[عباس حيروقة]

إرهاصات الاعتلال.. الديني

عباس حيروقة

Hiroka72@gmail.com

لكي يمتلك أي دين أو حزب أو تيار مقومات المدّ الاجتماعي فأنه يعمل ومنذ إرهاصاته الأولى على منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع، فيرفع من سويته ويعزز إنسانية الإنسان إذ يتوجه باحتفاء إلى المقموعين و المظلومين و المقهورين و كل المحتاجين للوقوف وبكل اعتزاز في صفِّهم .
يطرحُ نظرياتٍ و مواقفَ تشدُّ إليها كلَّ من يتوقُ إلى تحقيقِ ذاته في مجتمعِ العدالة و المساواة و الديمقراطية و التحرر من كل أشكال العبودية , فينبذ العنف داعياً إلى التسامح و المحبة و الانفتاح على الآخر , على الثقافات و الفضاءات الاجتماعية الأخرى .
و ينجح أكثر ما ينجح أولئك المنظرون الأوائل , فيستقطبون في أمدائهم الوارفة كل الهاربين من قيظ واقع مدجج بالظلم و القمع و العبودية , من سادة و ساسة القوم المبني على " الكبير يأكل الصغير " أملاً في أن يجدوا ذواتهم الهائمة بين أنين العوز و دمع الكرامة المسفوكة عند طبق طعام أطفالهم , فيسرون و يطربون بادئ ذي بدء و يشعرون بشيء من روحهم ال تصفق لانتصارات الحق و أهله 00 " الناس شركاء في ثلاثة الكلأ و الماء و النار "
" ما آمن بي من بات شبعاناً و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم "
* * *

" و يدخلون في دين الله أفواجاً "

فيفسدون القراءات الأولى و يطعنون بكل لؤم الأيادي المشدودة بالإيمان إلى بعضها البعض 0
يتغلغلون في بنية " الدين , الحزب ،التيار 00 " يحفظون مبادئه و منطلقاته 00 أسماء قادته و قواعده و ينظرون له و عليه فيختلط " الحابل بالنابل " و يصبح المؤمن الحقيقي بالعقيدة مشكوك بأمره لينكفئ مدهوشاً 00 و يصبح كاليتيم على مائدة اللئام 0
و يبقى خيارهم بالجاهلية ، خيارهم ما بعد الجاهلية 00
و يصبح الإيمان بالدين أو الحزب أو التيار إيماناً بالقائد و القيادة و آلهم الطاهرين
و يصبح الدفاع عن الدين أو الحزب أو التيار دفاعاً عن الأشخاص الجاهليين و زبانيتهم و يصبح عدم مبايعة فلاناً أو فلان أميناً أو رئيساً أو خليفة يصبح ارتداداً أو خيانة أو انقلاباً فيستوجب القتل و الجلد و الرجم 00
و يعود السيد سيد و العبد الذي أعتقه أو حرره الدين أو الحزب أو التيار عبداً و يصبح
رب البيت و أبناؤه غرباء فيه 0

" و يدخلون في دين الله أفواجاً "

