سيدي الرئيس .. السادة المستشارين ..
حضرة ممثل الحق العام ..
***
بداية لا يسعني إلّا أن أقدم التعازي الحارة لهذا الرّجل الواقف خلف القضبان .. في ولده و في العمر الذي أفناه خدمة له و سعيا منه لأن ينشئ من خلاله جيلا تحكمه المبادئ السامية و الأخلاق الكريمة و رجلا يستند عليه إذا ما حفر العمر أخاديده العميقة .. و برز شبح الشيخوخة المخيف ..
فهو أولى بأن نقدّم له جميعا العزاء و المؤازرة .. رغم كلّ شيء ..
هذا الجالس أمامنا التعيس بموت ولده، الصامت، الهادئ .. صمته لا يعني أنّه فاقد لصفة الأبوة بل بداخله أشياء لا يودّ الإدلاء بها و أوّلها صدمته بموت ولده أولا و على يديه ثانيا و كيف انّه قتل عمره المتمثّل أمامه في صورة هذا الشاب الّذي كان من المفروض أن يحني قامته حتّى يرفع شأن والده ..
هدوءه ينمّ عن روح معذّبة حدّ السكون المريب .. جسده لا يعكس أبدا بساطة الموقف .. كما يبدو عليه للوهلة ا أولى ..
ذلك الدمع المتجلّد في مقلتيه يكفي قارتنا العربية لزمن من الشتاء .. و الحرقة الموصدة دوننا تستفزّ أعتق البراكين الخامدة منذ عصور .. لأن يفجّر ذاته قهرا و ألما .. حمما حارقة ..
أستسمحكم عذرا على هذه المقدمة التي أردتها عمدا كي أخاطب فيكم الحسّ و الشعور و صوت الضمير النائم المستلقي فوق فضيحة إنسانية كهذه ..
أيّها السادة الكرام ..
قضيتنا اليوم ليست قضية عادية لتدفعنا عن صمت داخلي للبحث في مجلّدات القانون عن أي من البنود الّتي يجوز تطبيقها أو أي المواد يجوز إسقاطها .. أو أية وثيقة رسمية تكفل تطبيق أقصى عقوبة ..
بل يجب أولا التساؤل عن أيّ قانون وجب تطبيقه على قضية الحال .. و من هو الأجدر لأن يحمل عالة الأبوة المنكسرة ..
هل يكفي قانوننا الوضعي الّذي هو نتاج مخيلة الإنسان و فقهه في مجال الجريمة و سلاطة لسان الحق الممثّل في الحق العام الممثل أيضا في " الإنسان " .. ككائن عادي قد يتجاوز بفكره البسيط أهم الأمور التي قد لا تبدو دون التفكير العاقل، الرصين ..
أم وجب البحث عن قاعدة إلهية أسمى من تلك المدونة فوق أوراق قد تحمل الرّياء الإنساني المعروف منذ غابر العصور .. قاعدة قد تكون أرحم لأنّها الأسمى و فوق مستوى العقول البسيطة ..
قاعدة إلهية تنطلق من عمق الرابطة المقدّسة التي تجمع الضحية بقاتله .. ذلك الدم الموصول برابطة أسمى بجسده .. تلك الخارقة الإلهية و المعجزة الربانية الموصوفة بين هاذين الكائنين ..
أمع هذا يجوز لنا كبشر أن نتّهمه بحكم القواعد القانونية الّتي تعتبر في هذا المجال مجرّد طيش حرفي لا يفقه شيئا في العلاقات الرّوحية التّي هي أسمى و أرفع من مجرّد علاقة عابرة ..
هذا الرّجل الواقف أمامنا .. مشدوها، مصدوما كأنّه لم يستوعب بعد قدر الرّحيل .. مصمّما كجسد هذا القفص الماثل بداخله ..
لو سألناه عن حقيقة شعوره الأبوي حيال دمه المهدور .. كيف سينطق .. ؟ كيف سيقول انّه قد قتل نفسه قبل أن يخرس ذلك الجسد للأبد .. أهدر روحه قبل أن يحمل مادة الجسد تلك الساكنة بين يديه دون محرّكها .. يشقّ عليه أن يراه ممدّدا دون حركة ..
