( تابع )
بيد أن ترنيمتي خفت وأنا أقترب رويدا رويدا من المنزل المهيب ، حتى صارت همسا . وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي إزاء السور العظيم ، ووراءه بدت لي البناية وقد زادها نور القمر رهـبة وجلالا . وكان باستــطاعتي الالتــفاف حول السور من الجهة الخلفـــية
والدخول من البوابة الموغلة في الغابة المجاورة . لكني فضلت تسلق السور ربحا للوقت وتجنبا للقاء أي مخلوق يمر عبر الغابة في طريق عودته إلى القرية ، مما قد يفسد علي مغامرتي ويحبط خطتي ، وبالتالي يبعدني عن الهدف منها .
هاأنذا أنظر حولي من أعلى الجدار ، فلا أرى سوى المنزل وظله ، ثم الأعشاب هنا وهناك وقد اكتسى نصفها سوادا والنصف الآخر بياضا . أعجبني المنظر وأخذت في النزول بحذر شديد . أحس بالاطمئنان . فالبداية حسنة والأمور تسير على ما يرام ، فلأ فكر في الخطــوة التالية ... دنوت من الباب وتفحصته بنظرة شاملة . كان موصودا بقفل ضخم لا سبيل لفتحه إلا بتكسيره بسبب ما علاه من الصدإ . شملتــني رعدة وأنا أتخيل ما سيحدثه كسر القفــل من دوي في هذا الليل الهادئ . لكن ما العمل والنوافــذ كلها مسيجة بشبابيك متينة . أخــذت الملقط الذي بدا لي تافها أمام ضخامة القفل الذي أخذت أحركه يمينا وشمالا ، فلم أشعر إلا والسلسلة التي تشد حلقتي الباب تسقط عند قدمي محدثة رنينا مزعجا ، مما جعلني أغفل عن الــقفل وهو يـهوي ويرتـطم على أسفل الباب الحديدي . ارتج المكان بدوي القــفل ولم أدر ما حدث مـن حولي . تعالى النعيق وحفيف أجنحة منبعثة من الباب الذي فتح تلقائيا على مصراعيه محدثا صريرا رهيبا ردده الصدى من الداخل . خيل إلي أن أرواحا تنبعث منه فكدت يغمى علي ، وخانتني ركبتاي فأسندت ظهري إلى الحائط وقد زادت دقات قلبي عنفا ، واضطربت أنفاسي ... هل أتخلى عن كل شيء وأروم السلامة ؟ .. جلست القرفصاء وفكرت مليا ... هل أدخل ؟.. يجب ذلك ما دمت لم أعد أدراجي فورا .
أمسكت بالمصباح وتقدمت على أطراف أصابعي متوقعا في كل لحظة مفاجأة ، وسلطت ضوء الكشاف في كل الاتجاهات ، فبدت لـــي سلالم تصعد إلى أعلى وأخرى تغوص في هوة دامسة . وخيل إلي أني أسمع صوتا أشبه بلحن أو ترنيمة ، فاقشعر بدني وبدأت أشعر بخوف حقيقي . لكن وصايا والدي وكلمات مدرسي ثم تحدي بنت القائد لي ، كل ذلك لم يدع لي مجالا للتردد .
تقدمت نازلا السلالم و أنا أتمتم بآيات قرآنية حفظتها عن ظهر قلب ، وما لبثت أن وجدت نفسي في قاعة فسيحة الأرجاء مجهزة بأثاث رفيع ، من سجاد وأرائك وصوان ، ومزينة جدرانها بلوحات زيتـــية رائعة تمثل بعضها معــارك طاحنة و أخرى مناظر طبيعية خلابة . وفــي أقصى القاعة باب واسع يفضي إلى حديقة غناء كثيفة الأشجار، فولجتها وقد زادها ضوء القمر روعة والسكون مهابة .