إنهم الذين انتسبوا إليه و دخلوه تحت الحصار و تحت وقع الرصاص أو صليل السيوف 00
تسامقوا و تطاولوا إلى أن ملؤوا المكان و غطوا على كل الأشياء الجميلة و العذبة ، أثاروا الغبار في أوقاتنا و عكروا حتى مياهنا 0
من هنا جاءت أهمية عمل المثقف النقدي و الفاعل الثقافي ممدوح عدوان في " ليل العبيد " طارحاً خطاباً مختلفا ، ليس لنقديته و حسب بل لنقديته أيضاً للسائد و الطافي بكل جرأة و كثير من الحيوية 0
خطاب نقديٌ في زمن الخطابات السائدة قي الثقافة العربية معظمها خطابات دينية تسليمية مسيطرة ،تشتغل على الغريزة كعامل أساسيُ في التنظيم 0
فيقف ممدوح عدوان و يهتف عالياً في متن عمله :
" إن سادتكم في الجاهلية هم سادتكم في الإسلام و أنت تأتي إليه هارباً من عبوديتك "
" تبت يدا أبي جهل ، و تبت يدا أبي سفيان , و تبت أيدي خياركم في الجاهلية الذين أصبحوا خياركم في الإسلام , تبت أيدي أولائك الذين هربنا منهم إلى الإسلام فتبعونا إليه "
و يعود ليصور حال الإسلام بغربة أهله في زمن الخليفة عمر بن الخطاب
- أبو سفيان لبلال الحبشي : هل تظن أيها الحبشي أننا سنسلم قيادتنا للخلعاء والعبيد 0
بعد أن قالت هند بنت عتبة لبلال أيضاً : أتؤيده ضدي يا ابن السوداء 0
إذاً هاهم سادة الإسلام الذين هربوا منهم إليه المقهورين " بلال – عمار بن ياسر – أبو ذر الغفاري – عبد الله بن مسعود 0000 "
عمل نقدي بامتياز يتناول فيه الكاتب بجرأة و حيوية الكثير من القضايا الإشكالية التي ما زالت عالقة حتى الآن على الأقل في الذهنية الجمعية , كمفهوم الخلافة – المرتد – حروب الردة –قتل مالك بن نويرة – الدخول في الإسلام ما المرجعية في ذلك هل الإيمان أم الانتفاع المادي والمعنوي أم الخوف أم العجز عن دفع الجزية 0
هذا الخلاف ظهرت نتائجه في مراحل متقدمة من بدء الرسالة بما لا يتجاوز مرحلة الخلفاء الراشدين , أما العصر الأموي و ما تلاه من عصور فحدث ولا حرج 0
إن المتأمل للحراك الاجتماعي الإسلامي و تأثيره لدرجة خلق التعصب و التكفير و التغييب و الإلغاء منذ أولائك المترفين و المترهلين من وجهاء الزمان و المكان الذين يكنزون الذهب و الفضة فيفرضون أنفسهم سادة العصر و يسنون القوانين و يوزعون الأمصار و المدن على زبانيتهم كل ذلك قاد إلى الانقسام و التباين و التناحر مخلخلاً البنية الاجتماعية التي جاء الإسلام كدين للعمل على تنميتها , هذه الخلخلة التي بدأت منذ صدر الإسلام و تنامت و تطورت و تشعبت لتنال من عوامل القيم المفطور عليها الإنسان 0
ما ذهبنا إليه يمكن إسقاطه على أيُ دين أو حزب أو تيار في مكان ما من هذا العالم و يمكن إجراء ذات القراءة في بنية مشابهة لها تماماً 00 البدايات 00 الحراك 00 الجمود الذي آل إليه
نتيجة الابتعاد عن روحانيات خطابه الأول و الذي من خلاله تم استقطاب القوى التي كانت وما تزال الحامل الموضوعي له إضافة إلى الابتعاد عن التجديد في الخطاب , كل ذلك قاد إلى الغياب و التغييب عن حاضنته الأم .
ممدوح عدوان يبدي موقفاً نقدياً حيال ما جاءت به كتب التاريخ من تسجيلها لمواقف أهم رجالات صدر الإسلام فيعبِّرعن عدم إيمانه بصوابية المواقف , ويعلن أنها أخطاء جسيمة وهذا لايتعارض مع مكانتهم الحقيقية , فهم أناس عاديون لهم أهواؤهم , وهم من التراث في النهاية الذي يجب إعادة قراءته وفق منهج نقدي موضوعي يكون للعقل لاللنقل الأمداء الكبرى00
\\ أظن أن رسول الله وحده هو المعني بقوله تعالى " وما ينطق عن الهوى " \\