و هل سينطق الجسد يوما و يناديه " والدي " .. ما وقع تلك الكلمة التي أصبحت اليوم مكتومة .. ؟
لو سألناه بغض النظر عن فعلته .. دون أن نتطرّق إلى الواقعة بوصفها واقعة ..
هل أحبّ ذلك الشاب يوما ..
و ماذا عساه أن يجيب .. غير أنّه أحبّه منذ أن عرف بقدومه .. أحبّه قبل أن يفلت من قبضة الّسماء و يسقط رضيعا بين مخالب أرض قاسية ..
أحبّ روحه السويّة التي زرعها الله في رحم والدته و كنيته و صورته المجهولة و صوته المكتوم .. أحبّه قبل أن يتكهّن شكله أو صوته .. أحبّه ككيان ينتمي إليه بغض النظر عن أيّ ميول أخرى .. أحبّه امتثالا لرابطة روحية ..
سيدي القاضي ..
لنتناسى القضية قليلا و لنتناسى مواد القانون و حضورنا هنا من أجل فرضية الإعدام كأقصى عقوبة .. لنتناسى أّننا هنا تحت أسوار المحكمة الموقرة و أنّ جدرانها الخرساء توحي بالموت و العقاب القاسي على كلّ حالة مشابهة ..
و لنتفكرّ .. فلنُعْمِل عقولنا و فكرنا ..
هل يعقل لإنسان سوّي أن يرتكب جرما في حقّ ذاته .. و تاريخ الإنسانية يثبت أن الوالدين يستميتان في سبيل أولادهما، فكيف إن كان القاتل أحدهما ..
لا عقل و لا منطق يجبرنا على التسليم بذلك ..
هل تقتضي الطبيعة الفطرية للإنسان و غريزة الأبوّة .. ؟ أن يجاهر الأب بقتل ولده ثم ليكرّر المأساة عن طيب خاطر إن افترضنا عدم حدوث الوفاة .. أو تكرّر مشهد الإساءة العظيم أمامه و تكرّر الجرم الّذي سبق الجريمة ..
فليسأل كلّ واحد هنا نفسه ..
هل يمكنه في أحواله الطبيعية أن يرتكب فعلا مشابها و لو على سبيل المزاح .. رجل استيقظ و في نفسه رغبة في القتل و التّصفية .. حاجة ماسة و دعوة نفسية خاصة تبيح له الإجرام فوقعت الرغبة فوق جسد أحد أبنائه فاستسلم لها .. !!!
*****
( ساعتها دوّت قاعة المحكمة بأصوات الحضور .. بنقاشات و جدالات و صراخ دفع القاضي لاستعمال مطرقته حتّى يخرس الحاضرين و يأمرني كدفاع عن المتهم بأن أواصل المرافعة .. )
*****
سيدي الرئيس ..
مجرّد سؤال بسيط حرّك قاعة المحكمة في ثوان فقط .. الكلّ استنكر الفعل و ردّة الفعل انطلاقا من قناعاته الشخصية و صوت الحق و الضمير الأخرسين .. يكفي هذه العلامات و الرموز التي اتضحت جليا على الوجوه لنتأكد بأنّ الوضعية شاذة .. و لا تنتمي للطبيعة البشرية السوية بأي حال من الاحوال ..
كلّها علامات استفهام و استنكار و ذهول ..
علامات تعاطف و أخرى تجهّم و الكلّ يصدر حكمه السابق لأوانه دون أن يتفكّر و يتأمل و يستنتج .. و يسوغ المبررات ثمّ ليدعي غير ما أثارته حفيظته من صدق أو حتّى كذب ..
ما فائدة العقل و الفكر إن لم نُعْمِله خدمة للقضايا التي تخرج عن المألوف بحكم .. ليست الغرابة فقط إنّما بحكم استهجاننا للظروف المحيطة، للوقائع، للتعليقات .. لكلّ ما يحيط بالجريمة من متاهات و غموض ..
قد يتبادر السؤال هنا ..
عن مدى سلامة القوى العقلية لهذا الرّجل الأب المبتلى في فلذة كبده ..
و أرى أنّ فكرة السلامة العقلية قد تجاوزها الزّمن آو على الأقل تجاوزتها قضيتنا الإنسانية هذه .. فليس من المبرّر يقودنا للبحث عن وسيلة للخلاص فقط و حتّى نقهر لغة القانون بعبارة بسيطة .. كأن نقول مثلا أنّ المتهم يعاني من اضطرابات نفسية أو عقلية أو أنّه مثلا يعاني من أثار المخدرات او الكحول التي تناولها يوما .. أو .. أو ..