وفجأة تناهى إلى مسامعي وقع خطوات من داخل القاعــة . التفتت مذعورا لأبصر ظلا يمرق عبر الحائط ويختــفي . وقف شعر رأسي واضطربت يدي ، فوقع المصباح على الأرض وتكسر . اشتد هلعي من وجود مخلوقات غيري تتربص بي ، لكن ضوء القمر جعلني أرى جليا ما حولي ، وأرهفت أذني وأنا أنزوي وراء جذع شجرة كبيرة . وما هي إلا هنيهة حتى تعالـت الترنيمة من جديد . كم هــي شجية تلك النبرات وكم هــو حزين ذاك الصوت الذي ملك حواسي وأسال دمعي . تبــدد خوفي للحظات ثم انتبهت لنفسي وللخطر الذي يحــدق بي في هذا المكان المجهول ، فدنوت من إحدى النوافذ التي انبعث منها بصيص من النور ، واشرأب عنقي فوقع بصري على شيخ هرم يجلس القرفصاء وقــد ابيض شعر رأسه وطال كما طالت لحيته . كان يرتل القرآن بصوت عذب أنساني ما جئت من أجله . ثم أفقت من سهوي وفكرت في ما يجــب فعله ، فما راعني إلا والشيخ يرفع رأسه وينظر نحوي قاطعا ترتيلــه . جمد الــدم في عروقي وولـيت على أعقابي أروم الفـرار، لكــن قدمي تسمرتا على الأرض وأنا أسمع نداء الشيخ يشق سكون الليل :
- تعال يا بني... أقبل ولا تخف .
صعقت في مكاني ولم أحر جوابا ، فأعاد النداء :
- لا تخش شيئا… هيا ، كن شجاعا ، فـلست مؤذيك .
هدأ روعي قليلا وأخذ خوفي يتبدد شيئا فشيئا ، فدخلت القاعة من جديد وأنا أقدم رجلا وأؤخر رجلا أخرى . و كأني أكتشف الحجــرة لأول مرة ، فأخذت بروعتها ونقائها ، وقلت متلعثما :
- السلام عليكم و رحمة الله .
- وعليكم السلام ورحمة الله … أهلا بضيفي العزيز . اجلس … ألا تزال خائفا ؟
لم أرد ، فقد كان ذهني مضطربا ، لكن العجوز تابع حديثه :
- قل لي … لم انتظرت كل هذا الوقت لتزورني ؟
نظرت إليه بدهشة وعادت إلى نفسي هواجسها . من يكون هذا الشيخ ؟ ساحرا أم جنيا ؟ … لكنه يقــرأ القرآن ، وقد رد التحية ، فلــم الخوف إذن ؟ ولا حظ هو حيرتي فتبسم قائلا :
- لم أكن أظنك تخاف إلى هذا الحد .
- عفوا… لقد قلت منذ قليل إنك كنت تنتظرني … لكني لا أعرفك .
- أنا أعرفك جيدا ، وكنت أحسبك شجاعا مثل جدك .
- جدي ؟ - صحت وأنا أحملق فيه مشدوها – هل … ؟
- نعم – قاطعني بهدوء – كان - رحمه الله - نعم الرجل .
لم يكمل حديثه، فقد تهدج صوته واغرورقت عيناه بالدموع ، ونظر إلي حزينا فزادت دهشتي وعظم عجبي ، وغلب فضولي على خوفي فدنوت منه متسائلا :
- كيف ومتى عرفته ؟ ومن جاء بك إلى هنا ؟
- تلك قصة طويلة سأحكيها لك ... لكن قل لي ... لم تأخرت في المجيء ؟
- لم تسعفني الظروف ... ثم إن والدي كانا يعارضان ذلك .
- حسنا فعلت بطاعتك لهما... لكن كيف سمحا لك أخيرا ؟
أطرقت خجلا من إطرائه وكذلك من تلميحه الأخير وقلت :
- لم أستطع مغالبة شعور يدفعني للمجيء .
- كنت متيقنا من ذلك ... هذا ما كان يوده جدك .
- لكنك لم تقل لي لحد الآن كيف عرفته .
تنحنح قليلا ثم نهض متثاقلا وهو يقول :
- لقد اقترب الفجر.. هيا اذهب وتوضأ لنصلي ، ثم نجلس في الحديقة ، فالجو ليس باردا.. أليس كذلك ؟
- بلى – أجبت وفكري شارد – الجو جميل .
كم كان شوقي عظيما لسماع الحكاية . غير أني كنت متلهفا أكثر للحديث هن جدي . فقد مر وقت طويل لم أذكره إلا لماما ، وجاء هذا الشيخ الغريب ليضاعف حبي له وحنيني لكلماته ومزاحه معي . وتبين لي أني لم أنسه قط ، بل على العكس ، كان دائم الحضور في فكــــري
ووجداني . وإذا كنت لا أكثر من ذكره ، فلخجلي من دموعي التي كانت تسبقني . أما الآن فقد انهالت ذكرياتي معه دفعة واحدة تعيدني إلى كل لحظة رافقته فيها ، وتسمعني كل كلمة أو نصيحة بل كل عتاب رقيق على هفوة صدرت مني .
