___________________
الفقرة الأولى
_________________
ارتدى( فتحي) جلبابه
ثمَّ تَمَدَّدَ على مَطْرحته محركاً جسده نحو" جميع الجهات"، حتى أخذ يفرك عينيه لقلة النوم فنومه دوما قلق والكوابيس مستمرة،
استيقظ( فتحي) على صوت المكبِّر لصلاة الظهر واتَّجه نحو الحمام و فتح خلاط الماء وبدأ يغسل وجهه
ثم نظر إلى تفاصيل وجهه في المرآة وإلى هالات عينيه المُرْهَقَة وإلى تلك الشُعَيْرات الباهِتَة في رأسه بعد أن قضي ساعات طويلة مع (سعاد) ليلة أمس
حتى بدأت أقدامه تَقُودانه نحو "مَرْسَمه" الذي هجره ، وراحَ يُلاحق خيال (سعاد) ، وبات يزيل أكداس الرمال بيديه في تلك الزاوية المُشقَّقَة، ثم مثلَّ نقطة محورية تُجسِّد مفاتنها وملامحها الهادئة، وذلك ببعض أقلام الرَصَاصْ والفحم،
وبيده اليمين أمسك مرسمه وبكفِّه الآخر أمسك الممحاة، وذلك لتخفيف عتمة اللون وتوازن الرؤيا الجمالية الساحرة
***************************************
الفقرة الثانية
_________
راح (فتحي) يُشِّع بلوحته المموجة ،ويبحث عن ثنايا روحها ليطفئ لهيب حُبه الصامت يا له من مُحب ، حتى أخذ يَلتقط
أنْفاسه من بين رسوم وجهها يلامس عيناها بدمعتها الداكنة، وتارة يقبِّلها ويلحن لها بقلبه الدَّامي، وبخطوطه الباكية حبا لها وفرحا ،رغبات يَستفيق لها قلمه الفَّحمي ويخطو نحو عالم مفقود، لم يكن ( فتحي )يريد أن يصحو منه فكم هو سعيد بمشاعره التي رفَّت عليه ولوَّنت حياته
تذكَّر( فتحي) أنّه لم يذهب إليها ، وبعجلة شرب قهوته الثقيلة العربية وأكل تمرته مع أمه ثم ودَّعها ،
-فاستوقفته أمه قبل أن يجتاز عتبة الباب
يا بُنيْ، عُدْ مُبكِّرا لنأكل سوياً.......
-هَزَّ (فتحي) رأسه وهو ساهما ،ثم قال من بعد صمت:
"سَمِّ ،سَمِّ".. يا الغالية
وبعد أن مَشي بطريقه التُرابي ..والذي أخذَ يتسع به "شيئا، فشيئا"
توقف( فتحي) عند (العم سعيد الفاكهاني) و سلَّم عليه وهو ينظر إلى التفاح الأحمر الشَّهيْ،ثم أمسك بواحدة ليأكلها،
وما كاد أن يفتح شفَتَيْه إلا وأعادها فهو لا يملك من الريالات لشراء واحدة منها
و بدا فتحي يُحاكي نفسه بحسرة:
كيف لي أن أحبها وأنا لا أملك أن أقدِّم لها لو القليل!!
كيف لي أن أفكر بها وهى تحلِّق مع قلب آخر، ومُلكٌ له !!
إن مجرَّد التفكير فيها أنانية منِّي
فبدتْ صورتها تتلاشى" رويدا ،رويدا" ،صورة استفاق( فتحي) منها على صوت" الفاكهاني"
-كم كيلو تُريد أن أَزنْ لك...يا بني !!!!
