مشاهد من الحياة 1
بقلم : عبد المنعم (محمّد خير) إسبير
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالميّة
أيّتها الأمّ الفاضلة ، والمربيّة الجليلة ، في عيدك السّنوي "عيد الأمّ " ، أقف فيه بكل الإجلال والتقدير ، لأحيّي فيك حُسنَ الأمومة الفاضلة ، وأقطف زَهَراً من القلب ، لأصنع منها طوقاً ، أطوّق به عنقك ، وأشدّ على يدك البيضاء الطاهرة ، التي زرَعَتْ فأنبَتَت ، ورَعَت فأثمرَتْ، وجاهدَتْ في سبيل أولادها فأعطَتْ فأوفت ، وجمعت أولادها في الحياة فوحّدتْ ، وبعد رحيلها ، ظلّت عينها في مثواها تستشرف أحوالهم لاتغمض ولا تنام ، وبقي قلبها طيّ تربتها حيّاً نابضاً ينطق بالدّعاء المستدام.
أمّا أنت أيتّها الأمّ التي أسرَفت على نفسها فقصّرَتْ ، وزرعَت فما أنبتَتْ ، وأهدَرَت فما حفظتْ ،وحملتِ الأمانةَ فما أوفَتْ . إليكِ أيّتها الأمّ أقدّم لك مشهداً حزيناً رأيته في حياتي "وكم رأيت منه الكثير" ، ليكون لكِ ولمن أنبتك في الحياة ، مشهد تذكير وتبصير وتحذير، فلربّما كنت أنت أيضاً قبل أولادكِ ضحية التقصير .
*
إنّ أعظمَ خسارةٍ يخسرها المرء في الحياة ، هي خسارةُ الوقتِ الّذي يُهدرُ بلاطائل . فالوقت جزءٌ ثمينٌ من حياة الإنسانِ ،يقدَّرُ به يوم مولده وأيام حياته ويوم موته ، ويُحسَبُ به عمره الفعليّ على قدر أعماله فيه ، وأكررمقولتي بأنّ من الخطأ أن نقول إنّ فلاناً عاش ستينَ أو سبعينَ عاماً في الحياة الدّنيا ، بينما " في واقع الأمر" قدعاشَ العمْرَ الّذي عمل وجدَّ فيهِ ، ليكتسبَ ويُكسِبَ أولاده ربحاً في الحياتين ، فإنْ عمل عملاً صالحاً في مدى عشرينَ عاماً ثم رحلَ عن الحياةِ الدّنيا وهو في السّبعين من العمرِ مثلاً ـ فيكون عمره الحقيقي عشرين عاماً لاأكثر؛ أي عمرهُ العامل لا عمرهُ الخامل ؛ فالعمْرُ يقدّرُ بالمدى الّذي عمّرَ فيه المرءُ لا ما ماعمَر ، أما الوقت الخامل فهو وقت ضائع لايُردُّ ولايُستردّ ، والمرءُ فيه يكون مَيتاً فيما هو على قيد الحياة في ظاهره .
*
تعالوا معي الى المشهد التالي لنأخذ منه العبرة ؛ لنا ولأولادنا :
في عام مضى ،كنتُ أقف قرب باب مدرسة ثانويّة يدرس فيها حفيدي ، أنتظرُ خروجه ومعه نتائج الإختبارات السنويّة النّهائيّة التي تكون دائماً من النّاجحين ، وفيما أنا أتابع انتظاري ، إذ بي ألمحُ ابنَ أحد أصدقائي خارجاً من المدرسة مطأطئ الرأس حزينا ، وما إن رآني حتّى أسرعَ في خطاه باتّجاهٍ آخرَ ليتجنّبَ لقائي ، فلقد كان دائماً كسولاً في دراسته ، وكثيراً ما كنتُ أنصحه وأحرّضه على الإجتهاد خلال السنة الدراسيّة ،وأُبصّرهُ بعاقبة الكسل والّلهو وإضاعة الوقت في اللّعب والتسكّعِ في الطريق.وأسرعتُ نحوهُ لأخفّف عنه بكلماتٍ طيبة يقتضيها الموقف ، إذ من الحكمة ألاّ تعاقبَ إنساناً عاقب نفسه قبلكَ بالبكاء والخجل والنّدامة ، فذلك العقاب الذّاتي كافٍ لهدايته إلى طريق الهدى والصّلاحِ والإصلاح. وحينما خفّفْتُ من معاناته ، قلت له :
ـــ هل علمْتَ سببَ رسوبك ؟ إنّه الشيطان ورفاق السّوء ،أليس كذلك؟.
ــ هذا صحيح .
وودّعني وسار في طريقٍ غير طريق بيته .
