا أراد أن يقدم للمثقفين والدارسين والنقاد والمتحذلقين بنية روائية مثقفة مركبة حديثة متحذلقة تحديا لهم وتشكل معارضة لبنية الرواية لدى فوكنر!.. وإذن فهي في تقديري أشبه بالمعارضات في مجالات الأدب والشعر!
ولا ضير على المعارض من استعارة العديد من الإنجازات الشكلية وأقول التشكيلية لأنه سيلجأ حينذاك الى إعادة صياغتها من موقعه هو وزاوية رؤيته هو وموقفه هو وفكره الفلسفي الاجتماعي الواعي هو.. وحواره هو معها.
لقد أعاد غسان تشكيلها وعجنها وخبزها مع <<خصوصيته الفلسطينية>> على حد تعبير الدكتورة رضوى عاشور التي تقول في هذا الصدد:
<<.. كان غسان كاتبا واعيا بحرفته.. وجريئا في إقدامه على التجريب الشكلي.. ولكن هذا الإقدام لم يتخذ شكل المغامرة غير المسؤولة.. لقد استخدم تيارات الشعور المتداخلة في روايته <<ما تبقى لكم>> فجاءت الرواية إنجازا شكليا استقبله العديد من النقاد بالترحيب!>>.
وقد كان غسان نفسه يرى في هذه الرواية قفزة من ناحية الشكل.. ولكنها أثارت في الوقت نفسه تساؤلات لغسان: لمن يكتب غسان؟ فهذه الرواية لا يستطيع قراءتها إلا نفر قليل من المثقفين العرب.. فهل تراه يكتب من أجل أن يقول أحد النقاد: غسان يكتب رواية جديدة.. أم تراه يكتب من أجل أن يصل الى الناس.. ومن أجل أن تكون هذه الرواية شكلا من أشكال الثقافة الموجودة في المجتمع العربي والتي من واجب المثقف التعامل بها مع الناس؟ إنه ليس مفتونا بها بالدرجة الأولى.. ولكنه يقول إنها مهمة في حياته الأدبية لأنها أثارت لديه هذا السؤال الحار وهذا الحوار المشتعل.. وقد أجاب عن السؤال في روايتين صدرتا بعد رواية <<ما تبقى لكم>>.. هما <<عائد الى حيفا>> و<<أم سعد>>.. حيث نهج فيهما نحو التبسيط الذي يهمه أمره قبل أن يهمه أمر تحقيق إنجازات في الشكل.. لأنه السبيل الى الوصول للقارئ العربي:
<<.. ففي المرحلة التالية.. إذا استطعت أن أقول الأشياء العميقة ببساطة فأكون في الواقع راضيا عن تطوري لأنني أعتقد أنه ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة.. والإنجاز الفني الحقيقي هو أن يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة!>>.
إن غساناً أحس بخطورة ما أقدم عليه حين تحدى إعادة تشكيل الإنجازات الشكلية الأوروبية ليمزجها في إيقاع عربي فلسطيني خاص.. ويخرجها من دائرة العبثية الى مجالات الواقع الموضوعي والظروف الحياتية المؤاتية!
لقد استطاع غسان بمعارضته وتحديه أن يطوع الحديث الداخلي والإيقاع الذي ينبض في النفس الداخلية والتداعي وتلاقي النبض الخارجي وتقاطعه مع النبض الداخلي.. هذا التيار.. تيار الشعور الذي اتخذه الكتاب الأوروبيون في النصف الأول من القرن العشرين واشتهر به جيمس جويس وفرجينيا وولف. حيث استطاعوا به اختراق الواقع النفسي والفلسفي للإنسان الأوروبي المأزوم <<في ظل رأسمالية القرن العشرين>>.. أجل لقد استطاع غسان أن يسخر تيار الشعور لخدمة أهداف الفن الجماعي والفن الواقعي ما دام الفرد لدى غسان هو ضمير الجماعة..
