رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]هذا الليل يختلف عن غيره وأنا أذرع الربى والمروج المحيطة بالقرية ثم أعود إلى العش لأجده غافيا وكـأنه استبطأ عودتي لأني غالبا ما كنت أعود بعد كل جولة إلى أحضانه لأسمعه كل ما جرى حتى ولو لم يكن هناك ما يستحق السرد . كنت أحس به يرتعش لدى عودتي ويستمع إلي بلذة تعادل لذتي وأنا أستسلم لحضنه.
كل ما حولي يريد الإنصات إلى ما سأرويه عن لقائي بالغادة الشقراء وعن حديثنا الذي لا يزال أثره يسري في جسدي كالخدر . كنت أسترجع كل لحظة من تلك الجلسة المطلة على الوادي وأبتسم فتبتسم أشيائي من حولي . وأنظرإلى الليل وكأني أستدني الصبح فتنظر أشيائي إليه في ضراعة وكأنها ترجوه في صمت أن ينقضي رغم حبنا له .
حتى الليل أحس به يعيش نشوتي ولا يلقي بالا لرغبتي في انتهائه لأنه يعلم أن رغبتي هذه لا علاقة لها بمشاعري نحوه ، ولأنه يعي جيدا أن لهفتي لطلوع الفجر ستليها لهفة أشد للقائه من جديد . فلم أشعر إلا وأنا مستند إلى جذع شجرتي وقد تورد الأفق معلنا عن بزوغ الفجر .. التفت إلى أشيائي فوجدتها تغط في سبات عميق وقد علت محياها ابتسامة عريضة تنم عن رضا تام وأدرك أن سردي الصامت كان له الأثر الطيب في قلوبها المفعمة حبا .
أحسست بالبرد لكني لم أدخل البيت . تسلقت الشجرة بخفة وجلست على أحد أغصانها الذي بدأ يتثاءب ، ثم ركزت بصري على جهة الفرن الغافي أيضا ، حيث تراءى لي منزل العجوز الغارق في صمت جميل . كم كانت غبطتي له كبيرة وأنا أراه يحضن أجمل مخلوقة .. لا شك أنها الآن مستسلمة لنوم يعج بالأحلام الجميلة . وربما تخللتها لحظات حزن تشبه تلك التي لمستها منها ونحن جالسان على الشط .
حاولت تجاهل الجوع الذي بدأ يقرص معدتي عند بزوغ أول شعاع للشمس وهي تضفي على الكون بهاء وتلونه بكل ألوان الطيف . لكني استسلمت أخيرا ونزلت من أعلى الشجرة كي أعد شيئا أسد به رمقي ثم أعود لتسلق الشجرة مترقبا ظهور الفتاة . كنت أفكر في ما سأعرضه عليها من جولات تثير إعجابها وأماكن جديرة بأن تأخذ بلبها . فإلى الغرب يمتد الطريق في وداعة لا يحس بها إلى العاشق للطبيعة أو الماشية التي تتجه من وإلى المرعى في تكدس يزيد من حميميتها . ثم يتفرع إلى طريقين أحدهما يصعد نحو الجبل والآخر ينزل إلى الوادي حيث القنطرة والغدير الشهير بـ"غدير شامة" حيث لا يزال الأهالي يحكون عن مأساة فتاة تعرضت للاغتصاب .. حكاية زادتها الأساطير تشويقا مع مرور الزمن .
عند تجاوز القنطرة ، يوغل الطريق في غابة كثيفة تعج بالخنازير وبعض الذئاب . ويختفي للناظر إليه من بعيد إلى أن يظهر في أعلى الغابة وهو يقترب من مدشر لا يرى منه سوى صومعته .. كان هذا الطريق هدفي لذلك اليوم وكنت متأكدا من أن "دنيا" ستسعد بما أعددته لها .. دنيا هو الاسم الذي اخترته لها بعد أن يئست من اطلاعي عليه .. ربما لأنها كانت تشكل دنياي الوحيدة في تلك اللحظة التي تحدثنا فيها وما تلاها من لحظات حلم جميلة عشتها وأنا مع أشيائي .
