السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الورقــة الإطــار
لمنتدى الإنسان للإصلاح الفكري والديني
**
إعداد الأستاذ الباحث: البشير فالح
اختتمت نبوة الإسلام بمحمد –عليه الصلاة والسلام- وهكذا كان الإسلام الدين العالمي للناس جميعا، سواء على شريعة موسى أو على شريعة عيسى أو على شريعة محمد، مادامت هذه الشرائع قائمة على أصولها، ولم يعتريها التبديل والتحريف.وبما أن شريعة الرسول محمد خاتمة لشرائع الإسلام منذ آدم عليه السلام، فهي تتميز بالتخفيف والرحمة، ورفع الإصر والأغلال عن الناس، لكي تستوعب ثقافات البشر بمختلف تجاربهم التاريخية وكسبهم الحضاري، وبما أن المجتمعات الإنسانية يعتريها مرض النسيان والآبائية والانحراف عن منهج الفطرة، والسكون إلى العرف (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)المائدة104 ، فان القرآن نبه على ضرورة التجديد الدائم للكسب ، والإصلاح المستمر للتجارب والمنجزات، ولأمر ما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) النساء،136 لان الإيمان الأول قد يبلى ويتقادم ، وأن لا نبوة بعد محمد ننتظر منها التجديد والإصلاح، لكن ذلك موكول إلى أولي الألباب والحكماء من الأمة ، فكان ذلك ديدنهم في تاريخ الإسلام زمن العالمية الأولى، فكانت حركة العلماء، وحركة المتصوفة ، وحركة المذاهب والفرق، تسعى دوما إلى إعادة المجتمع إلى المنابع الأولى للإسلام –حسب فهمها وتصورها-لكنها جوبهت بظواهر ثقافية واجتماعية وانتروبولوجية مركبة في بنية المجتمعات العربية والإسلامية العميقة. فالتسنن مثلا لم يكن ظاهرة حادثة في المجتمع العربي مع مجيء الإسلام وإنما كان خاصية وجودية لازمت القبائل العربية المتنقلة في أرجاء الجزيرة العربية، فالماضي عندها حياة ونموذج يحتدى والمستقبل مظلم ومجهول يحفه الموت من كل جانب بفعل عوامل اقتصادية كسنين الجفاف المفاجئة، والحروب المباغتة المفنية...لذلك نجد التسنن في الشعر والأنساب وأسلوب الحياة عامة، وما هو إلا تمجيد للماضي الغابر والعيش فيه والافتتان بكسب الآباء، وانعكس ذلك على الافتتان بتجربة الرعيل الأول للإسلام . وقد نبه القرآن على هذا المرض بقوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )170البقرة، والتشيع كذلك ما هو إلا محمولات ثقافية فارسية استصحبها الفرس مع دخولهم في الإسلام، ولازمة هذه الثقافة هي أن شعوب الشرق الأقصى عامة لا يرون زعماءهم وأكاسرتهم إلا أشبه بالآلهة، قدرة وكمالا في العقل والنفس، فقراراتهم تنفد ولا تراجع، بل إن هذه الشعوب لا تتصور تجمعا بشريا بدون زعيم ملهم لا يخطئ.
لكن هذه الحركات مع ذلك كانت لها أدوار مقدرة في خلق حيوية فكرية وثقافية تجلت في التناظر الفكري والمذهبي الذي خلف لنا ثارتا زاخرا من الفكر والفلسفة وعلم الكلام والتصوف... ، وانتهى دورها بنهاية دورة عالمية الإسلام الأولى وبداية عالمية الحضارة الوضعية وما يقابلها من ضرورة استئناف عالمية إسلامية ثانية، تتجاوز الفهم السلفي للإسلام وتعيد النظر في المفاهيم المؤطرة للسلوك المجتمعي ولرؤية الإنسان لنفسه وللعالم من حوله، وتعيد قراءة المصادر الحياتية للناس وهي الدين والثقافة و العرف والزمكان وتجارب الشعوب المتداخلة بفعل شبكة العولمة، وتحصن المجتمع من ردات الفعل على عالمية الغرب غير الناجعة كظهور حركات وتيارات استنجدت بالكسب التاريخي للعالمية الأولى، فكانت مثالية في تصورها للنموذج الاجتماعي والسياسي الذي تحلم بإنشائه، وهو أشبه ما يكون بالجمهورية الفاضلة كما حلم بها أفلاطون، أكثر منها مجتمعا بشريا تحكمه أطره الاجتماعية الفطرية، ويسوده التراحم قبل التعاقد، فكان أن استلبت الإنسان بمفاهيم إيديولوجية، مثل (تطبيق الشريعة الإسلامية) و(الإسلام هو الحل) و(المرجعية الإسلامية)، وأكثر ما يسمى بالإسلام والإسلامية عندها، ما هو إلا كسب تاريخي للمسلمين، ويوكل لثلة من الفقهاء السلفيين بالإفتاء في هذا المجال وتفصيل الأحكام والتشريعات التي يجب أن تطبق على المجتمع، حين تستلم السلطة، وهذا هو إقامة الدين في المجتمع، وحاولت هده الحركات جاهدة أن تدعو لهده التصورات وتطبقها على أرض الواقع، إلا أنها فشلت كما فشلت قبلها الحركات الإيديولوجية كحركة اليسار والحركة القومية والحركة اللبرالية التي حكمت كثيرا من البلاد العربية، وتبخرت معها أحلام الحداثة وتحقيق التنمية والنهضة الاقتصادية، ومحو الأمية والوحدة وتحرير فلسطين.