وقد عاد غسان لهذا الأسلوب في روايتين من رواياته التي استشهد قبل أن يكملهما وهما (الأعمى والأطرش) و(العاشق). وتقول رضوى في هذا الشأن:
<<.. استخدم غسان أسلوب تيار الشعور في رواية (الأعمى والأطرش) لأن الرواية تقدم لنا وجهتي نظر أعمى وأطرش.. والعزلة مفروضة على كليهما بسبب عجزه.. إن عزلة هاتين الشخصيتين تجد تعبيرا موفقا في هذا الأسلوب.
أما رواية (العاشق) التي لو اكتملت لربما صارت من أعظم أعمال غسان فتقدم لنا صورة الكادح الفلسطيني الذي شارك في الحركات النضالية في البلاد طوال الثلاثينيات.. والعاشق كشخصية إنسان متفرد ومميز ومستوحد، ومن هنا فتقديمه من خلال تيار شعوره مناسب تماما ويتداخل هذا الأسلوب طوال الرواية مع أسلوب السرد التقليدي على لسان الراوية العارف بكل شيء. ويعكس تداخل الأسلوبين تفاعل الذات مع الموضوع اللذين يخلقان معا العالم الموضوعي للرواية.. لقد قدم غسان في كل من (رجال في الشمس) و(ما تبقى لكم) رسالة محددة في شكلها وتقدمية في مضمونها الى أبناء شعبه.. ألا وهي عقم الخلاص الفردي وعقم الاستمرار في سجن الماضي>>.
ونحن نقول إن هذه الأساليب.. التيار الشعوري وسواه.. يستطيع أن يستعملها أي كاتب في أية مدرسة أدبية.. فإذا كان رومانسيا استعمل هذه الأساليب من موقعه وموقفه وزاوية رؤيته وفكره الاجتماعي.. وإن كان واقعيا استعمله من موقع آخر وموقف آخر وزاوية أخرى وفكر اجتماعي مغاير.. وكل فرد له عالمان خارجي وداخلي.. والعلاقة بينهما في نوعها تتحدد بتحديد المواقف التي يصدر عنها الفرد أو تصدر عنه.. والعلاقة بين الخاص والعام موجودة على الدوام لدى جميع الشخوص.. ومحاولة الإنسان المد في بعده الذاتي ليصل الى الإنسان الكلي يحتاجا إيقاعا داخليا وإيقاعا خارجيا.. يحتاج الى النبضين!
ومن هنا نقول إن تيار الشعور ليس وقفا على فئة من الكتاب دون غيرها! ولا على مدرسة إبداعية دون غيرها.
ولعلنا بهذا نكون قد أثرنا مواطن للحوار في رواية (ما تبقى لكم) ورواية (رجال في الشمس) ولم نعمد الى التلخيص الذي يخل بقيمة العمل الإبداعي.
ولعلنا لحظنا أن غسانا في هاتين الروايتين قد ابتدأ من البؤرة من حيث بنية الرواية.. فقد فجر الحدث في قلب العمل.. ثم بدأ يمتد ويلقي بخطويه ويفتح قنواته ويشق دروبه ويشير الى أسهم السير ويضيء الأخضر والأحمر أحيانا في تقاطع الخيوط والتقاء الدروب.. وإذا نحن أمام شبكة من الشخوص والأماكن والأزمنة والأحداث.
هذا الانطلاق من البؤرة الساخنة يحمل في ذاته حرارة المواقف الدرامية.. ولكن غسانا رغم كل هذا يظل قصاصا روائيا وليس مسرحيا. وإن تكن الفنون الحديثة تأخذ بقدر من كل نفس إبداعي ونبض فني أو إيقاع أدبي، إنها إحدى ملامح الأدب الحديث أن ينتفع الفن الواحد بمقومات الفنون الأخرى.
ولعل اهتمام غسان فتفجر البورة في أول العمل الروائي والانطلاق من الموقف الساخن بعد أن يضعه في دائرة الضوء.. لعل ذلك لعدم قدرة غسان على الصبر أولا.. أو على تسخين الأحداث ببطء.. ثم لعله بسبب موقعه من الواقع الحار المصيري حيث يزج بنفسه دوما في الخط الأمامي من قضايا الإنسان العربي الفلسطيني ولا يقبل أن يتلقى أنباء الأحداث من سواه!