-صَمت فتحي ونظر إليه ثم شكره قائلا :
فانتابته قليل من الُحرْقَةْ واعْتصَر حُزنا وألما ..فتأوَّه وابتلع ريقه ،وبشيء من الواقعية قال:
" يا إلهي،يا إلهي"
ما أتعسني من رجل ليتي عرَفْتها من قبل ولكن
"سأظل أضّمها إلي صدري وأعانق اسمها بصمتي الُمؤجَجُ
**********************
الفقرة الثانية
____________
تأخر ( فتحي) على ( سُعاد) وبدت تزداد قلقا. فثِمَة أشياء كثيرة تَدُبُّ برأسها تحوّلت إلى خَليّة نَحل
ثم أسندت رأسها على ظهر السرير ،
لم يكن بجانبها مًن يَرُد الصوت ،
تناولت (سعاد) هاتفها النقال من فوق الطاولة ، وقد ُطُويت إلى جانبه جريدة هذا الصباح، قرأت تفاصيل الحادث تصاعدت أنفاسها كاد أن يغمى عليّها، لولا أن تماسكت، وضبطت أعصابها
-رنَّتْ (سعاد) على الجهاز الخلوي الخاص بزوجها
-سعاد : أودُّ التحدث إلى زوجي
-الضابط:عفوا زوجك في العناية المركزة
ارتعشت( سعاد) بجنون
-كادت أنفاسها تعانق سماعة الهاتف فقالت:
كان( أحمد) يقف إلى جانب الضابط عندما كان يحادثها
سرعان ما التقط الهاتف من الضابط
-(سعاد ): من غير أن ترد على سؤاله
-قل لي يا (أحمد) هل صحيح ما سمعته
- تمتم( أحمد) وقال:
- تصبَّري يا( سعاد) إنه حادث بسيط وهذا "قدر الله"
فإذا بدمعة موجعة تنزلق من خدها وبكفيها تمسح عليها ،واليأس يدفن سعادتها الغامرة بطفلتها
كانتالساعة قد قاربت- الواحدة ظهراً- ،
خرج ( أحمد) من المستشفى إلى داره الذي يسكنه مع والديه،
وعندما وصل وجد أهالي الحي "يأتون"و " يغدون"
أوقف( أحمد ) سيارته البيضاء تحت ظل الشجرة المقابلة لداره، ثم أخرج المفاتيح الخمس من جَيْبه ، وأدخل أحدهما بقفل الباب الحديدي، ثم دخل من الباب الخلفي للمنزل متسحبا من الممر .. إلى غرفة المعيشة حيث وجد والديه
فوقف عند باب المجلس مُستنداً عليه وما أن سمع صوت والديه
إلاَّ و أنْ تقدم بخطاه إليهما، فطأطأ رأسه ،ثم قبَّل جبين والده وضم يَديْ والدته إليه
جلس أحمد على الإسفنج الممدود بينهما
-صمت (أحمد) وتوقف تفكيره لدقائق وبشيء من التوتر نطق:
-"أهلا يا أبي ،أهلا يا أمي"
- فردَّت والدته متذمِّرة: وقد وخز قلبها وقوع "شيء ، ما"
وهل تعرف" شيء ،ما" عن أخيك؟
-أجابها (أحمد)والألم يعصر قلبه محاولا إخفاء معالم الحزن عنه
-نعم ،إنه مع زوجته في المشفى
"أُبشِّركم ،أُبشِّركم"
لقد رزقه الله بفتاة
:-رفعت والدته يديها داعية:
"يا الله لكَ الحمد والشكر على سلامتها ،يا رب اجعلها عطا صالح"
-فقاطع أبو سلمان زوجته، وهو مشدود الأعصاب بسؤال:
وماذا عن سعاد؟!
-(أحمد): إن سعاد وطفلتها بخير..وكل شيء طبيعي فابعدوا الهواجس والقلق عنكم
-ثم استطرد
وهو يتكلم بصوت خافت يشبه الصمت:
"ولكن،ولكن"
سيغيب سلمان لفترة يومين فقد أُصيبَ بذراعه الأيمن، عندما حاول الإسراع بٍسَيَّارته لإسْعاف (سعاد)
ارتعشت والدته وتصلبت أجزاء جسدها كجذع نخلة
- وتسمرّ والده في مقعده قائلاً:
ماذا تقول لا أصدق!! خذني يا ولدي إليه
-أحمد: ليس الآن يا أبي فهو نائم ،وحين تبدأ الزيارة سنذهب إليه معاً "بإذن الله"
فبدأ الشك يثير نفس والده ،والكثير من الأسئلة !!
