رد: قصيدة النثر رؤية جديدة
هذه رؤية الاستاذ طلعت سقيرق فى قصيدة النثر
قصيدة النثر بين المدِّ والجزر
في المدّ: أنّ الإلغاء مرفوض في الأدب. لذلك لايجوز أن نبدأ عند الحوار حول قصيدة النثر، بضرب أو نفي هذه القصيدة.. لأننا بذلك ننفي حق كلّ أديب في اختيار الشكل الذي يرغب به لأدبه، وأيضاً نضيّق في كلّ مفهوم للأدب، حين نرفض كلّ شكل لايتوافق مع أمزجتنا. وكلّ ذلك، يخرج عن عملية الإبداع. فالإبداع انفتاح مطلق على الحرية في الاختيار.. وإذا كان أصحاب قصيدة النثر قد اختاروا هذا الشكل المفتوح دون حدّ، فهو حقّ لهم في كلّ حال من الأحوال، مادام الاختيار قد جاء نتيجة حرية متكاملة، فهو اختيار قناعة.. لذلك علينا أن ننطلق في الحوار من القبول بالاختيار الناجز والمتحقق، ليكون الحوار حوله، لا في العمل على رفضه ونفيه...
في الجزر: ولأنّ الاختيار وليد قناعة وقبول، فمن واجب شعراء قصيدة النثر أن يبادروا إلى إثبات أنّ اختيارهم كان صحيحاً موفّقاً قادراً على الصمود. ومن خلال القصيدة، لا التنظير لها، عليهم أن يثبتوا أنها قصيدة متفوقة في وصولها وتواصلها.. والأسئلة التي ترد هنا تقول: هل استطاع شعراء قصيدة النثر القول فعلاً بصواب الاختيار؟؟ هل وصلت قصيدتهم إلى القدرة على الوقوف إلى جانب قصيدة البيت، وقصيدة التفعيلة باقتدار؟؟ هل كان هناك أسماء استطاعت أن تشكل حضوراً وتواجداً من خلال كتابة قصيدة النثر لاغير؟؟ أسئلة تحتاج إلى دراسة...
في المدّ: قد ينظر إلى مايقوم به شعراء قصيدة النثر، من محاولات لإثبات أنّ قصيدتهم هي الوحيدة التي تمثل الحداثة، وأنها قصيدة العصر دون منازع، وأنّ الشعر لايكون شعراً إلاّ من خلال قصيدة النثر بانفتاحها الكبير على فضاء واسع لايحدّ، قد ينظر إلى كلّ ذلك على أنه دليل قوة من قصيدة النثر، وعند شعراء هذه القصيدة. إذ يفترض عند القول بأحادية الشكل في الشعر، وهو هنا شكل قصيدة النثر، أن يكون قادراً على ملء المكان. وكأنّ قصيدة النثر توحي بكلّ ذلك...
في الجزر: لكن قصيدة البيت، كما قصيدة التفعيلة، تقومان برفض قصيدة النثر، جملة وتفصيلاً. كأننا هنا أمام معركة حربية تدور رحاها في ساحة الشعر. ويلاحظ، وإن قلنا من قبل برفض النفي ومانزال، أنّ سلاح قصيدتي البيت والتفعيلة أقوى، جراء رسوخ جذورهما على أقل تقدير.. وإذا أخذنا القصيدة المنجزة والمكتوبة، ولجأنا إلى المقارنة، تتراجع قصيدة النثر، ولا تستطيع الصمود طويلاً. هناك شيء من الضعف، يواجه قوة موجودة على ساحة الشعر. وهذا يعني أنّ الحرب غير عادلة، وأنّ واجب شعراء قصيدة النثر أن يدعموا نصوصهم بدل مهاجمة الآخرين. لأنّ الهجوم، وهم في حالة ضعف إبداعياً، لايفيد..
في المدّ: عند القول بالحرية، والخلاص من أي قيد، نميل مباشرة إلى قصيدة النثر، فهي قصيدة الحرية بالمعنى الواسع. إن طرح شعراء قصيدة النثر، بأنهم ضدّ كلّ قيد، حتى الوزن، أعطى لهذه القصيدة قدرة لامثيل لها في أن تكون قصيدة الانفتاح على كلّ جديد، دون قيد أو شرط، مع المحافظة بطبيعة الحال على الحسِّ الشعري، والفيض الشعري، وكلاهما يتطلبان حرية لاتحدّ.. لأن الفيض الشعري، يعني تجاوز القصيدة لكلّ الحدود، كذلك الحس الشعري المنطلق، يرفض القيد. وبذلك تكون الحرية إلى جانب الانطلاق الكلي في قصيدة النثر، انحيازاً للكم الشعري. ويستطيع شعراء النثر القول بأنهم شعراء الحرية التي يتطلبها الشعر... وهل هناك حرية أكثر من الحرية التي تعطيها قصيدة النثر؟؟..