هذا الحضور في الخط الأمامي جعل الابتداء بالبؤرة لتكون المنطلق في روايات غسان.. بل لعل تبادل الحضور هو الذي أخفى علينا أي الحضورين سبق الآخر.. والأغلب أن العلاقة بين الحضورين جدلية!
ولعل التمرس بالكتاب والكتابات الواعية قد دفع بغسان الى الفعل والممارسات المتقدمة! ثم أصبحت المسافة بعد ذلك ملغاة!
من أجل ذلك نرى أنه ابتدأ بالموقف الحار.. موقف المواجهة.. وقد توحد بالأرض.. بالصحراء.. وأعانه هذا التوحد على الخلاص من الخوف ومن العجز ومن الإحساس بالضياع.
<<.. وفجأة جاءت الصحراء.. رآها لأول مرة مخلوقا يتنفس على امتداد البصر.. غامضا ومريعا وأليفا في وقت واحد.. واسعة وغامضة.. ولكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها.. لم تكن صامتة تماما وقد أحس بها جسدا هائلا يتنفس بصوت مسموع.. وفجأة انتابه الدوار وهو يغوص فيها.. وأخذ يغوص في الليل مثل كرة من خيوط الصوف المربوط أولها الى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول الى كرة.. وهو الآن يفكها تاركا نفسه يتدحرج في الليل: <<كرر ورائى: زوجتك أختي مريم.. زوجتك أختي مريم.. على صداق قدره.. على صداق قدره.. عشرة جنيهات.. عشرة جنيهات.. كله مؤجل.. كله مؤجل>>، ثم أخذت العيون تأكل ظهره وهو جالس أمام الشيخ.. كل الذين كانوا هناك كانوا يعرفون أنه لم يزوجها وأنها حامل، وأن الكلب الذي سيصبح صهره يجلس الى جانبه يضحك من أعماقه بصوت مسموع.. كله مؤجل.. طبعا.. فالمعجل هو جنين يخبط في رحمها. وخارج الغرفة أمسكها من ذراعيها: لقد قررت أن أترك غزة!>>.
بكل تلك الشاعرية.. وكل تلك الصور التي لا تصدر إلا عن رسام.. وبكل هذه البراعة في جعل الشخص الفرد نمطا للمجموع.. ومن هذه البوابة التي تحمل شعار الموقف الاجتماعي.. فجر غسان قضيته السياسية المصيرية بعد مضي ست عشرة سنة على بدء النكبة.. في رواية (ما تبقى لكم) واستخدم كل الأساليب الحديثة متحديا معارضا موفقا متفوقا.
ومضى ينسج خيوطها ويفك حبال الصوت المتكورة.. حتى انتهى بها الى الموقف الحار المتدفق دما.. خيطا من الدم هنا وهناك.. ونزيز الدم يتدافع حول النص:
<<.. هل حسبت أنني تزوجتك لتنجبي لي ولدا أيتها العاهرة؟!.. اسمعيني وقولي غدا إن زكريا قال: إذا لم تستطيعي إسقاط ذلك القواد الصغير.. إذا لم تستطيعي إسقاطه فأنت طالقة.. طالقة.. طالقة.. هل تسمعين؟ طالقة.. وأمامه مباشرة كان صوت آخر ينبع من داخل جسدي ويدوّي هناك مرتدا في رأسي الى ألف صدى كأنه نباح كلب مجروح.. طبّ فوقه برميل معدني فارغ! ليس بوسعنا التخلص منه بعد.. ليس بوسعنا التخلص منه بعد.. وفجأة تكشف لي وأنا واقفة أنه ليس بوسعي أيضا التخلص من زكريا.. وكان حامد يبتعد.. يدق فوق جباهنا خطواته العنيدة بلا رحمة.. فيبدو وقد ذوبه المدى.. ولم يتبق منه إلا أصداء خطواته العنيدة التي لا تنتهي.. آخر قطار غادر المحطة المهجورة وتركنا على رصيفها المحطم.. نستمع الى صوت الصمت المفعم بالغربة والوحشة والمجهول يدق.. يدق.. يدق!>>.
