[align=justify]
للحظات الغروب في نفسها حكاية لا تعلم لها بداية ولا نهاية، تستمتع بذاك اللون الذي يغطي الأفق وينغمر في قرص الشمس بتدرجات أصبحت ذات حركة في عينيها.. تتخيل معها الشمس وهي تستعد للمساء وكأنها تقول ها أنا أغير ألواني لأسحر ناظريكم وأضفي عليكم هدوءاً وسكينةً لتتذكروني في مسائكم الدافئ وتشتاقوا لرؤيتي كما سأشتاق لكم.. تبدأ الشمس بالغروب وتبدأ قصة صاحبتنا بأحلامها وماضيها ومستقبلها بالانغماس داخل مياه ذاك البحر,, ترجع بذاكرتها للوراء.. ها هي طفلة صغيرة تجلس على رمال بيضاء في فترة الأصيل لتراقب الشمس وهي تغمر نفسها في ماء البحر وتبدأ صاحبتنا بطرح الأسئلة، أين تذهب الشمس وإلى أي عمق تصل وكيف تظهر لنا في اليوم الثاني من وراء قمم الجبال الشاهقة بلون مختلف من يعطيها اللون؟ أهو المساء؟ هل قاع البحر يغير الشمس؟.. ماذا يوجد في قاع البحر ومن يوجد هناك ليضفي لمساته السحرية على الشمس لتعود بلون مختلف في اليوم الثاني.. اعتادت على هذا المشهد وهذا السيناريو.. رمال بيضاء ناعمة لونها يميل إلى الصفرة كالزعفران وقرص شمس مغمور بالأحلام يختفي بلحظات تمر عليها وكأنها عمر.. جلست كطفلة بعقول الكبار لتحلل وتضع مقاييس وموازين للحياة.. كانت تستمع لأحاديث امرأتين كبيرتين في السن كانتا تجلسان خلفها وهما تتهامسان بأشياء لا تفهمها وبمصطلحات لم تعتد سماعها وأخذت تحلل ولكن بلا نتائج.. وقبل أن تصطف في طابور المدرسة بعام تقريباً دائما ما كانت ترى مشهداً يتكرر في التلفاز وما زال سواء بالمسلسلات أو بالبرامج الثقافية وهو مشهد شخص منهمك بالكتابة على صفحات بيضاء وأمامه فنجان من القهوة لونه أبيض يتطاير منه الدخان من سخونة القهوة وفي فم هذا الشخص سيجارة.. وارتبطت هذه العناصر الثلاثة (الكتابة وفنجان القهوة والسيجارة) بذهنها مكونة مركباً واحدا قد كان يشير يومها إلى عالم جميل أو إلى إبداع تريد الوصول إليه.. وارتبط ذهنها بهذه الشفرة ثلاثية الكلمات (كتابه.. فنجان قهوة ..وسيجارة) ولم تستطع فكها بسهولة.. وصارت دائما تتخيل نفسها مكان ذلك الرجل وهي تكتب على صفحات بيضاء وبجانبها فنجان من القهوة وفي فمها سيجارة! كل ما كانت تعيه هو القلم والورق ولكنها لم تكن تعرف السيجارة ولم ترها بحياتها.. عشقت القلم والورق وصارت تبحث عن أي قلم في البيت وتحتفظ به وكذلك الأوراق والدفاتر وكانت أختها التي تكبرها تعلمها الكتابة ورسم الحروف وأدمنت هذا الشيء فما تراها إلا منزوية في أحد أركان البيت وهي تكتب لا تعلم ماذا تكتب ولكنها كانت تكتب شيئا ما، قد لا يفهمه أحد أو كانت كتابتها عبارة عن طلاسم لا أحد يجيد معرفة ما تشير إليه إلا هي والورق والقلم .. اصطحبتها أختها التي تكبرها ذات يوم إلى المدرسة لتقديم أوراقها للتسجيل بالمدرسة وبعد أن اكتملت الإجراءات أخذتها أختها إلى غرفتهم الصفية وهناك أهدتها صديقة أختها قلماً وألواناً ودفتراً ولم تتمالك نفسها من الفرحة حتى إنها نسيت من هم حولها وكالعادة جلست على الأرض تحت أحد الأدراج وأخذت تمارس هوايتها المفضلة الكتابة لم تكن تعرف ماذا كانت تكتب فقط كانت تكتب وتعبر عن أشياء قد لا تخطر على أحد فهي