رد: أقلام الطريق
القلم الثالث
الكل حاضر اليوم ....إنها جنازة أبي.... بدت لي الشقة لأول مرة كبيرة. ما ظننت أن تستقبل هذا العدد الكبير من الناس. الكل حاضر هنا: أعمامي...عماتي...شقيقات أمي ...أقربائي، حتى البعيد منهم، أصدقائي...الجيران... الكل حاضر اليوم."الجميع يحبه" . كم كانت أمي ترددها! ارتاح أخيرا... كلّ من الدنيا...رغب في الرحيل منذ زمن بعيد. أحسست بحضور الجميع هنا...حرارة كلماتهم، وحرارة أيديهم. و في كل مرة أبحث عنه بين الناس، وأهّم بطرح سؤال: "هل رأيت أبي؟" ثم أتراجع في آخر لحظة. وحده غير حاضر اليوم.
الضحكات موزعة على الوجوه، باستثناء عماتي التي ارتسمت حرقة الفراق على وجوههن. تجمع الكل حوليّ عندما انكسر فنجان القهوة في يدي. الحمد لله لم أحترق ... كانت باردة، لكن الدم لم يتوقف عن النزيف كالعادة. توزعت الضحكات على الموجودين، ووزعت فناجين القهوة. وأحسستني وحيدا بين الجميع. وهذا الدم الذي لا يريد أن يتوقف... لم ينفع معه شيء. ولا من قريب سألني : "هل توفق النزيف؟" كان أبي ليسألني كل دقيقة: هل توقف؟ هل توقف؟ حتى أمّل. وضعت النادلة فنجان قهوة أمامي، ونظرت إلى وجهي، ثم اقتربت قليلا: "وجهك بلون جدار الغرفة. عجبا... ألم يتوقف الدم عن النزيف بعد!!" . ذهبت إلى المطبخ...تركت الضحكات والضجيج ورائي، وطاردتني وحدتي القاتلة. كان أبي ليبحث عني، وليجلس بجانبي، وليضحك في وجهي، ويفحص جرحي، وليكون معي عندما أحتاجه. كل هذا الحضور، وما من أحد معي اليوم. كان أبي معي دائما. كان يحس بي. لا أستطيع أن أمكث أكثر في هذه الشقة. ضغط الحضور الغائب يقتلني. سأخرج من ا لباب الخلفي. قبل ذلك سأكتب كلمة لعماتي كي لا يقلقن علي: "عمتي خديجة خرجت ". "أنا متأكدة أنه هناك." ماذا يكتب هذا القلم؟ "عمتي سأتنفس بعض الهواء النقي".... "أنا متأكدة أنه هناك." ماذا يكتب هذا القلم! ...هذا ليس قلمي...لن أشتري أبدا قلما أصفر. أكره اللون الأصفر. ما ذا يكتب هذا القلم المعوج....؟؟؟
|