ثم بكل دراية وبراعة يرسم لنا صورتين من المواجهة تتطابقان.. مواجهة حامد في الصحراء للجندي الصهيوني الذي تاه عن دوريته فوقع بين يدي حمد ونزع منه بندقيته ومطارته.. ومواجهة مريم لزكريا:
<<.. وانبثق الضوء فجأة فبدت الصحراء النائمة.. أشد صمتا وانتظارا.. ومن جديد عاد الدم ينساب في عروقي (عروق حامد ومثله في عروق مريم) مرة أخرى. وكان هو (الجندي الصهيوني) قد استسلم الى جانبي مرهقا.. وحاول أن يقف إلا أنه لم يستطع.. فأخذ ينظر إليّ محاولا أن يقول شيئا.. وبادلته النظر ببرود.. وأخذت أمرر نصل السكين فوق حافة حذائي.. فيصدر صريرا متطاولا.. واستطعت أن ألتقط في أعماق عينيه.. خوفا حقيقيا وانتظارا مهيضا بائسا.. كأنه أحس بانتصاري الصغير المتوحد.. وبذل محاولة ليزحف على مؤخرته.. وقلت له ببطء محاولا كل جهدي أن يفهم: لتمت عطشا.. ولكنه مضى يشير بعنقه الى المطارة المعدنية من جديد. وبدا ظامئا حقا.. فتناولتها وهززتها قرب أذني فاصطفق داخلها ماء قليل إلا أنني لم أفتحها. وبعد لحظة قذفتها الى حيث كانت مرة أخرى. ونظرت الى وجهه وشفتيه المفتوحتين تموجان بالغضب المشلول. وقلت له مرة أخرى ببطء: <<لتمت عطشا.. لتمت عطشا.. وأخيرا قرأت على ختم ليلكي صغير في أسفل الهوية.. حروفا لاتينية جاءت واضحة الى جانب حروف عبرية ملتفة على بعضها: يافا، طويت الأوراق بعناية ووضعتها في جيب سروالي.. وجلست أمامه مباشرة.. وكان ينظر إليّ بحذر وترقب محاولا استكشاف خطتي.. ولكن الأكيد هو أنه لم يكن ليستطيع، ذلك أنني أنا نفسي كنت أجهلها.. ثم قلت له: هيا.. كن رجلا طيبا ودعنا نتحدث عن يافا، إن الانتظار الصامت لن يأتي إلا بالرعب!.. لكنه ظل يحدق.. كأنه لم يفهم شيئا!.. هيا! كيف انتهى الأمر بكل ذلك الحي الذي كان يمتد بين جامع الشيخ حسن وحمام اليهود المحروق في المنشية؟!.. وجلست مرة أخرى الى جانبه.. وفرشت أمامه كفي لأقول له إنه ليس ثمة ما بوسعنا فعله.. ولكن بدل أن ينظر إلى كفي.. مضى يراقب السكين التي أخذ نصلها الفولاذي يتوهج في الضوء ملقاة بين قدمي.. فتناولتها وسحبت نصلها من جديد فوق حافة حذائي فانطلق الصرير المحذر كأنه عويل أخير.. وعندها فقط نظر إلى عيني.. ولمحت في وجهه من جديد تلك المسحة الخرساء من الرعب العاجز فأدركت أنه سيكون بوسعي ذات لحظة أن أحز عنقه دون رجفة واحدة.. وأن هذه اللحظة ستأتي لا محالة.. تحت وقع البريق المرعوب في عينيه.. وصرير نصل السكين فوق حذائي.. والشمس اللاهبة التي كانت تجلد مؤخرة عنقي بلا هوادة>>.