فراح في الحال يساند والده في سؤاله عن ( سلمان)
- فكرَّر( أحمد) مؤكداً صحة كلامه قائلاً:
"أجل ،أجل" سنذهب إليه يا "أبي"
سأحاولُ، قالها (أحمد) بلهجةٍ مضطربة
- في هذه اللحظة رنَّ جرس الهاتف، وكان رنينه قد قطع لحظت صمت
-(أحمد) إن هذا الرنين لا يتوقف ، خاصة عندما أردُّ عليه
-فقاطعها "والده ":
"أسرع ،أسرع" قد، يكون أخيك
فجاءه صوت أُنْثَوِيْ، من بعيد ،رجف أحمد رجفة باردة سرت في كيانه
وغمرتهلحظة صمت مفاجِئَة ليست مُعتادة وأُصيب بالذُّهول
- فانْفَّك لسانه متظاهر بصفة المذكر،مجيباً:
-ألو، أهلاً يا (هيثم) كيف حالك
-وداد:
ألو أحمد أنا "وداد" ويجب أن نحدد موقفنا
-أحمد:
" لا ،لا" إن المناقصة قد تخسر ، ثم أخي مريض ولن أستطيع التفرغ لها،
- وبصوت مخنوق ردّت وداد:
"لا ،لا "
لا تقفل السماعة يا (أحمد) قبل أن نتَّفق على كل شيء
-تأفّْفَ (أحمد) ثم تملل وأدار وجهه لوالديه وتظاهر بالهدوء ثم قال:
مع السلامة، وأشكركَ ،وسيكون" بإذن الله " كل شيء تمام
- فلاذَت( وداد) بالصمت ،وأطرقت،
ثم انفكت أناملها وسقطت سماعة الهاتف منها
وبعدما استيقظ (سلمان) من البنج بدأ ينظر من حوله ويبحث عن حياته ،و يتَحسس مكانه ،ويلتقط أنفاسه ،ويحاول أن يُدرك ما الذي يدور من حَولِه
بدأ يُسائل نفسه:
-أينَ أنا ؟وكيف صارْ؟ ومتى حصلْ؟!
فرفع عينيه للسقف و تَلفتَ" يمناه ويسراه "ثم تناول الحَبْل المتدَّلِّي من جانبه ،
أريد أن أعرف ما الذي يجري من حولي
- وبشيء من الهدوء أجابته الممرضة:
- دخل عليه الطبيب ،و خلع رَبْطَةْ عُنقه لتَنْفَكْ الكلمات منه وقال: -
"أهلا،أهلا"،ثم مدَّ يده مصافحا
(أنا الدكتور عماد )وقد قمت بعملية جراحية لك ،وذلك إِثْر حادث كان سَيودي بك للموت.
قل لي ..أيها الطبيب هل حالتي خطرة
كل شيء له مضاعفات وقد تواجه ذلك
...فصبرا جميل، سيأتي أخوك بعد قليل ويشرح لك بالتفصيل واترك أوهامك الحمراء..
-قال سلمان في ذاته :وهو يرنو إلى صور متراكمة ومتشابكة يحاول بها التأكد
هل هو حدث حقيقّْ؟ أم هو حلم كابوسي؟!!!.
فنظر إلى الطبيب وقال:" أعلم أنك تخفي عني الحقيقة"
وبعد ساعة عاد (أحمد) إلى المستشفى وهو مَشْحون بأفكار يرتّبها لأخيه، و بدأ يَدْفَع قدميْه بآليَّة كَئيبة مَمْزوجاً بآهات محرْقة ،وكآبة تَعتَريه بسبب انْهيار حادث أخيه دفعة واحدة ،سحب نفسا عميقا
- ثم راح أحمد يسائل ذاته:
- كيف سيدفن أحلامه الفنية و هو ما يزال في ريعان شبابه؟
و ماذا ترك إذاً للكهولة؟
وابتلع ريقه بكآبة تعتريها ابتسامة، ثم قال :ا
لحمد لله على سلامتك "أيها الأب"أُبشّرك، لقد رزقت بفتاة
- نطق سلمان بابتسامة متسائلاً :
و ماذا عن سعاد؟!