ــ انتظر قليلاً ، فحفيدي سيخرج بعد قليل ، وسنرافقك إلى بيتك .
ــ لنْ أذهب إلى بيتي ، ولاأستطيع لقاء أمّي وأبي وأنا راسب ، سأبقى في الشارع .
ــ كيف تقول ذلك؟! هل الشارع سوف ينجيكَ مما أنت فيه ؟
ــ كثيراً ما كنت أُقضّي فيه أوقاتاً طويلة بطلبٍ من أمّي .
ــ كيف تقول ذلك يابنيّ ؟!
ــ كانت تفضّل أن أخرج إلى الشارع في كثير من الأوقات ، إمّا حين تعود من وظيفتها الحكوميّة متعبة ،فلاتحتمل منّي ومن أختي أيّ خطأ فتضربني وتخرجني من البيت، أو حينما لاتطيق أصوات لعبنا معاً ، أو حينما تدعو صديقاتها إلى ( استقبالاتٍ) في بيتنا ، أوحين يصيبني القلق ليلاً فلا أستطيع النّوم ، في تلك الحالات كانت تفضّل أن أخرج إلى (الحارة) لتنفرد هي في مشاهدة برامج تلفزيونية خاصّة تفضّلها !!
سكت طويلاً ثمّ أجاب:
ــ ليت لي أباً وأمّاً مثلك ، ولو كان لي ذلك لما رأيتني على هذه الحال ... فدعني . لاأريد الذهاب إلى البيت .
أمسكْتُ بيده ،وقبّلت رأسه قائلاً :
ــ بقاؤك في الشارع ليس حلاّ ياولدي.
ــ وما الحلّ؟
ــ الحلّ يكون بالعزم على تصحيح خطأ أعمالنا ، تحمله إلى السنة الدراسية المقبلة ، فكلّنا نُخطئ ، ولاعيب إن أخطأنا ولكن عيبٌ علينا إن تمادينا في أخطائنا ، وانحنينا أمام نتائجها بيأس واستسلام .
قم ياولدي قَومةَ رجل يتحدّى الخطأ ويتصدّى للفشل با لعزم والتوكّل على الله .
وبينا نحن في غمرة التّحادث ، خرج حفيدي من المدرسة ضاحكاً مستبشراً ، فلحظ زميله معي ، فأشرت إليه إشارة فهم معناها ، فاقتصدَ في إظهار فرحة نجاحه ، وأقبل على زميله يعانقه وهما يبكيان ، فأحسن حفيدي صُنعاً بذلك . إذ ليس من الرّحمة وحسنِ الخُلُق ، أن يستعرض المرءُ فرحتــــه( أية فرحة ) و نعمتهُ ( أيّة نعمة) أمام من افتقد الفرحة والنّعمة ، ويرقص على أسى الآخرين ؛ وما أكثر الخاطئين في تلك المواقف الإنسانيّة.
سألتُ حفيدي بعد إشارة خاصّة مني فهمها :
ــ هل تذكر ياوضّاح حديثاً للرسول الكريم يصف فيها القويّ ؟:
ــ نعم . فقد قال رسول الله : ليس الشديدُ بالصُّرَعة ، ولكن الشديد هو الّذي يملك نفسه عند الشدائد .
ــ هل سَمعْتَ ياولدي؟ ، هيا قم ياولدي إلى بيتك ، وكنِِ ذلك الرجل القويّ الّذي عناه الرسول الكريم .
ــ سأفعل ياعمي
وغادرني إلى بيته .
*
في نهاية السنة الدراسية التالية،رأيته يخرجُ من المدرسة ضاحكاً يقفز في الهواء من فرحة نجاحه ، وحينما شاهدني أقبل عليّ يبكي.
ــ أتبكي ثانية ياولدي ؟!
ــ من الفرحة ياعمّي أنا ناجح ... أنا ناجح ، شكراً لك على نصيحتك في السنة الماضية ، فالفضل لك بنجاحي .
ــ أستغفر الله ياولدي ممّا تقول ، فالفضل لله أّولاً ، ثم لعزمك وتوكّلكَ عليه .
ثمّ أمسكت بيده لأنتهز الفرصة للمقاربة والمقارنة بين امتحانين ، فقلت :
ــ كيف رأيتَ نفسك بينَ الأمس واليوم؟
ــ الحمد لله فسعادتي الآن لاتوصف .
ــ أتسمح لي ياولدي أن أُذكِّرَكَ بالإستعداد لامتحانٍ آخر ؟
ــ تفضّل .
