دخل الفن التشكيلي الفلسطيني منذ بداية التسعينات مرحلة جديدة شهد فيها تطورا على مستوى المضمون أولا، من حيث تنوع المضامين و المواضيع التي يطرحها و من حيث إختفاء المباشَرة في طرح ما هو سياسي في العمل الفني، و ثانيا على مستوى الأدوات. طور الفن الفلسطيني مختلف الوسائل التعبيرية المرئية، فاستخدم إلى جانب النحت و الرسم و التصوير أدوات معاصرة مثل فن الفيديو Video Art و فن الأداءPerformance بالإظافة إلى فن الإنشاء Installation.
يحتلّ المكان، بوصفه ذاكرة تنطلق من المكان المؤقت و الآني و القاسي، مخيم اللجوء، لتسافر عبر اللوحة و الحلم إلى المكان الأم و الأول، حيزا خاصا في أعمال التشكيليين الفلسطينيين، و بشكل خاص في أعمال الفنان أسد عزّي [مواليد شفا عمرو 1955] و التي تعالج المكان ببعديه التاريخي و المعاصر. فمن خلال الرموز التي تتضمنها لوحاته، خرائط بناء البيوت القديمة و الصور و الوثائق، يستحضر عزّي من الذاكرة المكان و الشخوص و الحياة التي كانت في المدينة الفلسطينية، يافا. تظهر يافا القديمة في لوحته "راحة المقاتل" [شكل 5]، ببيوتها القديمة و بمئذنتها العالية، في حين يظهر الفلاح الآتي على ظهر حمار في أعلى اللوحة، الفلاح هو الشخصية التي مثلت بطل أعمال أسد عزّي، في إشارة من الفنان إلى المخلّص المُنتَظر. يظهر ختم بالعبرية على التمثيل المعماري و التراثي للمدينة، في دلالة على السيطرة و إخضاع المدينة و هويتها للحكم الإسرائيلي.
الفلسطينيون في إسرائيل يعانون ليس فقط التهجير من قراهم الأولى فحسب، بل ايضا من محاولات تهجيرهم من هويتهم الفلسطينية، فهم الشاهدون الحقيقيون على " أسرلة " المكان الفلسطيني و بالتالي محاولة أسرلة الإنسان الفلسطيني. المكان يشكل جزءا من الذات التي تعالج تشكيليا علاقتها مع المكان الجديد الخاضع، لكنها تنطلق من ذاكرتها من مكان قديم مازال يصرّ على الحضور بهوية مغايرة لما هو مفروض صهيونيا.
تمثل سلسلة أعمال مصوّرة بعنوان "مشوشة"للفنان حنّا فرح [مواليد الجش 1960] هوية اللجوء الفلسطيني، الفردي و الجماعي، من خلال تثبيت الزمن، التاريخ و الحاضر الفلسطيني، في صورة التقطها الفنان لنفسه واقفا، مطأطئ الرأس يداه مثبتتان على جانبي جسده، تحت عقدة بين جده في قرية كفر برعم التي هُجر منها سكانها عام 1948، [شكل 6]. وقّع الفنان على أعماله باسمه ملحقا ب "قرية برعم"، كتأكيد على عنصريْ المؤقت و الإقتلاع في هوية اللاجئ الفلسطيني الذي يعيش مؤقتا في مكان آخر، و يتوق إلى العودة إلى الأرض التي هُجّر منها.14 تبدو عقدة البيت كتاج فوق رأس الفنان، لكنه يبدو تاج يثقل الإنسان الفلسطيني، الذي يبقى "مشوشا" كما يحمل إسم العمل، نتيجة للسيرورة غير الطبيعية للتاريخ، حنا فرح يحدّق في المهجر الذي يأتي بعد المنفى، و هو لا يتصالح مع التاريخ، لا يتصالح مع هذا المنفى. يؤكد حنا فرح على تلك المعاني و الدلالات في الهوية الذاتية و الجماعية للتهجير الفلسطيني من خلال صورة أخرى يظهر فيها جسد عاري يحمل في يديه المتواجدتيْن في الصورة ككفيّ ميزان شعر رأس، [شكل 7 ]، في إحدى يديه شعر أسود، و في الأخرى شعر أبيض. مرة أخرى هناك إيحاء من ضعف الجسد و عريه لما يحمله هذا الجسد بشكل معادل من تاريخ و حاضر لا ينفصلان بل يصرّان على التداخل و الإختلاط، التاريخ الفلسطيني يقف عند عام 1948، و يبقى هذا التاريخ محدّقا في حاضر الإنسان الفلسطيني، كما الشعر الذي يشيب لكنه يبقى بعد الموت. ركزت سلسلة الأعمال تلك على تمحور هوية اللاجئ الفلسطيني حول الذاكرة الجمعية، التي لا تنفك أن تحيا، و لا تنفك تُثقل الإنسان الفلسطيني بمأساتها المتكررة و حضورها المستمر.
