أستاذة وباحثة جامعية - مشرفة على ملف الأدب التونسي
رد: بحث / النكبة في الخطاب الثقافي الفلسطيني : الفن التشكيلي نموذجا - مليحة مسلماني
[align=justify]
مرة أخرى تطل علينا يافا و كأنها ترفض هي الأخرى الزوال في " مدنية " قامت على الإقتلاع. يقوم سامي بخاري [مواليد يافا 1964] في عمله "بانوراما"[2002] بالتدليل على الخراب و الدمار الذي لحق بمدينة يافا بعد النكبة من خلال توثيق يافا ما قبل و ما بعد 1948، [ شكل 9]. تُظهر تلك الصور العلاقة بين الابنية القديمة و تلك الحديثة في المدينة " و كذلك المساحات المفتوحة التي تبدو كجرح داخل البيوت السكنية في الحي".16 عرض سامي بخاري أيضا ضمن هذا العمل سلسلة من الصور للمقبرة الإسلامية القديمة في يافا " الكزخانة"، و تطل المقبرة في الصورة كدالة على التراث المعماري الفلسطيني القديم في يافا، بقناطرها و أعمدتها. يقع الجزء الغربي من المقبرة على الشاطئ حيث هدمت الأمواج جزءا منها، في دلالة على الكارثة المنتظرة باستمرار على الأبواب، و بمقاربة للنكبة الفلسطينية في الوعي الذاتي و الجماعي الفلسطيني، حيث يحتفظ الوجود الفلسطيني بحضوره و يبقى على أهبة الإستعداد لكارثة اخرى، وهناك أيضا مشابهة للموت الثقافي و الإجتماعي في يافا بعد النكبة.17 ثم يعرض بخاري إلى جانب تلك الصور من المدينة سلسلة من صور أخرى التقطت لخنزير بعد الموت:
" يخلق البخاري علاقة إستعارية بين صورة الخنزير كتجسيد للخطيئة [في المجتمع
اليهودي و المسلم]، كشيء مقصىً، و بين صورة يافا في الواقع الإسرائيلي.
في هذا السياق يرى يافا ما بعد 1948 كتذكير بالخطيئة. يافا تظل مقصاة،
غير مرغوب فيها، خارج المعسكر. لكنها في الوقت نفسه، يافا العربية، يافا
الجميلة، المتبرجة، التي تتزين كل يوم تقريبا برصاصات بندقية ذهبية اللون-
وهي موجودة في مركز المعرض كأنسنة، كشخصية إمرأة، كعروس البحر في
الأدب و الثقافة الفلسطينيين" 18
و إذا ذهبنا إلى عمق المخيم الفلسطيني سيبرز في المشهد التشكيلي الفنان جواد المالحي [مواليد القدس 1969]. في اعماله يقوم المالحي بتوثيق الحياة اليومية في مخيمات اللجوء، و التي يرى فيها الفنان تجمعات و تركيبات سكنية مؤقتة جاءت نتيجة مهازل تاريخية.19
يعيد المالحي إنتاج لوحته " الدراجة" [شكل 10]، و التي فقدت منذ وقت طويل، بصنعه دراجة هوائية علقها على لوحة زيتية أخرى، كبرت الشخوص الذين رسمهم المالحي في لوحته السابقة، يعيد المالحي إنتاج لوحته، الأولى التي فقدت و يوثق فيها حالة الحزن و القسوة التي التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني، ليعيد إنتاج العلاقة بين الإنسان الفلسطيني و بين المكان الذي مازال مؤقتا –المخيم-.