-أحمد:
لا، تخفْ فهي بخير ومعها أخيها
- سلمان:
لا أصدق، أخيرا لانَ وحنَّ قلبه
.. ثم سكت وسأل : قل لي يا( أحمد) ما هي المضاعفات التي قالها الطبيب ؟
- فأردف (سلمان) كلامه قائلاً:
إني خائف يا( أحمد) فأنا لا أشعر بأجزاء جَسَدي السُّفليْ، ولا أستطيع الحركة
هذا وضع مؤقت يا أخي ستخرج قريبا"بإذن الله"
- رد عليه سلمان وقد قرأ الزيف في كلامه :
بينما قرر (فتحي )أن يعود( لسعاد) فقد تذكر وعده لها ، سارع إليها بعجلة ، وكانت تسابقه روحه بخطوات تتسارع
حتى وصل إليها وهي تحمل طفلتها ،
-فوجد الطبيب يقف إلى جانبها ويقول :
أعتقد من الأفضل لكِ أن لا تخرجي اليوم
فأنتِ تستطيعين الاعتناء بنفسك
يجب أيها الطبيب أن أخرج فظروفي تمنعني من البقاء
إذاً إِرْفِقي بنفسك ولا تَحملي ثقيلاً
-فقاطعه( فتحي) موجها كلامه للطبيب :
أعتقد أن وضعها لا يسمح لها بالخروج فلتبقى الليلة
- فردّالطبيب على ( فتحي):
يجب أن تعتني أنتَ بها عندما تخرجفهي مسئولة منَّك
كان فتحي في قرار نفسه يخاف أن يصحو من حلمه
نظرت سعاد إلى فتحي بدهشة وقالت متذمرة:
(فتحي) لماذا تأخرت ؟؟
ثم استطردت :
الحمد لله أني لَحِقت عليكَ من قبل أن أخرج من المستشفى، لقد كنتُ أن أودُّ أنْ أطمئن على والدتك ،أتمني أن تكون بصحة جيدة
ثم هز رأسه ثم تنهد ببطء وتنفس هواء رئتيه
-شكرته (سعاد) على كل ما قدَّم لها من خدمات إنسانية ،و سألته بكل أدب، أن يطلب لها سيارة أجرة
وبشيء من التعجب قال فتحي:
أيعقل هذا ،"كيف ، كيف "
ستذهبين! ألم تطلبي مني معرفة المزيد عن حياتي؟
ثم أردف كلامه من قبل أن تقاطعه وقال :
"انتظري،انتظري"
سأدفع لكِ ثمن الغرفة
قالها فتحي على الرغم أنه لا يملك ثمنها...
شكرا، لقد دفع ثمنها زوجي سلمان ، كما أنِّي أريد الاطمئنان عليه بعد حادثه
ثم صمتت وتابعت :إني أقدر لك كل ما فعلت
**************************
الفقرة الرابعة
_____________
.لقد اهتزت جوارح فتحي عندما نطقت باسم زوجها ..... وبدأت أنفاسه تلاحق خطواتها
فاستدارت إليه مبتسمة شاكرة، ثم اقترب (فتحي) بخطاه وامتدَّت يديْه إليها ليَحمل طفلتها ويقبِّل يَديْها ويحْضنها بلطْف حتى أحسَّ كأنه طائرا بين النجوم فهي قطعة منها
بينما كانت عينيْ سعاد تتراقص بين الغيوم في وقت الغروب....
تشابكت تلك الأحزان والحب العميق بوداع رومانسي
ولكنه تجرّأ، و أوقفها قائلاً ..
