رد: اضمحلال الثقافة من مجتمعنا العربي - اضمحلال للمجتمع المدني !!
الناقد والشاعر والمفكر عبد الحافظ بخيت متولى
سحرتني بمداخلتك ، بعمقها الفكري والتحليلي ورؤيتك الفلسفية الصائبة .
بالطبع لي ملاحظات حول نقطتين هامتين ، اولا، الغزو الأوروبي الاستعماري الذي اشتهر بالحروب الصليبية .
من الواضح أن الدين وانقاذ مسيحيي الشرق كان حجة ومادة اعلامية استغلها اريان الثاني في تجنيد ممالك اوروبا للغزو . غير ان الهدف الأساسي كان يتعلق بالأزمة العنيفة التي سادت اوروبا .. وتميزت بتهديد المجتمعات الاوروبية بنزاعات مدمرة نتيجة بين الامراء الفقراء وأصحاب الأراضي والاقطاعيات وعلى رأسهم اقطاعيات الكنيسة الكاثوليكية. اذ كان القانون الأوروبي يورث الاقطاعية للإبن البكر ، مما سيعني ان سائر الأبناء محرومين من الملكية ، وبهذا الشكل شهدت اوروربا وهي تخرج من وباء المرض الأسود الذي اودى بحاة الملايين ، شهدت نشوء ازمة اجتماعية جديدة ، وهي عصابات الأمراء الفقراء الذين قاموا بغزو الاقطاعيات ونهبها وحرقها وقتل اصحابها وحراسها..
في الشرق كانت الموانئ الغنية وبلاد الحليب والعسل والاراضي الزراعية الغنية*. محاولات اريان فرض سلام اجتماعي فشلت والعنف تنامى. حتى سلام يوم الأحد فشل . فطرح فكرة السير الى قبر المسيح لانقاذ مسيحيي الشرق. وان الشرق غني والاراضي تنتظر من يستولي عليها. وللحقيقة كانت الغزوة الصليبية الأولى ضد العرب في الأندلس .
اما تعبير الحروب الصليبية ، فهو تعبير طرحه مستشرق فرنسي في القرن السابع عشر ، وأستهجن ان البعض حولوا هذا الاصطلاح الى مسالة دينية متعامين عن رؤية الدافع الإقتصادي الاستعماري والربحي والخلاص الاجتماعي للمجتمع الاوروبي من أزماته القاتله بغزو الشرق الغني . لم تكن الحروب الصليبية ذات دافع ديني حتى لو كانت دعايتها دينية . ايضا ستالين الملحد استغل الدين الاوتوذوكسي وأبطال الكنيسة الروسية من أجل رفع الحماس لمقاتلة النازيين الألمان ...
الديانة المسيحية لعبت دورا كبيرا في التغطية على أهداف الغزو المسمى بالصليبي بسبب الصليب الذي كان على لباس الفرسان ، ولم يستعمل هذا الاصطلاح الا في القرن السابع عشر كما أشرت سابقا. واصلا كل الفتوحات عبر التاريخ اكتسبت ابعادا دينية ، وجرائم باسم الدين ضد الشعوب ، هذا صحيح في الديانات الوثنية وصحيح في الديانات التوحيدية.
من السابق لأوانه الحديث في الحروب الصليبية عن تطور العقل الاوروبي .. كانت هذه الحروب دافعا لعصر الرينيسانس ( النهضة ) في اوروبا. والسؤال اين العقل العربي ؟ لماذا استمر التخلف العربي ؟ لماذا لم ينتفض العقل العربي الذي يدعي انه صاحب اعظم حضارة ؟والسؤال الأهم ، كيف خضع لنظام متختلف مثل النظام العثماني لمدة 500 عام؟ هل المشكلة في الفكر الديني ؟ ام المشكلة بيولوجية ؟
لي رؤيتي ، ولا ارى ان عقلنا العربي قادر على احتمالها. لذلك الصمت أوجب في بعض الحالات .
ان تحول تراثنا الى قاعدة لنشوء الحضارة الاوروبية كان يجب ان يفتح عقولنا وينبهنا الى أهميو منجزاتنا الفكرية وضرورة جعلها قاعد لتطوير مجتمعاتنا ، بدل ذلك حرقنا كتب التنوير والخليفة المعتصم حفيد الرشيد حرق دار العلوم سابقا هولاكو بسبب عقليته المغلقة ورؤيته ، عمليا الرؤية الرسمية للدين ، بأن التطور والفن والموسيقى والعلوم هي كفر والحاد . . عكس والدة وعمه وجده ( الأمين والمأمون والرشيد ) الذين أطلقوا حرية الفكر وحرية الابداع والفنون ليجعلوا من بغداد عاصمة الحضارة العالمية في وقتهم .
كيف اختفى هذا الانجاز وتلاشى لقرون طويلة ؟ عندما أمر الأمين بترجمة احد الكتب الأغريقية أعترض أحد الشيوخ بأنه كتاب زندقة ، قال له : " نترجمه نقرأه ولا نعمل به " اين اختفت هذه العقلية المتنورة ، عقلية المعرفة ؟
ما زلنا في نفس المنطقة المريضة نطرب لهرطقات زغلول النجار وأمثاله ، مخدرات العقل العربي المعاصر بتغطية كل الأنظمة العربية ، الذي وجد كل النظريات العلمية في كتاب الدين .. ولكنه لم يرشدنا الى طريقة استعمالها في مجتمعنا واقتصادنا وجامعاتنا مكتفيا بتعبئة جيوبة بالدولار واليورو من "اكتشافته العبقرية" ، متجاهلا سعادته ان النظرية العلمية قد تتغير لانها ليست قانونا ، أي اذا تغيرت النظرية واكتشف قصورها ، او جرى اضافة لها وتطويرها ، هذا يعني ان واضعها ارتكب خطأ ؟ ولكن في مجتمع خامل العقل لا نستوعب الا ما يرضي غرورنا الجماعي.