ودلت بعض تجارب الحركة الإسلامية التي وصلت إلى السلطة سواء النموذج الإيراني والأفغاني والسوداني على فشل ذريع في تشويه النموذج الإسلامي، فكان أولى ضحايا هذا النموذج هم الإسلاميون أنفسهم، فاختنقت الحريات، واستبِد بالسلطة وزُج بالمعارضين في السجون ... والحركات التي كادت أن تصل إلى السلطة مثل النموذج الجزائري، نجدها لما لم تفلح في الوصول إلى السلطة عمدت إلى خيار العنف فخلفت وراءها جماعات تسفك الدماء وتهلك الحرث والنسل، ومع هذا الفشل ظهرت حركات انقتالية اختارت العنف عقيدة ومنهجا، وهي تسميه جهادا، وأخذت مع تسليط الإعلام عليها بريقا عند كثير من الشباب، واخترقتها أجهزة المخابرات عبر العالم وصارت ألعوبة بين يديها لتحقيق مصالح خفية.
والنخب الحديثة في مجتمعاتنا تتكتل في الأحزاب والهيئات، وفي لوبيات اقتصادية وإعلامية لتحقيق مصالحها، والدول مسكونة بهواجس البقاء والاستمرار، وفي كل حين تبدل سياساتها في كل اتجاه دونما استراتيجية في الحكم مدروسة كما في دول الغرب، فمرة تنكل بتيار إذا رأته استقوى وتغول، فصار يشكل خطرا عليها، وتفسح المجال لآخر ضعيف لكي يحقق التوازن مع التيار الأول، وهكذا تمضي في هده اللعبة، والاقتصاد إما قائم على استنزاف الموارد الخام المحلية، أو الاقتراض من الخارج مما يشكل ديمومة التبعية للخارج، والتعليم لم يغطي بالكاد نصف الشعب، والإصلاح السياسي وسيادة القانون والفصل بين السلط وحرية الصحافة كلها أحلام مؤجلة، وشيوع البطالة والهجرة والغلاء، وأزمة السكن والعيش الكريم تنخر المجتمع، وهي مراتع خصبة لنمو التطرف بكل أنواعه الديني والعرقي والمذهبي...ودور الدولة في التأطير ضعيف، والأحزاب والجماعات التي نصبت نفسها لهذه المهمة محتواة من السلطة وهي في حاجة إلى تأطير، بل إنها تشكل جزء من الأزمة القائمة.
ولذلك وجب سلوك خيار جديد للإصلاح، كان يمكن أن يتم من خلال هذه الحركات لو كانت فضاء للاختلاف والتفا كر بين الرؤى؛ لا بل إنها أصبحت تضيق درعا بأبسط الآراء المخالفة للقيادة الملهمة التي تحل وتعقد وتفتي في الدين والسياسة، وتتصدر جميع المسؤوليات السياسية والنقابية والحركية والإعلامية وتتناوب عليها، أعمق وآصل من خيارات الإصلاح السابقة، يستنير بتجارب الأمم الإنسانية، فالأنبياء كانوا مجددين ومصلحين لأنهم جاءوا بمفاهيم الوحي التي تعيد للأفكار الفطرية شبابها وعنفوانها لما تبلى في النفوس، وكذلك المصلحون والحكماء من رواد النهضة الأوربية لم يبنوا الحضارة المعاصرة بالإيديولوجيات المتهافتة، وإنما بالعلم والنقد والإصلاح الجذري للدين والفكر والمجتمع، تصدر لهذه المهمة الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأدباء والمفكرون... مثل ديكارت وجون جاك روسو وهيكل وكانط ومارتن لوتر وغيرهم كثير...