رافعاً القداسة – ونلاحظ أن القداسة و التقديس طالت تاريخياً الخلفاء و الولاة وقادة الجند ورجال الدين وطالت في يومنا هذا حتى شيوخ الجوامع في أقاصي القرى أو من يحيون الذكر , وطالت أيضاً المتنفذين من الساسة و الخفر المنتشرين في كل الأماكن و الزوايا00
رفع القداسة التي رسمت حولهم لقرون من قبل المجتمعات العربية و الإسلامية وبتحريض من جهاتٍ تهدف إلى الإبقاء على الجهل و التجهيل وإشهار عبادة الحجر و البشر سواء .
رفع القداسة داعياً إلى قراءة تأصيليةٍ للنص 00وهنا نقول النص التاريخي المفتوح لا المغلق ولو مرحلياً , رفع القداسة لا عن المقدس بل عن من اتخذوا منه سبيلاً تأويلياً لفرض ذواتهم المشوهة على العباد , قراءة أولئك قراءة تتلاءم مع روحانية النص وأخلاقيات الرسل التي جاءت لتعزيز مكارم الأخلاق , لا فرض أخلاقياتٍ مغايرة تتلاءم مع حاناتهم وأسواقهم وحرائرهم و سرائرهم و جواريهم و 00
ونذكر هنا بعض خلفاء العصر و الزمان وما مارسوه من قمعٍ وتهشيم لطبقات المجتمع كافة 00
فاتحين أبوبهم ومجالسهم للجواري و السبايا وقادة الجند المحملين بأجملهنّ من بلاد الفرس و الروم , فنورد ما أورده الدكتور صادق جلال العظم في كتابه "في الحب و الحب العذري" ص56 أنموذجاً 00
"حين نقرأ في كتب التاريخ أن الخليفة المتوكل مثلاً وطئ أربعة آلاف جارية فإن هذا لايعني أنه كان دنجواناً من الطراز الأول بل يعني أنه مجرد فاجر فحسب , وحين تخبرنا الرويات أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك تمتَّع بالنساء حتّى ملّهن فقال : أتيت من النساء حتى لا أبالي امرأة أتيت أم حائطاً 00 ولاتعني هذه الرواية أبداً أن هشاماً كان شخصية دنجوانية لا يشقّ لها غبار 00 بل انه مجرد فاسق لا أكثر " .
إضافة إلى هذا يعمل الكاتب على منح العمل صفة الصورة الكاملة و الواضحة المعالم من كل جوانبها , فيطرح في عمله ما كان سائداً من فقرٍ أو تشرد في مراحل ما , وكيف يتداعون بعض أبناء المكان بالسر أو بالعلن لمهاجمة القوافل بهدف سد حاجة من لقمة عيش أو رداء أو غطاء 00 إضافة لحالات أخرى مثل وأد البنات أو الاتجار بهنّ في أسواق النخاسين إلى جوار العبيد .
إن ممدوح عدوان قدم في هذا العمل قراءة متأنية في شخصيات العمل , فهو لا يتناول السيرة الذاتية لهم فحسب بل يطرح آراء و مواقف البنية المجتمعية المكانية منهم و بشكل يعمل على تنامي الحدث داخل النص , فيشرك المتلقي بالتهيؤ لاستقبال قراءات أكثر دلالة و بعيدة عن السطحية 0
يطرح بين يدينا المزيد من الأسئلة الاستنكارية و الاستفهامية الكبرى التي كما قلنا تحمل في صياغتها بعض الايجابات , كما تحمل الدعوى على إعمال العقل وعم التسليم للنقل . فنلاحظ انه قدّم قراءة متأنية في شخصيات العمل المحورية مثل " الوحشي – الحطيئة – هند – أبو سفيان – حسان بن ثابت – 00 " هذا الأخير كم بدا متحاملاً أو حاقداً في حواره مع الحطيئة وكأنه ليس أكثر من خريج أكاديمية أمنية تدرب فيها على القمع والرفض وإذلال الآخر , بينما نجد الحطيئة يمتلك لغة حوار جاد في معظم جوانب العمل مع اختلافنا معه في وجهات نظره تجاه بعض القضايا , كما اشتغل الكاتب على التركيبة النفسية للوحشي "آفاق , مأساة " وحالات الصراع الداخلي التي عاشها , فأخرج الوحشي من دائرة القاتل فحسب " قاتل حمزة " , بل قدّمه متمرداً غاضباً من أشياء كثيرة وعلى أشياء كثيرة 00 على العبودية و الظلم و القمع , فقدمه الطامح إلى السيادة و المنتمي لحربته فقط 00 " أنا لا أنتمي لأسركم و لا لقوافلكم , أنا أنتمي لحربتي هذه 00هي التي تجلسني حيث أشاء " 0