كانت حروزاً وطلاسم غير مفهومه، المهم تبقى كتابه.. ومرت الأيام وهي تكتب ولكن ظل ينقصها فنجان القهوة والسيجارة فلا تنسوا فلقد أصبح الثلاثة شيئا واحداً لديها .. وكانت تتمنى أن يكتمل هذا المثلث الذي ترى له مذاقاً خاصاً في مخيلتها.. لم تستطع الحصول على فنجان القهوة فالفناجين التي يشربون فيها القهوة في بيتهم صغيرة والأكواب كبيرة لم تف بالغرض ولم تستطع إكمال اللوحة.. بعد دخولها إلى المدرسة بعام تقريباً وبينما كانت راجعة من بيت جدتها في وقت الضحى رأت جارهم يمشي أمامها ويا للروعة فقد كانت في يده سيجارة يدخنها كالتي تراها في التلفاز وكانت ولأول مرة في حياتها ترى هذا المشهد على الحقيقة فلم ترى أنسانا حينها ممن هم حولها يدخن سيجارة من قبل لم تعلم ما هي السيجارة ولماذا يضعها الشخص في فمه ولكن لا تنسوا فهي مرتبطة معها بشيء عظيم ألا وهو الكتابة فهي أصبحت تعشق الورقة والقلم.. المهم جارها الطيب رمى بالسيجارة على الأرض وهي ما تزال مشتعلة وأكمل طريقه مبتعداً عنها، لم تشأ أن تكمل طريقها فهي مع موعد لإكمال حلم ممتع ولرسم أحد الأضلاع المهمة للثالوث المقدس في مخيلتها فالسيجارة كانت بالنسبة لها بداية نحو طريق ملوءه الإبداع وتوقفت لمدة دقيقة لتقرر هل تلتقطها أم لا؟ وكان القرار سريعاً خوفاً من مرور أحدهم فلم تكن تعرف إن كانت السيجارة مباحة للجميع أم إنها شيء غير مباح ولكنها كانت شيئاً جديداً.. التقطت السيجارة وأدخلتها في فمها مباشرة وليتها لم تفعل لم تستسغ طعمها الذي ظل عالقاً في فمها إلى اليوم تقريبا وجعلت تدعوا على الجار وتستنكر ما يفعله وكأنه هو من حلف عليها لتتذوقها وركضت بسرعة إلى البيت لتغسل فمها من شدة ما عانت من طعم السيجارة ولم تخبر أحداً بالأمر حينها ولكنها أطلعت أمها على هذا السر بعد تخرجها من الجامعة.. والحمد لله إن السيجارة لم تعجبها وإلا لكانت أدمنت اللحاق بذلك الجار الذي يدخن، لعلها تحظى ببقايا سيجارة يرميها بعد أن يدخنها.. اختل المثلث ولم يصبح مثلثاً متساوي الأضلاع وصارت تفكر كيف يكون الشخص مرتاحاً ويكتب وهو يتذوق مثل هذا الطعم ويشم هذه الرائحة الكريهة التي ثنبعث من السيجارة ولكن الناس فيما تعشق مذاهب.. كُسر أحد أضلاع المثلث وظلت تكتب كل شيء ولأي شيء فالكتابة أصبحت رفيقتها وكانت تحظى بثناء معلماتها على طريقتها في الكتابة وكان هذا الشيء يسعدها كثيراً ولكنها لم تحظ بفنجان القهوة الذي كان في مخيلتها إلا عندما كبرت.. حاولت أن توازن بين الكتابة والقهوة ليكون لديها مثلث خاص بساقين فقط لكن سر الكتابة كان أقوى فحاولت أن تعدل سر الشفرة الثلاثية.. قامت بكسر الروابط التي كانت تجمع بين العناصر الثلاثة والتي كونت مركبها الخاص وعزمت على ذلك وفعلا انحلت الشفرة وذلك لأنها كانت تقرأ كثيراً فوظفت ما قرأت في إيجاد شفرة خاصة لكل ما تشاهد وترى.. بدأ السيناريو يتسع والمشاهد تتعدد ولكن قرص الشمس لا زال بنفس الألوان ونفس الأحاسيس يشرق يومياً وينغمر في قاع ذاك البحر تاركاً علامات استفهام كبيرة في مخيلتها, كبرت طفلتنا وعينيها على الشمس زادت الأحلام وبدأ العمران يتضاعف إلى أن غطى على قرص الشمس فلم تعد ترى