في الجزر: يمكن القول إنّ الحرية شيء جميل ورائع في الفن كما في سواه. وقصيدة النثر حين تنادي بهذه الحرية، فإنها تدعو إلى الانطلاق الشعري الجميل. لكن يفترض أن تكون الحرية، حرية نظام حتى في الأدب والإبداع والحياة. لأنّ الحرية دون نظام تنقلب إلى فوضى، وهو ما يخرج بها تماماً عن المعنى المراد. وربّما يسيء البعض عن غير قصد، حين ينادون إلى الخلاص من كلّ شيء، حتى النظام الذي تفرضه اللغة. وهذا يجعل قصيدة النثر، قصيدة الوقوف في وجه كلِّ نظام مطلوب، لتنقلب بذلك على نفسها، قبل الانقلاب على سواها. إذ يمكن محاربة قصيدة النثر من كونها قصيدة تدّعي الحرية، وتلجأ إلى الفوضى. وهو خطر يعني إسقاط هذه القصيدة انتحاراً. فلا أحد يقبل الفوضى، لأن الفوضى خراب. ومن واجب شعراء قصيدة النثر الواعين، الانتباه إلى مثل هذه الدعوات التي تأخذ لبوس وغطاء الحرية. إذ لاشيء أشدّ فتكاً من سلاح يستعمله الفن لقتل مسيرته وإنهاء أي قابلية للتطور فيه...
في المدّ: إذا رجعنا إلى الحوار حول تطور الشكل، من خلال تناول جنس أدبي واحد هو الشعر، نلاحظ أنّ الشعر العمودي ((قصيدة البيت)) ظلّ سائداً مسيطراً دون منازع. لكن التطور كان يفترض وجود شكل جديد، فاستدعى ذلك بروز شعر التفعيلة ((قصيدة التفعيلة، أو الشعر الحر)) وقامت الحرب بين الشكلين ومازالت، دون غياب هذا أو ذاك. فجاء شعر التفعيلة ليشكل إضافة وإغناء للشعر، دون القدرة على إلغاء الشعر العمودي.. ثم ومع التطور، والحاجة إلى الجديد، برز شعر إزاحة الوزن وإلغائه ((قصيدة النثر)).. وأيضاً لم يستطع إلغاء السابق، فشكَّل إضافة وتنويعاً جديداً. وكان طبيعياً أن تسير الأشكال الثلاثة معاً، رغم الحرب المعلنة بينها. إذ يحاول كلّ شكل أن ينفي الآخر. لكن النفي لم يتم لأي شكل من الأشكال.
في الجزر: لابدّ أن نقف عند التسمية ((قصيدة النثر)) لنقول إنها تحمل تناقضاً في هذا المضاف والمضاف إليه...!!.. إذ نعرف أنّ هناك شعراً أو نثراً.. فكيف نوفِّق بين قصيدة ونثر؟؟ خاصة إذا كان المضاف إليه، وله الغلبة والمساحة الأكبر، نثراً..؟؟ وظني أن ضرورة بحث التسمية يجب أن تسبق أي شيء، حتى نرسِّخ في البداية أرضية صحيحة. ونعرف أن كثيرين يقولون كيف تكون قصيدة نثر، وعلى أي أساس تتم نسبتها إلى الشعر؟؟ ألا يجدر بشعراء هذه القصيدة، وبالنقد، السعي لإيجاد اسم صحيح على أقل تقدير؟؟..
في المدّ: بكلّ الأحوال لايمكن التقليل من قيمة الوزن، ولا أقول الإيقاع، والقول إنه جزء ثانوي. فالوزن، شئنا أم أبينا، أساس وقوة في الشعر. وحين استطاعت قصيدة التفعيلة الثبات، فاعتماداً على كون الوزن أساساً لايمكن تركه والتحول عنه. صحيح أن قصيدة التفعيلة غيرت الترتيب الوزني، لكنها أبقته.. وجاءت قصيدة النثر مسقطةً هذا الأساس، معتبرةً أنه قيد. وإذا كانت مثل هذه الخطوة جريئة في قلب المفهوم والعادة وكلّ ماشكل ثباتاً ورسوخاً في الأذن والذات المتلقية.. فإنّ الخروج عن كلّ هذا الثبات، كان يتطلب، ودون أي إبطاء تعويضاً، تقبله الأذن والذات.. وقالت قصيدة النثر، إنها تقدم التعويض، من خلال مساحة الحرية..