اسرائيل كانت صفعة مدوية وضربة عميقة في عضلة القلب العربي ، ومن يومها وقلبنا عاجز عن تزويد الجسم بالدم اللا زم لتشغيل الفكر والعقل. رغم ان المنطق يقول ان العكس ما يجب ان يكون . كيف طورت اسرائيل من 200 الى 600 سلاحا نوويا والعالم العربي نائم يشخر ويضرط ؟!
دولنا تدعي ان تخلفها وحرمان الشعوب العربية من الدمقرطية ونظام الطوارئ هو بسبب الاستعداد لمواجهة اسرائيل. شوارعنا الخربة لا تعبد لأن القضية العظمى للعرب فوق كل القضايا . فقط القطط السمان يزدادون سمنة لأن فلسطين في قفاهم .
حكام البلاد العربية وابناء عائلاتهم يزدادون غناء فاحشا واموالهم توظف في بنوك خارج الوطن ، ضمانا " لنضالهم ضد العدو الصهيوني " .
لو يعرف المواطن العربي ان الدولة الدخيلة سبقت كل دوله العربية في التطور العلمي والعسكري والاقتصادي والزراعي والاجتماعي والصحي ، وباتت من أرقى دول العالم في مجالاتها كلها ، والمواطن فيها ، بما فيهم العرب ، رغم التمييز العنصري ، يتمتعون بمستوى حياة اوروبي ، ونظام مؤسسات دمقراطي ليبرالي حتى النخاع ، ومستوى خدمات صحية من الأرقى في العالم بمستشفيات بدرجة خمسة نجوم .. و"رئيسنا" لا يضطر للسفر الى اوروبا او امريكا من أجل العلاج ،وجامعاتها من أفضل 100 جامعة في العالم ، بينما جامعات العرب من آخر 500 و600 جامعة ..هذا الواقع لا يقول اشياء كثيرة لا يقدر القلم ان يطرحها حتى لا يتهم صاحبة بالدعاية لأعداء شعبه؟
سألتني الدكتورة وفاء سلطان في مقابلة طويلة أجرتها معي : * لو اُتيح لك أن تهرب من جور "التمييز العنصري في اسرائيل" إلى أية دولة عربية أخرى، هل تفعل؟
فاجبت بلا تردد :
هل جننت لأهرب من تحت الدلف إلى تحت المزراب؟
كمسيحي سأواجه اضطهادا يلغي انسانيتي، وكمثقف علماني سأواجه محاكم التفتيش التي تواصل نشاطها في القرون العربية الوسطى.
وكمواطن عربي في تلك الدولة سأعاني من الفقر والأمية وفقدان التعددية الثقافية والفكرية والدينية وغياب الضمانات الإجتماعية والصحية وفرص العمل ومستوى خدمات بلدية راقية، والويل لي إذا كتبت ولم أتغنى بمدح الزعيم واعتباره هبة إلهية يجب ذكرها في صلواتي بصوت مرتفع حتى يسمعني كل الجواسيس الذين يبلغ عددهم جاسوسا لكل 50 مواطن.!!
ثم وأحمد الله إنني لست امرأة وإلا سيكون الوضع أسوأ بكثير.
والسؤال المقلق هنا أين الفكر العربي ، وأين العقل العربي وأين الكرامة العربية ؟ هل يظن احد بالحفاظ على التخلف الموروث الحضاري الوحيد الباقي ، سيتقدم العالم العربي الى عصر تنويره ؟
لسنا شعوبا قاصرة ، انما فكرنا الخاضع للخرافات والأساطير وقصص غير عقلانية هو الذي يجعلنا بلا ارادة .
ما لم يحدث اصلاح في الفكر الديني على نسق مارتن لوثر ، في دمجه بين المسيحية والاقتصاد والعلوم ، مؤسسا للمسيحية الحديثة لعصر البرجوازية ، ومخلصا اتباعه من خرافات اللاهوت . لما حدث هذا الانقلاب العمراني والعلمي والانطلاق الى آفاق لا حدودها السماء .
هل بفتاوي ارضاع الكبير وضرب النساء والزواج من أطفال وقتل الميكي ماوس والاصار على انبساط الارض وعدم كرويتها سنحقق علوما حديثة وتكنلوجيا معاصرة وطبا متطورا ومجتمعا دمقراطيا ليبراليا ؟
الكرسي البابوي اعترف بنظرية دارون واعتذر لغاليلو وكابرنيكوس وغيرهم ، ليس لأنه أصبحوا عاقلين ، بل لأن الشعوب الأوروبية والمسيحيين عامة لا يشترون الخرافات حتى لو كانت في كتابهم المنزل !!
اذا لم تسفر هاتان الصدمتان عن تحول في العقل .. فلا يبدو ان المستقبل يبشر بخير !!
|