بل إعمالا لقاعدة التفكير السليم و جب البحث في عقله لا من باب إصابته بمرض نفسي أو عقلي من ذلك المتعارف عليه ..
إنّما من باب الخطوات العقلية التي سلكها المتهم شيئا فشيئا وصولا إلى تحرير أفكاره على شكل جريمة سيشهد لها التاريخ و الإنسانية و الأجيال .. و لابد أن نصدر حكمنا انطلاقا من هذه الخلفية فإما نوصل القضية بتفاصيلها كاملة قد تفكّ عن الأجيال القادمة عقد القتل و سفك الدماء .. و إما نوصلها مخدوشة مشكوك فيها و هنا ستقع الكارثة حتما فالكل سيعطي انتقاداته انطلاقا من أفكاره الخاصة الطائشة في مجملها أو قد ترتكب جريمة أخرى تستلهم صوابها و شرعيتها من مثل هذه القضية و تنسب بالتالي إلى سابقة خطيرة .. دون النظر في الأسباب ..
من باب الأفكار السلبية و حتّى الإيجابية التي حملته على تنفيذ خطة لا شك انّها جاءت حتمية كنتيجة كان يجب الوصول إليها من خلال محادثة طويلة مع النّفس و حتّى الرّوح ذلك أن الرّوح ما كانت لتستوعب أبدا اختصار المسافات الممكنة من أجل الوصول لفعل مادي بحث . لا يمتّ للتفكير السليم بصلة ..
سيدي الرّئيس ..
أتحدّى أي شخص هنا أن يرفع يده انطلاقا من هيئتكم الموقرة و يفضح نزعاته و ميوله إلى ارتكاب نفس الفعل اعتمادا على أسباب جادة قد يرسمها بمخيّلته ..
فليبحث كلّ والد عن سبب مقنع .. انطلاقا من علاقته الأسرية و المبادئ السامية التي رسمها من يوم زواجه و ميلاد أول طفل للعائلة ..
لا شك انّ كلّ واحد منا قد رسم لوحته الأسرية انطلاقا من مبادئه و أساسياته و خطوطه الحمراء التي لا يجب ان يتعداها احد حتّى هو نفسه .. و بالتالي أيّ تجاوز قد يشكّل أول خطوة للاعتقال و المساءلة ..
كلّ واحد شيّد مملكته الخاصة بأفكاره و تصميماته و منهجياته خلال فترة زمنية قد تكون طويلة جدا لدرجة أنّ طفله الصغير ذلك الّذي كان يجثو على ركبتيه يوما استعطافا لوالده على خطأ طفولي صغير .. قد شبّ و أصبح يمسك العصا من مؤخّرتها و يلوّح بها في وجه التقاليد التي يراها بالية، ضاربا عرض الحائط مدخرات والده العقلية و المنطقية و الدينية .. فكيف في لحظة سهو أو تمرّد أن يسمح بتهديم كلّ شيء كأن لم يكن .. كيف له أن يتقبّل فرضية انهياره كرب أسرة و أن القيم قد ماتت و قد مضى عمره يغرسها في قلوب أولاده ..
الإسلام و الدين عماد الأسرة العربية فكيف سيسمح لهذا الولد أن يلج البيت متأخرا و هو يحمل قارورة كحول صغيرة مخبأة بعناية شاب مستهتر في أدراج ذاكرته و هو المعتاد على لغة القرآن و ذاكرته تحفل بأنواع المناسبات الدينية ..
كيف له أن يتسامح و ولده البار بل الذي اعتقده ألف مرة كذلك، يستغني عن هذه الصفة ليفاجئه يوما في غرفته و في وقت متأخر من الّليل يدخّن سيجارة قاتلة .. و في أدراجه أشرطة ممنوعة .. أو في حوزته وثائق تنظيم سرّي قد يعرّض أمن البلد للخطر .. أو أنّه قد هتك عرض فتاة قاصر أو شتم والدته او رفع يده في وجه أبيه أو داس على قيم الدين أو .. أو ..