ويترك أمر هذه اللحظة للظروف دون أن يحسم أمرها، أجاءت أم لم تجئ في ذلك الوقت.. ولكنه يضع في المرآة الاجتماعية صورة منعكسة عنها.. حيث تقوم مريم بحسم الأمر.. وتتخلص من زكريا:
<<.. كان النصل مندفعا من بين كفي المحكمتي الإغلاق، وأحسست به حين ارتطمنا يغوص فيه.. كان النصل يغوص في عانته فوق فخذيه مباشرة.. وحاول أن ينتزعه إلا أن كفيه اللتين أخذتا تزرقان وترجفان عجزتا عن الإمساك بالمقبض.. فانحنى واستند بذراعيه الى الطاولة فيما أخذ الدم يبلل سرواله وينتشر قانيا لامعا فوق ساقيه.. ثم شخر كأنه يصحو من نومه.. وتناهى إليّ صوت نزيز الدم يتدافع حول النصل.. ثم انتفض وتساقط وتكوم بين قدمي الطاولة.. وأضاء شعاع الشمس الضيق المتسرب من النافذة خطا رفيعا من الدم يزحف برأس مدبب.. وسط بلاط المطبخ الناصع البياض.. ودوى صوت الصمت فجأة.. حين أخذت الكلاب خارج النافذة تنبح نباحا مسعورا لا ينقطع، ولم تصمت إلا حين جاءت خطواته مثلما كانت دائما خارج ذلك النعش المعلق فوق الجدار (الساعة): تدق في جيبي إصرارها القاسي الذي لا يرحم.. تدق فوقه مكوما هناك قطعة من الموت.. تدق.. تدق.. تدق>>.
أترى كيف كان غسان وأبطال غسان حينذاك يستجيبون لحركة الظروف الموضوعية المؤاتية؟
أتراهم كيف لم يكونوا حينذاك يعرفون ما هي الخطة.. تلك الخطة التي لم تنكشف لهم إلا في المرحلة الثالثة من مرحلة الحركة الفلسطينية ومن مرحلة المسيرة الروائية في إبداع غسان؟
أرأيت كم كان الانتظار الصامت مقيتا.. لا يثمر إلا الرعب؟!
وهكذا رأينا أنه لا شيء يعوض عن الاتصال المباشر بهذا الإيقاع النابض في العمل الروائي الغساني وحواره.. حيث نشاهد فيه براعم <<الانتصار الصغير المتوحد في الحالين>>.. الحال السياسية.. والحال الاجتماعية.. والعلاقة بينهما جدلية جدلية.. ولكنه بداية تفجير للتخطيط والتوعية والتعبئة من أجل انتصار كبير كبير لحركة تحرير .شعبية تحمل عبء القضية
فريدة النقاش

توقيع ميساء البشيتي
 [BIMG]http://i21.servimg.com/u/f21/14/42/89/14/oi_oay10.jpg[/BIMG]
ميساء البشيتي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 08 / 07 / 2010, 05 : 04 AM   رقم المشاركة : [5]
عبدالله الخطيب
كاتب نور أدبي يتلألأ في سماء نور الأدب ( عضوية برونزية )
 





عبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond reputeعبدالله الخطيب has a reputation beyond repute

رد: ما كتب عن غسان كنفاني

سيظل الثامن من تموز من كل عام ذكرى خالدة و أليمة..
حين نجح المجرمون بقتلك و فشلوا في تغييبك.
ستبقى قمراً وهاجاً رغم الظلمة الحالكة.
ستظل حروفك أملاً و شمساً تسطع في فضاء الحرية.
في جنات الخلد يا غسـان.
توقيع عبدالله الخطيب
 [frame="3 98"][frame="2 98"]
لاَ تَشك ُ للنّاس ِ جرحا ً أنتَ صاحبُه .... لا يُؤْلم الجرحُ إلاَّ مَنْ بهِ ألم
don't cry your pain out to any one
No body will suffer for you
You..! who is suffering
[/frame]
[/frame]
الثورة تتكلم عربي
عبدالله الخطيب غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
في الذكرى 38 لأستشهاد غسان كنفاني/ بقلم عصام اليماني. عبدالله الخطيب غسان كنفاني 2 27 / 03 / 2014 51 : 10 PM
أوراق غسان كنفاني طلعت سقيرق كلمات 6 22 / 04 / 2012 29 : 04 PM
إلى أن نعود .غسان كنفاني نصيرة تختوخ غسان كنفاني 3 05 / 02 / 2012 37 : 03 PM
بومة غسان كنفاني آدم يونس غسان كنفاني 2 08 / 07 / 2010 26 : 04 AM
قصص غسان كنفاني حسام صالح مكتبة نور الأدب 1 25 / 04 / 2010 47 : 08 PM


الساعة الآن 17 : 06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|