تلك سنة الله في نهوض المجتمعات وازدهار الحضارات، لذلك فمن أولويات التغيير والإصلاح إصلاح الدين نفسه؛ فالإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي، وأبرز أصل يقوم عليه الدين هو القرآن الكريم الذي يحتاج إلى إعادة قراءته وفهمه، ونقد تفاسيره، وما بني عليها من أحكام ورؤى وتصورات، وكذلك فكر المسلمين، وما يشوبه من أوهام وضلالات، مع الاستفادة من الجانب المستنير فيه.
ومن هذا وذاك، يجب الحذر من إعادة إنتاج التجربة السلفية الحركية وما أفرزته من بنية تنظيمية سلطوية وبيروقراطية تقتل في الإنسان روح المبادرة والمغامرة والإقدام والنقد والتطور الطبيعي للأفكار، والتجمعات الإنسانية، فإذا كان الله عز وجل كل يوم هو في شأن، فكيف بتجارب الإنسان الخاضعة للنقص و للتقليب والطامحة للكمال دوما. إن التنظيم سلطة والفكر حرية وهما لا يجتمعان إلا إذا كانت الأشكال التنظيمية ما هي إلا وسائل للتنسيق والتواصل والتعاون على البر، والواقع أن أغلب التنظيمات "الإسلامية" ما هي إلا شكل من أشكال الدولة القهرية التسلطية لا تنتج مفكرين أحرارا بل جنودا طائفيين يقبعون في ثكناتهم ينتظرون النفير ليهبوا للتصدي لأعداء الله .
إن الهدف من هذا التحرك إنما هو التحسيس بوجهة جديدة يمكن أن تسلكها حركة التجديد والنهضة، وهي الإصلاح الفكري والديني والثقافي، وهذه الحركة لا يجب أن تختزل في تنظيم بيروقراطي، وإنما يمكن أن تتخذ أشكالا تنظيمية مرنة مثل جمعيات ونوادي ومنتديات ومواقع الكترونية وصحف ومجلات ومراكز بحوث ودراسات جامعية وغير جامعية...وكل ما أنتجته وتنتجه ثورة الاتصال المعاصرة من وسائل وتقنيات قربت المسافات، وجعلت الزمن قصيرا ونسبيا والمكان متقاربا، ولذلك فالعمل بنُظم الجماعات الاخوانية قد عفا عليه الزمن وأصبح أرشيفا دينيا.
هذا ويمكن نظم هذه الهيئات في مؤتمر تنسيقي وطني وعربي وعالمي، للتشاور والتنسيق وتبادل الخبرات والتجارب، هدفه إنتاج أفكار ومشاريع نهضوية فكرية وثقافية واجتماعية...
ورواد هذه الهيئات كل صاحب عقل مستنير ودي لب حكيم ممن يحلم بمستقبل زاهر لأبناء هذا البلد خاصة وبني الإنسان عامة، وكل المناضلين لصالح الإنسان مطلقا الذين يطمحون لمجتمع يسوده السلام والإخاء ونبذ العنف واستحما ر الناس وتزوير إرادتهم والتكسب بالدين والسلطة وحقوق الإنسان والحداثة و قضايا المرأة...
إن هذه الغايات والأفكار هي بلا شك مطوية في صدور كثير من الشرفاء والأحرار، وهم مغمورون بين ضجيج الإيديولوجيين والوصوليين، ومن شوهوا التغيير فأحالوا أحلام كثير من الشباب في التغييرالى رماد، وتصدروا الصفوف الأمامية والتصقوا بالزعامة، وعضوا عليها بالنواجذ، لذلك نجد كثيرا من طلائع هذا الشباب المجدد أمام هذا الوضع بين فطِنٍ للعبة منكفئ على نفسه، وبين من مازال في غمرة من الغفلة والسذاجة لما آلت إليه الأمور، ينتظر أن يأتي الحلم الموعود بارتفاع راية دولة الإسلام خفاقة، فتنحل مشاكل العباد والبلاد تلقائيا.
والمعول على الأحرار من هؤلاء في الخروج من السلبية والانطواء والقيام بمهام التغيير بالحسنى، والمجتمع المغربي، خاصة والعربي عامة، ليس عقيما لئلا يخرج من صلبه أبناء بررة به يريدون الخير له ويسهمون في بناء نهضته المأمولة.
**:هذه الورقة قدمت إلى قسم الدراسات والبحوث بجمعية المسار الجديد بآيت ملول، وسيعمل على برمجة مدارستها قريبا.