تعيد الفنانة رائدة أدون [مواليد عكا 1973] في عملها " فساتين " تشكيليا إنتاج مسرحية "فساتين" لمحمد علي طه التي عرضت في مهرجان عكا عام 2001. في قاعتين وضعت الفنانة عرضيْ فيديو ، الأول [شكل 11]، يعرض فساتين سوداء منتصبة بين جدران البيوت المهجورة في قرية لفتا في القدس يرافقها صوت ريح تتحرك داخل الفساتين فتحولها إلى أشبه بأشباح في المكان المهجور، في القاعة الأخرى عرض فيديو حيث تظهر الفنانة بشخصية " عائشة " من مسرحية "فساتين" لتروي حكاية "عائشة" التي تعيش في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في دمشق منذ عام 1948 [شكل 12]، تشترط "عائشة" منح جسدها لعلاقة الحب مع زوجها " أبي العبد " بعودتها إلى قريتها "السجرة" في فلسطين.20
" قام أبو العبد مكسور الخاطر و من يومها ما عاد قرب مني و مرت سنين و إحنا في
الشام جسمي برد و مات ما عدت أفكر فيه [...] و هيك مرت سنين و مات إبن عمي
محروم مني و من السجرة "
" تكتمل الرواية ، القضية، الفلسطينية في العملين ، بحيث يخيم الصمت، إلا صوت الريح، على العمل الأول ليوحي بذاكرة جمعية فلسطينية تلخص تحول الشخوص في أمكنتها الأولى إلى أشباح، الشخوص و إن هُجرت من المكان إلا أن أرواحها تسكنه. العرض الثاني يروي الصمت و سببه في العرض الأول ، هذا التشبث بالذاكرة ، مرة أخرى تتجلى " ذاكرة التحدي" التي تحدث عنها إدوارد سعيد في قراءته لأعمال منى حاطوم. و مرة أخرى يكون جسد المرأة هو الدلالة على المكان و الأرض، وتكون المرأة هي الرواية الأساسية و الشاهدة الأولى، بل هي الموضوع، الأرض-الجسد ، اللذين يُشترط ارتيادهما بالعودة، المطلب المتجدد و المستمر للاجئ الفلسطيني. عرضت مسرحية "فساتين"، لجمهور إسرائيلي لا يفهم اللغة العربية، و كذلك النص التي تحدثت به أدوان في عملها بالفيديو حيث معظم الجمهور من الإسرائيليين أيضا، في ذلك سياسة ينتهجها العمل الفني، المسرحي و التشكيلي، لا تشير إلى اللغة كونها لغة فحسب، بل كونها هوية دالة على ثقافة و تاريخ و ذاكرة مغايرة لا يفهمها "الآخر"، و لا يحاول، وهو نفسه الذي يحاول طمسها و إحلال ثقافته مكانها "21. تنسج عائشة الماضي المتكرر بالحاضر فتقول: 22
" الخيال يجمح إلى الوراء. إلى آخر ايام المملكة الصليبية التي انحصرت إلى
عكا قبل أن تمحى تماما. و ربما أنه في ذاك الحين أيضا، أقيم مهرجان براق،
و دعي الجيران المسلمون كي يمثلوا و يعزفوا، و قام الصليبيون الذين لم يفهموا
العربية برفع كؤوس البيرة و صفقوا للعربية الجميلة التي تنبأت، بلغة حلقية غير
مفهومة، بإنصرافهم القريب"
من خلال الطفولة التي تشكل موضوع الفنانة إيمان أبو حميد [ مواليد عكا 1976]، تنطلق الفنانة لترسم ملامح هوية ذاتية حميمية لكنها تستند مرة أخرى على ذاكرة جمعية. في عملها "بدون عنوان"، [شكل 13]، تختزل أبو حميد في البيت مسائل الإنتماء غلى الهوية و الذاكرة الجمعية الفلسطينية. على شريحة السلايدز داخل صندوق وضعت الفنانة خريطة فلسطين ما قبل عام 1948 و صورة التقطت لها في فناء بيتها و هي مازالت طفلة، صورة بيت جدها الذي هُجر منه بعد النكبة و حبل الغسيل. هذا الإختزال للبيت في صندوق صغير يحوي عناصر هوية و قضية جمعية ما هو غلا إختزال للعام و للقضايا الكبرى لتصبح ذاتية و حميمية في إحساس الإنسان الفلسطيني بها ، و طفولية في حنينها المستمر إلى الزمان و المكان الأولين، يعكس هذا التمثيل للعلاقة بين الذاتي و العام عمق القضية الفلسطينية التي تحولت من قضية سياسية عظمى إلى مسألة ذاتية و جزء من الذات الفردية للإنسان الفلسطيني.
مرة أخرى يتجلى المكان المُؤَنْسَن في العمل التشكيلي الفلسطيني المعاصر كما كان في أعمال الرواد، ففي عملها " وادي الصليب في تسعة أبواب " [شكل 14]، تقوم أحلام شبلي [مواليد قرية الشبلي 1970] بإلتقاط صور للروح في المكان. وادي الصليب هو حي في مدينة حيفا هُجر سكانه عام 1948. تقوم أحلام بتوثيق ذاكرة المكان قبل أن تتحرك جرافات بلدية حيفا لمحو تلك البيوت القديمة. تستحضر روحه الفلسطينية، و من خلال حميمية تبثها الصورة في الأشياء المتروكة و في الجدران تقوم أحلام بأنسنة المكان، توثق تجربة الفقد و التهجير، و تثبت هويته الفلسطينية.