طلعت يا صديقي الغالي..
داخلت بحروفك العزف البديع على أوتار أعصاب تربة الوطن، ذرات هذه التربة التي منها وفيها أعصابنا وبصمات جيناتنا وسلسال ميراث طويل لا ينتهي بيننا وبين الآباء والأجداد.
لله درك ما أروعك وما أصدق ترجمتك
حين أتحدث عن معنى الوطن في كريات دمي ونبض عروقي أشعر بخشوع أمام تلك القوة الدفينة الجاذبة وهذا الرباط الوثيق الذي لا تستطيع قوة على وجه الأرض الوقوف بوجهه وكأني قطعة ضئيلة من المعدن الممغنط تجذبني قوة معدنية هائلة للانصهار فيها - معدني تراب وجبال ووديان وأشجار – لم تطأها أقدامي وذاكرتي الشخصية الأمامية لكن كل خلايا دمي تعرفها وكل جيناتي تذكرها وحتى شحنات روحي تحفظها حتى تكاد تشي لي بأدق تفاصيلها حتى أكاد أسمع وأرى كل الذاكرة المخزونة عبر آلاف السنين المحفوظة في جيناتي وأشم وقع خطوات أبي وكل قطرة عرق سالت من جباه أجدادي واختلطت بالتربة الأم الحبيبة....
نعم يا صديقي
الوطن الذي من تربته نحن لا نتعرف عليه بالإقامة ولا نرتبط بالتعود أويوميات الحياة التي نعيشها حاضراً.. ذاكرة الوطن فينا أطول من أعمارنا وأعمق بما لا يقاس وبوصلتنا هي تربته التي تشدنا إليها وتنادينا فتسمع كل خلية فينا ندائها وتصلنا ذبذباته فتترجمها عقولنا بهذا الحنين القاتل والشوق الموجع...
الوطن يسكن فينا، في هذا الجلد واللحم المكون من تربته وفي خلايا الدم..
أذكر ذات يوم احتد النقاش بيني وبين صهيونية كانت تجادلني حول حقهم في فلسطين وساميتهم المزعومة التي يمارسون البلطجة على العالم تحت لوائها دون أن يحملوا شيئاً من ملامحها ، وكأنها مجرد قالب فارغ يعبئون فيه زيفهم أو قارب يمتطونه فوق بحورأكاذيبهم!
قلت لها فيما قلت: " لو كان لكم جذور في فلسطيننا ما استطعتم أن تحرقوا شجرة نمت من تربة أجدادكم وامتدت فروعها من سماد أجسادهم، لو فتح قبر فلسطيني على أرضه بعد فناء جسده لن يجد أي مختبر فرق بالتربة بين ماكان جسده وما حوله من تراب أما لو فتحت قبر صهيوني غربي تستطيعين دون اي مختبر تمييز التراب الذي كان جسده وبالعين المجردة وبشكل واضح صارخ يميزه حتى الطفل الصغير بالشكل واللون والرائحة.."
هذه بوصلة الوطن التي لا تقبل التزييف ولا تتستر عليه..
آه يابن عمتي من وجع الحنين..
حين أحمل أبي وجدي في نظرة عيني وفي رعشة يدي وفي طباعي وملامحي وفصيلة دمي كيف لا أحمل ذاكرة الوطن ودروبه في كلّ خلية ورثتها كما ورثت عنهم ملامحي ؟!..
إنها الصور المطبوعة في بصمة جيناتنا والحب الذي يصدر عن كل خلية من خلايا أجسادنا والشوق الذي يستعر في كلّ كريات دمنا الفلسطيني.
الوطن هو بصمة أرواحنا وملامحنا..
إنه حنين وتعلق الأغصان بأشجارها وجذوعها وتربتها في سلسال لا ينقطع أبداً..
ما الذي يجعل الشهيد يهب حياته من أجل الوطن؟ ما الذي دفع فتاة كدلال المغربي، ولدت وعاشت في لبنان أن تسعى للتضحية والشهادة على أرض لم تولد على ثراها فتشدها يافا بذلك الشوق المحموم فتخشع للنداء وتهب دماءها؟؟! إنه ارتباط الفرع بالأصل الذي لا يزعزعه شيء ولا يقف بوجهه
منذ سنوات وصلتني أغلى هدية تلقيتها كما تعلم ( كمشة من تراب حيفا) جمعها لي مايكل وهو شاب من الناصرة كما أوصيته حينها، كمشة من شارع ستانتون الخطيب أخذها أولا ثم ضم إليها من كل أجزاء حيفا المزيد من سفحها إلى شاطئها..
منذ أن وصلتني التربة الغالية ووضعتها في إناء كروي زجاجي وقد خبرت ما تفعله التربة الأصلية بما لا يمكن لإنسان عادي أن يصدقه!
كلما مرغت وجهي بين ذراتها وتخللت مسام وجهي وأصابعي أشعر بما يصيب النبتة حين تربّ وتنتعش من ذبول يصيبها حين تعيدها إلى تربتها الأصلية، وحالي مع هذا التراب الغالي أستطيع أن أكتب فيه صفحات ....
نعم يا صديقي إنها بوصلة الحنين الفلسطيني وإنه النداء...
هدى نورالدين الخطيب
مونتريال في 19 شباط / فبراير 2009
[/align]