يطلع النهار ويقترب الضحى ، ولا أثر لدنيا .. شعرت بخيبة أمل تدب إلى نفسي لكني لم أيأس وثابرت على مراقبة البيت من أعلى الشجرة .. لا حركة ولا أثر لوجود كائن .. وكأن البيت مهجور من مدة طويلة. حتى العجوز لم تظهر كعادتها لإشعال النار في الفرن وطبخ الخبز . هل تكون مريضة ودنيا بجانبها تمرضها ؟ .. هل تكونان غادرتا البيت عند أحد معارفها في إحدى القرى المجاورة ؟
شعرت بنوع من الطمأنينة لاستنتاجي الأخير لكن قلقي لم يفتر بل زاد مع مرور الوقت وأحسست بإحباط شديد يغمرني فغفلت عن كل ما كان يثيرني من خضرة الطبيعة اليانعة وزرقة السماء وهدير المياه وزقزقة العصافير وهي تنط في سعادة من حولي . هل كان هذا الغياب مهيأ له أم أنه جاء صدفة ؟ ومتى غادرت المرأتان البيت ؟ .. ربما كان ذلك أثناء تنقلي بين الربى والوديان منتشيا باللقاء الأخير.. أتكون غادرت القرية نهائيا ولم تشأ ان تزعجني بخبر الرحيل ؟ .. كان هذا كافيا لجعلي أدخل في دوامة من الحيرة المشوبة بالكآبة .
حان الظهر ثم تلونت الأماكن بصفرة الأصيل والشمس تجري حثيثا لتعتلي قمة الجبل الجاثم فوق القرية لتفسح المجال لمساء بدا لي كئيبا وكأنه كان يتوقع سلفا أن يجدني كذلك أو ربما وصله صدى اكتئابي من أشيائي التي اكتنفها وجوم مفاجئ بمجرد نزولي من الشجرة مترنحا وكأن دوارا أصابني . جلست وأنا أحس بالوهن وكأنني قضيت جل النهار أقوم بأشغال شاقة . أسندت ظهر إلى صخرة ملساء وسط المنبع أجول ببصري عبر الوادي .. اعتراني قنوط مفاجئ ورغبة ملحة في مغادرة عشي . لم أعد أطيق نظرات أشيائي الحزينة رغم إحساسي بحاجتي إليها وإلى دعمها .. لكني في نفس الوقت لم أعد أحتمل الظهور أمامها بمظهر العاجز .. والأدهى من ذلك أن كل أشيائي صارت تتقمص صورة الغادة المختفية .. كل صفرة كنت أرى فيها جدائل شعرها الأشقر .. كل زبد من مياه النهر كان يتمثل لي كبشرتها الناصعة .. كل زرقة كنت أستشف منها لون عينيها .. أدركت أخيرا أنها احتلتني تماما وأن روحها غشيتني فلم أعد أعرف من أنا ولا ماذا افعله .. هل جننت ؟ .. يبدو أن ذلك حصل إن لم يكن حصل بالفعل .. فمنذ أن آذنت الشمس بالمغيب وأنا اذرع الربى والمروج ، وأعتلي الصخور ثم أنحدر إلى الوادي ثم أعود لألقي نظرة أسى ولهفة على بيت العجوز وقد عمه سكون موحش .
ها هو الليل يقل من جديد .. ومعه تتكالب علي الكوابيس بعد أن كنت في ما مضى أستدنيه لأعيش أحلامي كما أحب . لم أفكر لحظة في تناول شيء أسد به رمقي .. أي جدوى من الأكل بعد أن سدت شهيتي ولم أعد أفكر في أي شيء سوى ظهور غادتي من جديد ؟
لم أدر كيف داعب النعاس جفوني ولا كيف استسلمت للنوم .. فقد كنت منهكا نفسيا وجسديا .. لكن طبيعتي ولا وعيي المتمسك دوما بخيط واه من الأمل جعلني أتساءل إن كان اختفاء الفتاة متعمدا لسبر أغوار نفسي وقلبي ولمعرفة حقيقة مشاعري .. وأعتقد أن ما آل إليه استنتاجي كان له الفضل في شعوري ببعض الارتياح والاستسلام للنوم .[/align]
|