ــ في امتحانِ الماضي كنتَ على قارعة الطريق تبكي ألماً ، والآن أنت عليها تبكي فرحاً ، ألم تفكّر يوماً في مصيرك عند رسوبك في الإمتحان الأعظم ؟
ــ بدهشة بالغة سأل : أيّ امتحان ياعمّي أما اكتفينا من الإمتحانات ؟!
ــ أعني ياولدي الإمتحان الأخروي ؛ امتحانك أمام الله ، يومَ تشيب فيه الوِلْدان ، ألا يستحقّ منك التّفكّرَ والتدبّر والعمل من أجله ؟
سكت طويلاً ... ثم أدركَ مقصد كلامي ، فأطرق .... .....
ــ أرى في دموعكَ خيراً وأملاً ياولدي ، وهذا أمْرٌ يسعدني ويُغنيك عن الجواب .
أطرقَ ثم رفع رأسه تجاهي فلمحْتُ دموعه تتلالاً تحت أشعة الشمس كقطع الألماس ، وتتدحرج على خدّيه كقطر النّدى ، ونظر إليّ بحسرة يغالب فيها نحيب بكاء وقال :
ــ كم أتمنّى أن تكون أمّي وأبي ، كم أتمنّى .
ــ لا ياولدي ، أنت تخطئ ، فلأبويك فضل كبير عليك ، وسوف تُُحِسُّ به في المستقبل.
فهزّ برأسهِ كمن لمْ يقتنع بكلامي وقال :
ــ كن معي دائماً ياعمّي ...... فأنت أبي وأمّي .
تركتهُ يتّجه إلى بيته ، ومضيت ساهماً في طريقي ، أسترجع بيتين من قصيد لي كنت نظمته لوالدي في بداياتي أيّام شبابي قلت فيهما :
*
تاللهِ لونِعَـــــمَ الإلهِ فقدتهـــــا **** وأبي يعيشُ ، فلاشقاءَ ولا غُمَمْ
جُرحُ البنوّةِ لا يُضمّده سـوى **** أيدي الأبوّةِ في الدّنا وفـــؤادُ أمّ
*
( عيد الأم ) يا أخواتي، عيدٌ سنوي يتفاخر فيه على السواء طرفان نقيضان من الأمهات :
الطرف الأول ــ الّلواتي أنشأنَ أولادهنّ على مبادئ الحقّ والخير والصلاح والتّقى والفلاح ، والى مايُرضي الله والمجتمع والوطن.
والطرف الآخرــ الّلواتي يتلَهَين عن أولادهنّ بوسائل شتّى ، ويرميْن بهم إلى قارعة الطريق والحارات مع رفاق السوء ، ليخلُدْن إلى الراحة ، و/أوينعمْن بمجالس وزياراتٍ نسائية ، يتخلّين فيها عن دور ( الأمّ المدرسة ) في غيبة أبٍ هارب من بيته ،لسبب من الأسباب ، لايُعفيه أيّ سبب منها من مسئوليته التربوية والرعويّة.
هذه الخواطر والمخاطر، ساقتني إلى نظم قصيد لأحد الفتية المراهقين الذي أطلقتُ عليه اسماً مستعاراً هو(عمّار) ،قلتُ له فيه :
*
(عمّارُ) يامَثَلَ الرّجولةِ أيّها الطفْلُ الكمـــــيلْ
*
إنْ شِئتَ تَبدو كالرّجالِ فكُنْ كما الرّجلُ العَقيلْ
*
فاسلُكْ طريقَ العِلْمِ تَغدو عالِماً عَلَماً جليــــــلْ
*
وإذا سَلَكْتَ الّلهْوَ والألعابَ تلْقَ العمْرَ وَيْـــــلْ
*
ولئن عشِقْتَ هوايةً أهوَتْك للقاعِ الوبـــــــــيلْ
*
وإذا قصدْتَ زميل جِدٍّ سائلاً، سَخِر الزميــــلْ
*
ويُديرُ ظهرَهُ قائلاً:اِبحثْ بجهلِكَ عنْ مُعـيــلْ
*
سَهَرُ الّليالي في اجتِهـــادٍ سُلّمٌ للمُسْتَحــــــيلْ
*
فيُنيرُ عِلْمُكَ حالِكاتٍ قدْ تُضِلُّ بِكَ السّبيـــــــلْ
*
وإذا سَقَطْتَ جَهالَةً لاتَبْكِ ،لايُجدي العَويــــــلْ
*
فحَذارِ مِنْ دُنيـا تَدورُ ولاتَرَى فيها خليــــــــلْ
*
إنّي أرى مُسْتَقْبَلَ الـ(العمّارِ) وضّاحاً جمــــيلْ
*
فابدأ بِتَقْوَى اللهِ عِلْمــاً،واتّكِلْ فهُما الكفيـــــلْ
****
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|