فنظرت إليه... عندها التمس خاطرها وجدانه وحرقته على الفراق،
- فأثار في نفسها أحاسيس منهمرة بشلال من الغموض وقالت :
لا تقلق عليَّ سأكون بخير" إنشاء الله"
استيقظ فتحي من حلْمه الجميل بقَرْصَه مؤلمة فحمل حقيبتها واتَّجه نحو الشارع وتركها لدقائق ،
- هنالك أخذ فتحي يفكر بحيلة تقطع عليه واقعه الأليم قائلا لها:
ما رأيك أن تبقى عند والدتي لبضع ساعات ..وتذهبين أنتِ إلى مشوارك......
أجابته سعاد بشيء من التردد:
اسمعي مني يا( سعاد)، لن تتحمل" الطفلة" هذا الجو
شردت ( سعاد) ووافقت على اقتراحه،
- ثم قالت :
لا آبه ذلك...
حمل( فتحي) (آمال) متجهاً بها لوالدته، وكأنَّما معه كنوز الدنيا ثمَّ صَعَدَ بها السَلالِم ركضاً وبِكل ما أُوتي من قوة فتح الباب ونادى :
هذه الطفلة ستبقى هنا لفترة فأباها صديقي، والآن هو يرقد في المستشفى ،أرجو أن تراقبيها وتتقبليها بصدر رحب
فبدت عليه تهيجات في نفسه وإحساس لذيذ لا يوصف
نظرت والدته إليه بتعجب شديد، وتساءلت :
كيف تحوّل في غمضت عين هكذا؟ّ
ودون سبب راحت عينا (فتحي) تَدوران بفرح طُفولي
فضحكت أمه لكلماته البريئة و فهمت من أين أتت هذه الفرحة التي تغمره
ولكن كانت شكوك مليئة بالحيرة والخوف تحوم من حولها
*عاد(فتحي) إلى (سعاد) بسرعة أكثر من ذي قبل، فإذا بها تنتظره بين جدارين سميكين يفصل عنهما الشارع المحاذي لحارته وعندما ذهبا للمشفى الذي يرقد فيه زوجها...
بدأ( فتحي) يثرثر عليها في الطريق بأشياء غير مفهومة ،ولكنها لم تكن له صاغية
وهي تعيش لحظات قلق،ومعانات...
حتى وصلا إلي ذلك المبنى الأصْفر العريض ،اتّجهت سعاد نحوَ الاستعلامات واستدلَّت على غرفة زوجها ثم دخلت بحالة هستيرية تفرك بيديها حُزنها إليه
فصاحت:
(سلمان،سلمان) حبيبي
وسرعان ما ألقت بقوامها على صدره وضمته وقبلته، و خصلات شعرها المنسدلة على كتفيها وظهرها كانت كسنابل عسلية تموج بحركة وسكون ، ثم وضعت يديها على حافة السرير وقلبها يتنهد ألماً ورعشة ...وهي تنظر إليه بدهشة وتأثر
وتقاوم دمعة تَرَقْرَقَتْ في عينيها.
-عرفت( سعاد )أنه يخفي عنها شيء ما
-فقطع سلمان عليها تفكيرها قائلاً:
لا تقلقين يا حبيبتي سأكون بخير
خرجت "لأخيه" ووجدت ( وليد ) يقف بجانِبه
فاستنجدت به بصوت حزين (أحمد، أحمد )
فسِّر لي ما يحدث من حولي؟!
فسِّر لي ما كُتب في "الجريدة" .
هزَّ أحمد رأسه وبكل أسف قال :
تصبري
انه "قدر الله "يا سعاد وما علينا إلا أن ندعو له بالسلامة
..************************
الفقرة الخامسة
_________________
استسلمت سعاد للأمر وشعرت بدوران ثم اتكأت بكتفيها على الجدار..
- أمسك( أحمد) بها وقال:
"هيا،هيّا" سأذهب بكِ لوالدي
- فقالت( سعاد) وقد انحدرت منها قطرات على خدها الذابل:
ماذا عن سلمان ؟ّ!