يعتبر الفنان إبراهيم النوباني [مواليد عكا 1961] حالة تشكيلية مثيرة للجدل داخل الوسط الفني في الكيان الصهيوني و تشكل تحديا للمنظومة الإستعمارية التي يمثلها هذا الكيان. أقام أبوه في مدينة حيفا و بعد النكبة لجأ إلى عكا و استقر فيها، أما أمه فقد هُجرت و عائلتها من قرية الكويكات التي يقوم على أنقاضها اليوم " كيبوتس بيت هعيمق". عبرت أعمال النوباني على مدار مسيرته التشكيلية عن قضايا الهوية الفلسطينية و عنصرية الكيان الصهيوني و معاناة الشعب الفلسطيني على يد الإحتلال بدءا بالتهجير و مرورا بالنكسة و انتهاءا بالانتفاضتين. دخلت الأحداث المأساوية بدخانها و دمويتها المجال الهندسي الذي يقيمه النوباني على لوحات ذات حجم كبير، تعج برموز عربية و فلسطينية كالمزهرية و أوراق النبات و الشجر و القش المجدول و العين، في تأكيد على عروبة و فلسطينية المكان و الانسان. يحتلّ البيت، كاستعارة للوطن المفقود، مكانة رئيسية في أعمال النوباني، من خلال رسم نموذجين للبيت في أعماله بأسلوب طفولي، البيت العربي، مربع على رأسه نصف دائرة-قبة، و البيت الغربي، مربع على رأسه مثلث، تمثيلا لعدم التصالح في المشهد المكاني على أرض فلسطين و المتمثل بتدمير القرى الفلسطينية و إقامة المستوطنات الحديثة على النمط الغربي على أنقاضها. أثر إندلاع الإنتفاضة الثانية في شخصية النوباني الإنسان و الفنان، ليذهب بأسلوب تعبيري فوضوي إلى رسم الأحداث الدموية التي يعانيها الشعب الفلسطيني. يتجلى ذلك بداية في عناوين لوحاته " موت في فلسطين" و " جنين" و " ثور جنين" و "نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى". عن علاقة الفنان إبراهيم النوباني بالبيت يقول مشبّها الحالة الذاتية بالعامة و الوطن بالبيت :
"أشعر بأن لا بيت لي، وهو شعور يخلق حالة من عدم الإستقرار، تشبه
الحالة الفلسطينية برمتها، أن تكون مهجّرا أو إبنا لعائلة مهجّرة يعني أنك
تبقى مهجرا..."
" نصبوا لي الخيمة، قلت سأبقى"، [شكل 8]، هو عنوان مقتبس من قصيدة مشهورة للشاعر حسن ضاهر، وغناها الفنان أحمد قعبور. أنجز النوباني تلك اللوحة سنة 2004 و يظهر فيها رسم رمزي للخيمة في دلالة على استمرار الشتات الفلسطيني بعد ما يقارب الستين عاما. الخيمة تشير إلى سكن مؤقت، و إلى ساكن متنقل ليس له وطن. لذا فإن الخيمة التي مازالت منصوبة في اللوحة و بعد كل تلك العقود منذ التهجير تشير إلى علاقة تشبث و انتماء تربط الإنسان الفلسطيني بالبيت-الوطن-الذي هجر منه. يسيطر الأزرق على اللوحة ليشيرإلى حالة فزع و حزن، في حين تتواجد عيون و وجوه كثيرة تعبر عن حالة من الألم و الترقب و الإنتظار.
[ يتبع ]