الوحشي الشاعر بغربته ووحشته دائماً " آه أيها الوحيد في هذا العالم الضاري إلى أين تلتجئ ؟ "
وتتجلّى حالات الإدراك و القراءات الصحيحة للوحشي عند سماعه نبأ دخول جيش محمد إلى مكة و الصوت المرافق له " من دخل بيته فهو آمن , ومن دخل مكة فهو آمن , ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن " فيصرخ الوحشي ويهذي بعبارات تتردد سواء بالسر أم بالعلن بين العديد من عباد الله الأتقياء المتمسكين بالعقيدة الإسلامية عقيدة محمد وبلال وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري عقيدة علي وفاطمة .
" من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن , بيت أبي سفيان يصرخ منادياً 000
يا بلال 00يا بلال قل لي إذن لماذا تحملت العذاب كله ,
يا عمار بن ياسر تعال واشرح لي معنى ما فعلته
أنا لم أخلق عبدأً وهم لم يخلقوا ساد ة 00؟
هذا الصراخ أعادني إلى صراخ نيكوس كازنتزاكي في روايته " الأخوة الأعداء " الصراخ الذي أطلقته الجدة بوجه الأب ياناروس حين كانت حفيدتها الميتة من شدّة الجوع محمولة على يدها : اذهب وقل لمولاك ألم يكن لديه قطعة خبز صغيرة يعطيها إياها 00أو صراخ الأب ياناروس في موضع آخر من الرواية :يا ربّ لاأستطيع أن أفهمك , لماذا تعاقب هكذا بقسوة أولئك الذين يحبّونك 00 يا ربّ ! حتّى متى يظلّ عدو المسيح أمير الدنيا .
إنها صرخة من هول الفجيعة , صرخة أولئك المندهشين لدرجة عدم التصديق 00 لماذا يحدث كل هذا 0 0؟ ولماذا سادتنا في الجاهلية سادتنا في الإسلام 00؟
عمل ينتمي بامتياز لممدوح عدوان ثقافة وسلوكاً فعدوان دائماً يستنطق التاريخي أو الموروث مع التميز هنا ما بين هما , يضعهما على طاولة النقد ويحاكمهما وفق منطق نقدي جريء , يحاكم الشخصيات التي مازالت أصواتها مرتفعة بيننا , شخصيات لها قداستها كما قلنا في نفوس وأذهان العامة , فيأتي ممدوح عدوان ويناقش أفعالها وأقولها بحيادية تارة وباندفاع لا إرادي تجاه النقاء البياض المعرش بين الأنامل 00فوق الجبين تارة أخرى , ويتجلى ذلك بوضوح في مسرحيته
" لماذا تركت السيف " إذ يناقش بأسلوب أدبي نقدي مبدع مدى الطغيان والقهر والإذلال الذي مورس على شخصيات في غاية الأهمية بالنسبة لرسول الله من قبل شخصيات أيضاً من المفروض أنها مسلمة وصاحبت أيضاً رسول الله ونجحت أيضا في اقتناص الخلافة و الملك 00كل هذا يؤكد تاريخياً و التاريخ هنا " كمخبر للتجارب الإنسانية " أن هناك مشروعان متنافران دائماً هما التجار والملوك والأغنياء من جهة وكل الفقراء و المحتاجين والمظلومين من جهة أخرى , ودائماً نلاحظ أن كل الأديان و الأحزاب تأتي لمناصرة الفقراء و المحتاجين ضد الغول المادي وأسياده , ولكن لاتلبث أن تنقلب الآية فيتحول هذا الحزب أو الدين إلى مزرعة لهم ولأولادهم وذويهم فيبعدون منها بالسباب و الشتائم من قد ينغص عليهم أو على زبانيتهم الصباحات التي يشتهون ويشرعون أبوابها لأبناء العتمة 00 وهذا ما يؤكده التاريخ فعلياً .
إذاً إنها الأسئلة الكبرى التي لاتحتاج الإجابة عليها إلا لرفع القداسة عن كل المضامين الحقيقية لمصطلحات ومفاهيم تشكل حتى الآن في الذهنية العامة الكثير من الرهبة والإدهاش 00 لطرحها في حوارية ما لتمكن المتلقي من الإيمان أوعدمه أو التصديق أو عدمه بعيداً عن الصدامية أو التكفير , و العصبية المتراكمة في ذواتنا ضمن مناخ عقلاني تقبّلي يتيح إنتاج نص عقلاني ينسجم مع روحانية النص المغلق وأخلاقيات الرسل والأنبياء فقط .

عباس حيروقة

Hiroka72@gmail.com