حين انتهينا من الصلاة ، افترشنا سجادا عند جذع الشجرة وقد ساد السكون إلا من أصوات الصراصير وحفيف أوراق الشجر المنتصب حول المنزل . وتركني الشيخ لحظات لوحدي قبل أن يعود بصينية مربعة الشكل ، عليها إبريق صغير أزرق مسود القعر وكأسين مزخرفين ، وجلس قبالتي وهو لا يزال يهمهم بالتسبيح والحوقلة .
- هي عادتي كل صباح ... الشاي منافعه لا تحصى .
- جدي كان مثلك...
كنت أتحين فرصة استدراجه للحديث عن جدي . وكأنه أدرك ذلك فابتسم وهو يفرك يديه وقد فاحت رائحة النعناع الممزوجة بأريج العنبر الذي يملأ الحديقة وقال :
- أراك متلهفا لما سأقصه عليك... لا بأس..
وارتشف الشاي ثم تابع قائلا :
- اعلم أني وجدك رحمه الله ننتمي إلى قبيلة واحدة ، هي بني ورياغل في الريف . كنا لا نفترق في صبانا حتى بلغنا الشباب ونحن رفيقان في القسم وفي الطريق . وقد شهد لنا معلمونا بالنجابة والجدية ... لكن...
تطلعت إليه بلهفة أستحثه على متابعة حديثه ، فأخذ رشفة ثانية من الشاي وأردف قائلا : - ذق الشاي... لن تجد لذة مثله في العالم... ماذا كنت أقول ؟ ... إيه... جاءت الحرب ليتوقف كل شيء . دمرت المدارس والمنازل وتشرد أهل القرى فلجأنا إلى أجدير .
- أجدير ؟
- نعم ، كانت مقر زعيم المقاومة الخطابي العظيم ... كم اشتد حماسنا لما رأيناه من إقدام وشجاعة أهل الريف .. رأينا كيف توافد المتطوعون من تفرسيت و مسطاسة وبني انصار ، فلم نملك إلا أن ننضم إلى المقاومين ونحن لا زلنا يافعين ... اشرب الشاي يا بني... اشرب .
رشفت بدوري رشفتين ألهبتا شفتي دون أن أحيد بصري عن الرجل ، منصتا في شغف ... حدثني عن بطولات جدي وشهامته وروى لي كيف اقتحم معسكرا العدو دون أن يؤذي امرأة كانت تولول عند رأس زوجها الجريح ، أو يجهز على هذا الأخير . ثم ذكر لي الانتصار العظيـــم في أنوال ومساهمته هو وجدي في صنعه .
- و ماذا كان من شأن الجريح وزوجته ؟- سألته مبهورا بأخبار البطولات .
- تم أسره ، ثم افتداؤه ... لكنه لم ينس صنيع جدك ، وسترى أنه سيعمل جاهدا على رد الجميل .
- حقا ؟... كيف ذلك ؟
كنت مصغيا إليه بكل جوارحي ، بينما عيناي تتفحصان اللوحة الزيتية التي تمثل حربا ضروسا ، حتي خيل إلي أني أسمع سنابك الخـــيل وصهيلها ، وطلقات البنادق ، وصيحات المقاتلين تنبعث من الغبار الممزوج برائحة البارود ، هناك في أعالي الريف .
- أراك ساهما ... هل أعجبتك الحكاية؟... تلك كانت أنوال ، وهناك امتزج دمي بدم جدك فزادت عرى الصداقة توطيدا بيننا... لقد جرحنا ، لكن جرحي كان أشد عمقا ، وكان ذلك إيذانا بافتراقنا .
- كيف ؟ - لم يحصل الفراق توا – استطرد الشيخ بعد أن تنهد – ولكني كنت أشعر بدنوه ، لأن جدك رحمه الله استهوته الحرب ورائحتها ... وإذا كان قد ركن للهدوء بعد الواقعة ، فإنما كان ذلك استراحة المحارب . فقد ظل على اتصال بذلك الجندي الذي جرح وأسر ، وبعد افتدائه ترقى وصـــــار ضابطا ساميا بتطوان . وكان يزوره هناك ويعود محملا بالهدايا الثمينة فيوزعها على الفقراء من بلدتنا ، ويخصني بالنصيب الأوفر ويقول لي دائما : " يعز علي فراقك ، لكني مضطر لذلك . سوف أخوض معمعة أخرى .". كان ذلك بعد أربعة عشر سنة من أنوال . فسألته :" حرب جديدة ؟... الله يلطف ... أين ؟ .".. فأجابني مهدئا :" اطمئن... سوف تقع خارج البلاد ، هناك في إسبانيا ... لقد عزم الزعيم – وكان يدعى " فرانكو" - على محاربة بعض الأعداء من أبناء جلدته ، وأخذ في جمع المتطوعين من شمال بلادنا .