- فقاطعهما وليد موجها الحديث لأحمد:
انتظر يا أحمد مع أخيك وسأذهب أنا بها
وعندما نزل (وليد)من السلَّم الخارجي للمشفى لَمَحَ (فتحي) في تلك اللحظة وهو مُتَّكأ على العامود الحديدي
-اقترب( وليد)، وسعاد من(فتحي)
-حينها رَفع (وليد)حاجِبَه بعينيْن غائرتيْن وقال:
·على ما أظنْ أنك أخو سعاد
نظر( فتحي) إلى( وليد) بصمت
حتى كادت أن تقع" لو لا" أن مسكت بكتف
(فتحي) متظاهرة بأنه أخيها
وقالت :
(أرجوك،أرجوك ) يا "أخي "خذني لابنتي....
·قال( وليد):
الحمد لله أنك هنا....كنت أعلم أنك لن تتركها
(فالدم لا يمكن أن يكون ماء) ..
ذهب( فتحي) بها إلى مَقهى قريب ، حتى تستريح فيه لبضع دقائق ...
- قال فتحي :
يجب أن تتمالكين أعصابك كي تعتني بطفلتك( أمال) ،ولن أصطحبك إليها حتَّى تهدئين...
نظرت إليه سعاد بصمت وهي غير قادرة على الحركة...
- فواصل فتحي كلامه أريدكِ يا سعاد أن تكوني أقوى كما عرفتك..
كانت سعاد مذهولة والدموع تنهمر منها
يا (فتحي) ،."صعب ،صعب "،إني لا أستوعب ما الذي يدور من حولي وإني أكاد أجن
أخذ (فتحي) يبحث عن كلمات وحكايات ،وسرَح بخياله ليطول اللقاء
ثم أخذ نفساً عميقاً
و راح يفكر بصوت عالٍ :
آه ما أجملها عندما تنطق اسمي .. لقد أحببت حروف اسمي حين نطقت بها " آه، آه "كم أحبها
بعد أن اطمأنَّت ( سعاد) على ابنتها وتعرَّفت على والدة (فتحي) انشرح لها صدرها وبَدتْ تشكي لها همها
فقاطعتها والدة فتحي ثم قالت:
اسمعي منِّي،يا(يا ابنتي) سأكون سعيدة إنْ بَقيتي معي
ابتسمت( سعاد) باستحياء ثم تلفتت من حولها
وقالت بشيء من التردد :
" لكن، لكن"
فأردفت والدة (فتحي) كلامها:
(إن لم يَسعك المكان ،ستسعك قلوبنا)
التفت (فتحي) من حوله مضطرباً ثم حَبَسَ نسمات حبّه ،فازدادت خفقات قلبه عندما وافقت( سعاد )على ذلك
وعندما خرج فتحي لبضع ساعات ،أخذت أم فتحي ُتجمِّل الحديث مع سعاد بحكايات عن ابنها
انظري يا( سعاد) إلى تلك اللَّوحات
فهي لها ذكريات يرسمها (فتحي) منذ الصغر
والدة فتحي :
طبعاً،طبعاً ...
حينها سَبحتْ ..بخيالها ...وبَدت تستجمع حركاته وتصرفاته...
فهمست :"لا،لا"
وعندما عاد( فتحي) فرحاً مسروراً
سألته (سعاد) أن يذهب بها لزوجها! ...
وأغلق الحزن على تفكيره أبواباً جعلته كالمخبول، يتحرك دون إحساس ويتكلم دون تفكير.