قرص الشمس من نفس المكان لذلك كان لابد من التغيير.. تركت تلك البقعة واختارت لها أخرى واختارت زاوية جديدة لترى منها الشمس فلم تعد تلك المنطقة مناسبة.. كبرت الأحلام وتغيرت المفاهيم.. تغيرت ملامحها وطال شعرها وأصبحت أكثر نعومة من قبل.. بدأت بالانهماك بقراءة الكتب وقصاصات الأوراق ولم تتردد يوماً ما بأن تقرأ كل ما يصادفها سواء كان كتاباً أو مجلة أو حتى قصاصة ورق دُفنت في التراب ولم يظهر منها سوى الحواف فكان لابد أن تستخرجها وتقرؤها وإلا فإنها ستحس بأنها فقدت شيئاً ما.. هكذا أدركت أن هناك عالماً آخر في كل جوانب الحياة مختلف عن العالم الذي تعيش فيه لذلك لابد من استكشافه.. ومع انغمار قرص الشمس في الماء ترجع بها الذاكرة قليلاً إلى الوراء .. أطفال يلعبون لكنها آثرت أن تجلس بعيدأ عنهم للمراقبة فقط.. هي لم تكن تهوى مرافقة البنات فالأولاد كانوا هم رفقاء طفولتها هل وجدت فيهم الوفاء أم إنها وجدت فيهم صفات لم تكن موجودة لديها؟ هل عشقت فيهم حب المغامرة التي كانت تنقصها فهي هادئة ولم تكن تتقن فن المغامرة وآثرت الجلوس والتفرج على ما يفعله الأولاد ولم تكن تعشق اللعب العادي والعرائس فأكثر ما عشقته هو الخيال ونسج القصص فخيالها ليس له حدود فمن كلمة تستطيع أن تصنع ألف مشهد في دقائق.. أحبت أن تدخل عالم المغامرة حيث أرادت يوما أن تُخبئ شيئاً عن رفاقها فصعدت إلى سطح المنزل فهو المكان الوحيد الذي لن يتجرأ رفاقها على صعوده لكن الأقدار خذلتها وأسقطتها أرضاً هي وما أرادت أن تخفيه عن رفاقها ومن حينها أغلقت باب المغامرة وأحبت حياة الأنثى فغمرت نفسها بقراءة القصص وقامت بتجميع الصغار ومن هم بعمرها وأخذت تقرأ لهم وتخبرهم عن قصصها وعالمها الخاص.. تجاوب معها الجميع فعكفت تقرأ القصص والكتب وتحكي كل ما تقرؤه فهذا هو ميدان اللعب الحقيقي لديها.. فارق أحد رفاقها الحياة تاركاً لغزاً جديداً وشعوراً لم تعهده من قبل .. الموت؟.. ما معناه وكم هو مؤلم أن تفارق أشخاصاً تراهم كل يوم وتلعب معهم وارتبط هذا الحدث معها بفترة الغروب فقد تناثر الخبر في أجواء القرية وقت الغروب حيث اللون المعهود لكن اليوم امتزجت ألوان الشمس بحزن عميق وشعور لم يسبق لها أن جربته.. وها هي الشمس تُخفي جزءاً آخر منها وتغمره في الماء لتستيقظ صاحبتنا صباحاً برفقة بنت وأخاها كانوا جيران لهم.. وهنا كان الأمر مختلفاً تجربة جديدة تصنعها لنفسها لتفرض أنوثتها وتظهر قوتها في آن واحد.. جميل أن تشعر الفتاه بأنها أنثى قوية.. كانا يلازمانها حتى الغروب وإذا مرضت كانا يجلسان بالقرب منها وتحديداً عند رأسها.. الأخت على يمينها والأخ على يسارها بمنظر لن تنساه وكأنهما يحرسانها من الصباح حتى الغروب وهنا بدأت تعي معنى الصداقة.. فتحت عينيها لترى نفسها بنتٌ يصفها الجميع بأنها ذات جمال وذكاء.. وها هي تخطوا بقدميها إلى عالم الجنون عالم الخيال واللاواقع ..عالم المراهقة ، أصبحت محاطة بفتيات لكل واحدة منهن عالمها الخاص ومدرستها الفريدة حلقت خلفهن بثوب جميل ولبست معهن حذاء سندريلا العجيب ولكن مع هذا لم تنس إن لديها حلم جميل وهو أن تصبح مميزة ليس بثوب جميل وحذاء يطير ولكن بشيء مختلف لا تدركه الفتيات في عمرها.. بدأ الغرور يداخلها فهي الآن جميلة ذكية وأنثى فإلى أين ستصل يا ترى؟ لم تكن تريد أن تبقى على حال واحدة .. أرادت أن تكون كالشمس زاهية عند شروقها وهادئة رقيقة عند الغروب.. أرادت أن تكون في كل شيء وأن تعرف عن كل شيء فأكملت طريق القراءة وهزمت الكثير بلسان فصيح وثقافة واسعة لكن رغم ذلك لم يكن لها ما أرادت فأمواج البحر بدأت تدخل بين ثنايا الغروب وتعكر المنظر.. لكن هيهات فلا مجال للاستسلام فهناك حلم بعيد لابد من الوصول إليه.. وصلت إلى جزء من حلم كبير ودخلت إلى عالم كبير لم تستطع أن تمسك بخيوطه فقد كان عالماً مختلفاً، عالم أرادت أن تنهل منه علماً نافعاً وان تكتسي فيه بحلة مختلفة.. تعلمت الكثير وتعرفت على أشخاص غرسوا في ذاكرتها أجمل الأيام .. شغلت نفسها بالكتابة وبدأ عشقٌ آخر يداهم حياتها ، عالم جميل انزلقت إليه قدماها لتصور من خلاله كل ما تراه في مخيلتها.. أرادت أن يرى الجميع أنها تمتلك مهارة جديدة وحلماً جديداً لوحات ورائحة زيت أخذت تفوح، عشقت الفرشاة بجانب القلم وأبحرت في عالم الرسم والتلوين إلى أن حان موعد الرحيل من نسيج حكاية جميلة استمرت لعدة سنين لتدخل خضم واقع لم تعد له عدة .. وما أن وضعت قدميها في بداية الطريق إلا وهي تفقد أحد رفاق طفولتها.. مات الآخر.. الأخ والأخت اللذان كانا يلازمانها ، مات الأخ وجلست تبكيه كأخ مفقود ولكن غروبه اليوم يختلف عن غروب رفيقها الآخر فهي اليوم تعي ما هو الموت وما هو الفراق فقاموس تجربتها اليوم أصبح أكثر عمقاً.. كانت تعتقد أن الموت هو الغروب الوحيد في حياتنا لكن هي تعلم أن بعد الغروب هناك شروق بثوب أزهى.. أكملت طريقها وسط أشواك كثيرة من هنا وهناك وبقوة وعزم استطاعت أن تزرع بين الشوك ورودا.. نسيت نفسها في ظل عالم يعج بصراعات مجنونه.. جعلت من نفسها جسراً لمن أراد العبور .. لكل من أراد الحياة ولكل من داهمه حزن وألم فهي كانت جسر العبور لهم جميعاً.. أمسكت بأيديهم خوفاً عليهم من السقوط.. بدأت تراقب قرص الشمس من بعيد فلم يبق منه إلا القليل.. كانت تراقب الورود التي زرعتها ونسيت إن للورود شوكا.. وأثناء العبور كان هناك غروب تلو الغروب لأجمل ورود في حياتها ولكنها آثرت البقاء والاهتمام بالورود المتبقية وها هي ترفع ناظريها تجاه الشمس لترى غيوم سوداء قد غطت ما تبقى من قرص الشمس فهل ستختفي الشمس أم ستزول الغيوم؟؟ ليس للشمس حرارة عند الغروب لتذيب الغيوم لكنها تمتلك لوناً يذيب القلوب ويضفي خشوعاً وسكينة على النفس أجبر الغيوم على التلاشي خجلاً من كل هذا.. تلاشت الغيوم لكنها لم تكن تعلم أن تلاشي الغيوم سيصاحبه ذبول للورود. ذبلت الورود واختفت رائحتها وبان شوكها.. فلمن تعيش اليوم ومن سيأخذ بيدها بعد أن عبرها الجميع وبقيت وحيدة، وها هو آخر جزء من الشمس ينغمر في الماء وهنا أخذت تفاضل بين حديقة ورود أصبحت شوكاً وبين غروبٍ دافئ يأخذها إلى عمق بعيد.. فهل تعود وتشرق من جديد وتدمي يديها بوخز الشوك لعل دمها يعيد لون الورود وهل سيكون ثوبها الجديد زاهياَ مشرقاً كثوب الشمس عند الشروق أم تختار لها مكاناً حانياً دافئاً بين ثنايا الغروب؟[/align]