قاطعت الشيخ قائلا :
- وهل نشبت الحرب ؟
- نعم... بعد سنة واحدة من حديثنا .
- وكيف لم تلحق به ؟
تنهد مرة أخرى وقال :
- لقد ترك جرحي عاهة في قدمي ... ألم تلاحظ أني أعرج ؟
لم ألاحظ ذلك ، وسألته :
- وهل سافر جدي إلى إسبانيا ؟ - نعم... سافر مع مجموعة من الرجال ، ونشبت الحرب... لا يغرنك البطولات و الانتصارات ، فالحرب أسوء ما يلجأ إليه ... لقد مات معظم من سافر. أما الذين عادوا فهم إما مبتورو الأرجل أو مفقوؤو الأعين... ناهيك عن اليتامى والأرامل من أهل الريف .
- و أنوال... أكانت حربا سيئة ؟... لماذا خضتموها إذن ؟
- حين تكون الحرب من أجل الدين والوطن ، فتلك حرب مقدسة يجب خوضها .
- وحرب إسبانيا ؟
- كان على جدك ، مثله مثل الآخرين ، خوضها طائعا أو مكرها... إيه.. تلك الأيام... كانت حلوة رغم قساوتها . سكت قليلا ليصب الشاي وهو يرفع الإبريق إلى أعلى لتتكون رغوة في الكأس ، ثم أضاف قائلا :
- عاد جدك بعد ثلاث سنوات قضاها في الحرب ، واستقر في الأندلس بعض الوقت ... كان الضابط و زوجته متعلقين به وعرضا عليه الإقامة في " نيرخا " على الساحل ، لكنه أبى وفضل العودة ، فأعطاه الرجل وثائق وكتب وهدايا لا تحصى .
- وثائق وكتب ؟
- أراك مثـله ، تفضل الأدب على المال .. أما الوثائق فكانت تثبت ملكية بعض العقارات ..
دق قلبي بعنف وسألته :
- مثل ماذا ؟
- يا لك من ذكي – قال مبتسما – انظر ما حولك . لم أنظر ما حولي ، بل شرد ذهني لعيدا وعادت بي الذكريات إلى حديث جدي.." سيكون من حقك ولوج هذه الدار." ثم رنوت إلى الشيخ مغرورق العينين وقلت بصوت متهدج :
- وكيف لم يقم فيه وهو مالكه ؟
تنهد العجوز وقال: - بعد أن حط الرحال بتطوان ، أودع كل حوائجه عند رجل بباب العقلة ، واحتفظ ببعض الهدايا للمنزل مثل اللوحات و السجائد ... كان يوما مشهودا.. رقصت وأنا لا أشعر بعاهتي هذه . و أقمت معه هنا .. إلى أن جاء اليوم الذي نغص علينا فيه صفونا أحد الأعيان ليدعـي أن المنزل في ملكه ، وقدم بعض الوثائق المزورة طبعا ، فتطور الموقف إلى المحاكم وطلب من جدك الإدلاء بما يثبت أحقيته في البيت .
توقف الرجل ليرتشف الشاي من جديد ثم استطرد قائلا :
- ذهب إلى تطوان وبحث عن الشيخ الذي ائتمنه على حوائجه فلم يجده .. قيل له إنه بدل مقر عمله واستقر بحي " المطامار".. وهنـــــاك أخبروه أنه مقيم بـ" فندق النجار". وهكذا طاف بأحياء المدينة العتيقة دون أن يجد للرجل أثرا .. لكن شخصا أخبره أنه ربما يكون قـــــــد رحل من المدينة ليقيم عند أهله ببني سلمان قرب قنطرة مشهورة هناك .
- وهل ذهب جدي إلى هناك ؟
- كان عازما على الذهاب لولا أنه فوجئ بالحكم يصدر لصالح منافسه ، فثارت ثائرته ونعت الرجل بالغش والظلم ، وعير الإسباني المؤيد له بـ" بورقعة" ، وهو لقب كان يلازم الإسبان بسبب فقرهم ، وأدى ذلك إلى سجن جدك في " باب تازة".