***********.
_________
..وفي الطريق دعته (سعاد) للعشاء في أحد المطاعم المطلَّة على أشجار تتدلى منها أورق صفراء
انقلب حاله وكاد (فتحي) يُجَنْ
كانت الفتيات يَنْظُرن إلى وسامته وجاذبيته وتناسق جسمه ،وهو غير مبالي،
وعندما دخلا إلى المطعم جمع (فتحي) شتات جُرأته وشَظايا نفسه
حينها طلب( فتحي )من النَّادِلْ طاولة عند زاوية مُنزوية تطّل على منظر شجرة تتدلّ منها أوراق خريفية من خلف النافدة ثم َخطى (فتحي) بخطاه وأزاح الكرسي لَها إلى الوراء
فجلست ( سعاد) باستحياء ونظرت إليه و هي تحاول أن تبتسم وكأنها تريد أن تقول شيء ما،
ثمّ جلس فتحي أمامها ،و عيناه تبحثان برعشة"عما" يدور بخاطرها،
وبعد صمت دام دقائق بادَرتْ (سعاد )كلامها بسؤال :
- قل لي يا (فتحي) منذ متى وأنت تَرسم؟
- ثم استطردت بخيالها قائلة:
وقد لمحت في بيتك بعض اللوحات
نظر إليها (فتحي) محرجاً لما رأته
فقطعت سعاد عليه خياله وهَّزتْ برأسها بجواب :
"نعم ،نعم" ما يخطر ببالك تلك اللوحة التي رسمتها،
كم هي جميلة، إنَّكَ رسمتها بخطوط متناسقة، تعكس صورتي تماما "ما شاء الله "
الآن عرفت من أنتْ، عرفت أنك بإحساسك أخذتني لجمال الكون، فقد أوحتْ لي تصرفاتك وطيبتك فَنَّك الراقي في كل لوحة
ثم تابعت بحماس :
" وما الفن إلا إحساس"،تماماً كفن التمثيل
تخيَّل يا (فتحي) إنَّ زوجي يعمل في مجال الفن "التمثيل والإخراج المسرحي، والسينمائي"
فابتسمت قائلة :
يبدو أنِّي محظوظة "بعالم الفن والفنانين"
وكأنها كانت تقصد اهتمامها بزوجها أكثر
-فانقبض قلب( فتحي )ثانية وسألها مستفهماً:
هل لكِ أن توضحين لي أكثر:
- فأجابته (سعاد) بابتسامة مشرقة:
لقد أتَيْت بكَ يا (فتحي) إلى هنا، لأعرض عليك أن تواصل فن الرسم فقد يكون لكَ ذات يوم شأنٌ كبير في هذا المجال
- فتحي:
ولكن هل وصلتي إلي ما ترمز إليه لوحتي
رفعت سعاد كتفها الأيمن ثمّ نظرت إليه وقالت بشيء من التردد:
و بدأ ( فتحي ) يحرك كرسيه إلى الأمام وإلى الخلف
- ثم استطرد في الكلام وقال :
-هل لي أن أطلب منكِ طلب ،وذلك
بأن ألقاكِ، بين" الحين، والحين "
- نظرت (سعاد إليه )فأطرقت صامتة ثم أردفت هامسة ،
إنْ قبلتْ شَرْطِي فلن أتردد في طلبك
فَّزَّ قلب( فتحي) وانقلب حاله
- فقطعت سعاد صمته مستطردة:
أريدك أن تُواصل رُسوماتك وتُكْمِل لوحاتك
- حينها هزَّ فتحي رأسه قائلا:
- ثم سكت ونطق بخوف وتردُّد:
ولكن إن قلت لك عن شيء سأكون صغيرا في عَينْيكِ وأنا لا أتحمَّل ذلك،
فاعترف لها بسرِّهِ ،عندما تهجَّم على منزلها وعن توبته من بعد أن التقى بها
- شهقت سعاد ثم وضعت كفَّها الأيْمن على فمِها وقالت متعجبَّة:
ثم بدأ( فتحي) يحكى لها عن طفولته القاسية ، حتَّى .حضر النَادِلْ وهو يحمل طَبَق الحلوى الذي طلبه في آخر وجبة
فقطعت( سعاد ) كلامه.قائلة:
فنظر إليها(فتحي) ومدَّ يديه وأعضاء جسده تهتز برعشة جامدة، ثم أزاح يديه إلى الوراء و لم يَجرأ أن يلامس يديها ثانية
.. وبآهات تَفور حَسْرَتُه مُتَنهِّداً ..
"إنِّي أُحبكِ ليس لأني أهوى الحب بل لأن الحب يبحث عنك "
وأنهى هذا الكابوس الموغِلُ بأعماقه
حينها وَّدعته (سعاد) وتابعت طريقها للمستشفى
"وَبدَتْ الأشياء راحلة من قبل رحيلها"
*******************************************
خولة