(( اليمين وحكايا النافذة )) تأليف فاطمة يوسف عبد الرحيم
اليمين وحكايا النافذة
صفق الباب خلفه بعد أن استلب منها عنوة ما حصّلته من أجور خياطة الملابس ،انكفأت باكية تندب حظّه، آلة الخياطة تئن، وتذمرالزبونات يكيل لها بمكيال القهر، عائلة كبيرة وأفواه جائعة، زوج توطّن النكد فيه بكل أشكاله، البخل نهج حياته، سلاطة في اللسان، يد تهوى الصفعات، كلما حاولت الانعتاق من سجن الزوجية تتصدى لها أمّها :الصبر يا سعدية، لمن تتركين بناتك، تبتسم قائلة :أشك أن الصبر يقدر على صبري.
انزاح عن عاتقها عبء البنات، بعد أن أكملن تعليمهن وتزوجن ولم تبق إلا الكبيرة التي حملت المسؤولية معها، الصمت سيطرعلى حنايا المنزل، كلّ يعمل بصمت ويفعّل أفكاره نحو همومه، الهاتف يرن بقوة، سعدية تتأفف ما بال رنينه كأنه عويل ثكلى، اتجهت إليه بتثاقل، حملت أسلاكه إليها خبر وفاتها ،تفجّر ينبوع الدمع، لفّت رأسها بمنديل أبيض، ودسّت قدميها بخف رقيق,أسرعت إلى درجات السلم تطويها مسرعة إلى بيت والديها،قابلته على باب العمارة وعلم بالخبر منها، ردّ بخبث :أراحنا الله منها، رمته بنظرة غاضبة .
ابتعدت عن الباب الرئيسي لمدخل والديها الذي ما اجتازت عتبته منذ ثلاثين عاما و توجهت نحو موقعها المعتاد عند الشارع العام واحتضنت قضبان النافذة الخارجيّة للمنزل، مدت يديها إلى الجسد المسجى عند حافة النافذة، هذه النافذة التي احتضنت مناجاة وحكايا السنين، لن تنسى ذلك اليوم الذي تحول فيه الحوار إلى عراك بينه وبين أبيها بسبب سوء معاملته لها، لحظتها أقسم يمينا بالطلاق الذي لا رجعة فيه ألا تدخل بيت والديها، وحين يشدها الحنين إليهم تأتي لتقف عند نافذة البيت المطلة على الشارع العام، واستمرّ الحال عدة شهور، وبما أنّه لا حلّ أمام إصراره، فما كان من والدها وحماية لابنته من التقلبات المناخية وسترا لها من العيون المتطفلة لتلك الوقفة المريبة عند النافذة أن بنى لها معرّشا من عيدان القصب, ولمّا أصيبت الوالدة بالشلل وضع سريرها عند النافذة وأقصى ما كانت تقدمه لها لقيمات عبر القضبان، حاولت كثيرا كسرقيد اليمين والدخول إلى بيت ذويها لكن أمّها كانت ترفض باستمرار قائلة بيتك وبناتك أولى بك.
المعزون يتدفقون إلى المنزل، ارتفعت وتيرة البكاء والنحيب، تخترق يدا سعدية القضبان، تتلمس الجسد المسجى، تبكي بمرارة ،تتلهف لاحتضانها، وكأن النسوة تبكي حسرة سعدية ولا تبكي الفقيدة. أخرج الجثمان ورفع على الأكتاف إلى المدافن لكنه توقف عند النافذة، وعلت التكبيرات فما كان من سعدية إلا صاحت: أنزلوها أرضا وانكبت على الجثمان تحتضننه وتقبلها وتستسمحها،وانطلق به إلى مثواها الأخير.
عادت أدراجها إلى المنزل ووقفت منتحبة عند النافذة التي طالما وقفت تحكي لأمها حكايا المعاناة التي قهرها بها ،أخذت تتساءل من سيستمع إلى زفرات نفسها التائهة، تداعى أمام عينها شريط الذكريات ،كأن الحزن يستدعي كل جراح السنين السابقة، لن تنساه وهو يكيل لها الضربات لأنها خرجت دون علمه تحمل طفلتها سميرة بين يديها إلى المشفى بعد انفجار الزائدة وماتت سميرة وهي تتلقى الضربات، إصراره على مقاطعة أخواتها بسبب خلافه المستمر مع أزواجهن، إجبارها على العمل في الخياطة.
تعجبت من نفسها من أين هذه القدرة على الصبر والتحمل، رأتها "هدى" من شرفة شقتهم، أسرعت إليها :أمي، أتبكين في الشارع، اصعدي إلي المنزل، استقامت كعملاق واستدارت باتجاه منزل والديها ،فتحت الباب على مصراعيه،دخلت وأخذت نفسا عميقا ،عميقا بعمق سنين الظلم، صاحت ابنتها: أمي ماذا فعلت ؟أتعلمين نتيجة تصرفك هذا؟ سؤال كبير بحجم المعاناة: لم لا أتقبل عزاءها في منزلها وليس على النافذة؟ يكفيني ما عانيت من ألم،التي تحمّلت من أجل إرضائها غادرت الحياة ، لم أعد قادرة على تحمّل لؤم هذا الرجل، دخلت مجلس العزاء وتصدرته، البعض ينظر إليها بإشفاق والبعض الآخر ينظر بارتياح.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|