- جدي... سجن ؟
- نعم – أجاب متنهدا – لقد سجن ، لكن لبضعة أيام فقط . فقد كان معروفا عند الجميع بشهامته ومروءته . ثم إن بطولته في حرب الريف جلبت تعاطفا كبيرا من الناس ، ومنهم بعض رجال السلطة ... فأفرج عنه .
- وعاد للبحث عن الوثائق ؟
- نعم.. حاول البحث من البداية ، لكنه توقف وعاد بخفي حنين . فقد أخبره نجار بباب العقلة أن صاحب ودائع جدك قد مات في قبيلته هناك عند القنطرة.. فعاد يجر أذيال الخيبة ، وكله حسرة على سوء الطالع الذي يلازمه.. ثم أخبرني أنه نفض يده من البيت ، وأنه صرف النظر تماما عن الإقامة فيه . لكني شعرت أنه لم يكن يعني ما يقول ، وأنه كان يتحين الفرص للسيطرة عليه .
- و إذن ، لماذا بقي المنزل مهجورا ؟ وأنت .. كيف استطعت الإقامة فيه ؟
نظر العجوز إلى الأفق المتورد وقال :
- بدأ النهار يطلع .. عليك بالذهاب حتى لا يقلق عليك أهلك .
- لكنك لم تجبني عن سؤالي الأخير . - حسنا... بعد إعراض جدك عن البيت ، قررت الإقامة فيه وتحدي كل من تسول له نفسه منعي من ذلك .. وعزمت على صد كل من يفكر في اقتحامه دون أن أدري كيف . وشاءت الأقدار أن تسدي لي خدمة لم أكن أحلم بها . فقد بني البيت بطريقة خاصة لإرهاب كل فضولي يتجرأ على ولوجه . منها سراديب تحدث أصواتا كنعيق البوم ، ودواليب يبعث صريرها الهلع في النفوس . أما خارج البيت ، فقد نصبت فزاعات متقنة الصنع حتى يخالها الناظر إليها أشباحا حقيقية .
- وجدي ؟
- جدك ؟ .. بقينا على اتصال بعد أن حسب الناس أني هاجرت إلى الريف ... وفي أحد الأيام ، كنت على موعد معه ، لكنه لم يأت . وسوف لن يأتي في سائر الأيام الأخرى...
سكت الرجل ، وسكتت أنا أيضا . كلانا عادت به الذكرى الحزينة إلى يوم الرحيل . كنت أغالب دموعي ، وأعلم أن الشيخ يفعل الشيء نفسه . وطال الصمت ولم تعد لي رغبة في الكلام . لكن فضولي لمعرفة بعض الأشياء جعلتني أسأل من جديد :
- إذن لم يعد ثمة أمل في استرداد البيت . - لا أدري.. فأصحابه- أعني الذين اغتصبوه من جدك – رحلوا دون أن يظهر لهم أثر . ربما لأنهم اختلفوا أيضا حول ملكيته ، وهذه عاقبة كل ظالم ، فأعرضوا عنه . اسمع.. قد يكون الرجل الذي احتفظ بوثائق جدك قد أودعها في مكان ما .. هناك عند القنطرة . اذهب وابحث علك تجدها أو على الأقل تجد من يدلك عليها .
- كيف أبحث عنها ونحن على أهبة الرحيل ؟ .. وعن أي قنطرة تتحدث ؟- قلت واليأس يملأ قلبي . - لن تعدم وسيلة للوصول إليها . لا أريدك أن تيأس . فما ضاع حق من ورائه طالب .. ثم ، انظر.. هذه الكتب التي تملأ الرفوف مليئة بالأسرار، والكثير منها يتحدث عن تلك المنطقة .. نقب عن كل شاذة و فذة ، ولا شك أنك ستظفر بكنز..
- كنز...- قلت بسخرية دون وعي مني وأنا أتثاءب .
- لا يجمل بك الاستهزاء بمحدثك .
احمر وجهي خجلا وقلت مطرقا:
- معذرة... لم أقصد ذلك .
فنهض الشيخ وهو يمسح رأسي براحة يده وقال :
- افعل ما نصحتك به.. واسترح قليلا ، ثم عد إلى أهلك . أما أنا فقد عملت ما علي .. اللهم فاشهد .
- إلى أين ؟
- إلى حيث يجب أن نذهب كلنا ..
- ألن نلتقي ؟
- هذا رهين بمشيئة الله .. كل ما أرجوه منك هو ألا تنسى عمك الفاضل ، و أن تدعو له ولجدك في كل صلواتك .
- أعدك .
- نم الآن ثم عد إلى أهلك في حفظ الله ورعايته .
|