في الجزر: الحرية التي قالت بها قصيدة النثر، لم تشكل تعويضاً عن الوزن. إذ إنّ إزاحة الوزن، كانت تعني إزاحة أساس يستطيع أن يلمّ جوانب القصيدة. وأي تبديل، أو تعويض، يحل محل الأساس، كان يفترض أن يوازي قوته. لكن ماذا قدمت قصيدة النثر كبديل؟؟
نفترض أنها تماثل قصيدة التفعيلة، لكن في التخلي عن الأساس الوزني، تبتعد عنها.. إذن هي قصيدة تفعيلة، دون تفعيلة، أي دون وزن.. قد نلجأ هنا إلى الكثير من التنظير الذي يتحدث عن الحرية والانطلاق والتحليق. لكن التنظير شيء، والنظر إلى القصيدة المكتوبة شيء آخر. وعلينا أن نجد في القصيدة التي نقرأ بديلاً يعوّض غياب الوزن.. فهل نجد؟؟..!!..
في المدّ: لابدّ من القول، وهذا أمر بدهي، أنّ وجود شعراء كبار، لهذا الشكل أو ذاك، يعني قدرة هذا الشكل على الثبات والتطور والتقدم.. ولا أحد ينكر أنّ الأشكال الثلاثة، قد توافر لها شعراء كبار، استطاعوا أن يرفدوها بما هو غني، ليكون لها القدرة على الوقوف في وجه أي هجوم.
في الجزر: لكن وجود شعراء في البداية، يستدعي استمرار رفد القصيدة من خلال شعر ينتجه شعراء كبار... وإذا توفّر هذا الأمر زمنياً ودون توقف، لقصيدتي البيت والتفعيلة، فقد فقدت قصيدة النثر وجود شعراء كبار في راهنها، مما جعلها، دون وعي منها، دائمة الرجوع إلى ما كان، متناسية أنّ هذا الرجوع يعني فقدان القصيدة في الوقت الحالي. وهذا يعني في أحسن الحالات، وفي أكثر التطلعات تفاؤلاً، شيئين الأول، أن قصيدة النثر أثبتت جدارتها، واستطاعت أن تقول بقدرتها على الوقوف من خلال قصائد متميزة لشعراء متميزين.. والثاني أنها لم تستطع المحافظة على مواقعها، لأنّ الشعراء الجدد، أو الشعراء اللاحقين، لم يكن لهم شاعرية من سبق، فدخلت القصيدة في مأزق..
في المدّ: مع مرور السنوات، صمدت قصيدة النثر، كما صمدت القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة. وهذا يعني، رغم كلّ الملاحظات، أنّ هناك قوة في قصيدة النثر ساعدتها على الاستمرار، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك. وإذا كان الفن يراهن على الاستمرارية في الزمن دائماً، فإنّ قصيدة النثر كسبت الرهان في ذلك.. إذا مازالت واقفة بثبات حتى الآن..
في الجزر: الخطر، كلّ الخطر، يأتي من شعراء لامن قصيدة النثر.. وشعراء الراهن لايعطون هذه القصيدة الكثير.. وإذا كنا منحازين إلى قصيدة النثر، وإلى قصيدة البيت، وقصيدة التفعيلة، بمعنى الانحياز إلى الحرية في العزف على الوتر الذي يراه الشاعر مناسباً.. فإنّ خشيتنا تكبر حين نرى إلى شعراء لايحافظون على زخم القصيدة كما يجب.. وحتى لا نصل إلى التيئيس... نقول إن الزمن أولاً وأخيراً هو الحكم الفصل...
وختاماً بين المدّ والجزر نقول: يهمنا في كلّ إبداع أن يكون الكم الإبداعي كبيراً متفوقاً قادراً على الاستمرار، دون التوقف طويلاً عند هذا الشكل أو ذاك. ومن حق قصيدة النثر، كما سواها، أن تأخذ مشروعية التواجد، لأنها تريد أن تكون شكلاً متفرداً فريداً في الفن.. وإذا كنا من قبل، وفي السطور السابقة، قد قدمنا ملاحظات ومايشبه الملاحظات، فلأننا نريد لهذه القصيدة أن تكبر وتزداد رسوخاً وقوة. وماكان في البال أبداً، ولن يكون، مايشير إلى أننا نريد نفي هذا الشكل من الشعر.. لأن النفي في الأدب مرفوض كما قدمت. لكنَّ ما كان في البال، ومازال، يتحدد في دعوة قصيدة النثر إلى الثبات والتماسك والتطور نحو الأفضل باستمرار، من خلال عطاء شعراء يخلصون لها...
طلعت سقيرق
الأسبوع الأدبي العدد 667 تاريخ 10/7/1999
|