و إن ثبت مثلا بالدليل القاطع أنّ أسبابه وطنية سياسية .. فكيف سنطبّق حكم جريمة خيانة عهد الأبوة على الوالد .. و هو الذي بتر عن نفسه عار الخيانة .. فهل يستحق هذا الرجل الموت ثمنا لذلك .. أم يستحق العيش و مواصلة النضال في سبيل جدية القضية التي ضحى لأجلها بدمه ..
إن ولده قد قتله قبل ذلك بوقت مجهول .. فكيف للقاتل أن يتحوّل إلى قتيل في ظرف وجيز .. مجرّد الإشهاد الجسدي لا يكفي .. لأن نقول أن الإنسان قد مات حقا .. قد يكون قتله نفسيا معنويا قبل ذلك .. صعقه في نفسه ..
كيف له أن يستوعب قائمة الأشياء الممنوعة الدخيلة على أسرة عربية أصيلة .. و هو القائم بل و المستميت في سبيل دحض و قمع كلّ دخيل أجنبي .. مدسوس على الوطن أو الاخلاق و الدين ..
أعطيت هنا أمثلة فقط من الأمثلة الكثيرة التي قد تدفع أي رجل دون أن يتهاون لسلك نفس الطريق و قد تختلف طريقة القتل حسب نوعية الدوافع .. فأحيانا نجدها أكثر بشاعة مما ورد في وقائع القضية ..
و لتتصوروا الفاجعة ..
******
مرّة أخرى علت الأصوات حتّى أربكت القاعة بقداستها و هيبتها و اهتزّت الجدران على صوت النحيب و الصراخ و الاستهجان و المواساة و المؤازرة .. بينما الرجل الواقف خلف القضبان .. أحنى ظهره و غرس وجهه بين كفيه جزعا و حزنا ..
حتّى رئيس المحكمة نفسه التمعت إحدى عينيه حسرة و استعطافا ..
و لم يعلّق ..
بعد ثانيتين استرجعت المحكمة صمتها و هيبتها و سط وجوه معكّرة و أنفاس تتقاذف وهج التأثر و عيون تلتمع من الحين للأخر ببعض الدموع المواربة .. وجوه لا تخلو من الاستغراب تارة و من الاقتناع تارة اخرى ..
صمتُّ .. حتّى أسترجع شيئا مما فُقِدَ بداخلي وسط سكون ذلك الجسد الذي تقاسم الجدران الحديدية المحيطة صلابتها و قساوتها .. كنت أعلم أنّ الرّوح التي تسكنه قد انشطرت في ثانية إلى ألف شظية ملتهبة ..
كنت أشعر أنّ ذلك الرّجل سينهار في أيّة لحظة .. ليس بسبب الجريمة، إنّما لأسباب أخرى .. لأسباب تجاوزها حكم الغيب .. تجاوزتها مخيّلة أيّ رجل عادي لم يعاصر جنون اللحظة الّتيمرّ بها و من تمّ يقرّر عن إدراك أو عن نصفه تصويب جسد الآلة القاتلة ناحية ظلّه المرسوم في صورة ولده ..
لأسباب قد يكون أهمها انّه فقد رسالته في الحياة و أنّه فشل في إدارة بوصلته للاتجاه الصحيح و هو المسؤول أمام الله على أحد أعضاء الجيل الجديد .. و انّه الواقف أمام العالم ينتظر نصيبه من عذاب الضمير
واصلت بنبرة حزينة تُدَاخِلُها في أحيان كثيرة أنفاس متقدة .. و شجن قاتم .. و دخان أبصرته ينطلق عمدا من شفتيّ المتورمتين .. قد يكون سلطان الدفاع على رجل أعتقده بريئا لأسباب كثيرة من زجّ بي في ذلك العالم من الاحتراق الرّوحي .. تلك المرافعة التي لم تأتي طوعا إنّما تزامنا مع أشياء احسستهاتتقدّ داخل ذلك الجسد الذي أبصرته لأكثر من مرة يسقط كتمثال حديدي فقد ليونته .. تشبّه في لحظة بالموت غير أنّه لم يكمل مرحلة الانعتاق ..
*******
سيدي الرئيس ..
و قد كلّفت بهذه القضية و من صميم نفسي أستعبد خطوات ولوجي القاعة منسجما و متحرّرا من عقد الفشل .. و انا أرفع كفيّ لله و أمام حضرتكم تضرّعا لأن يلهم الله هذا الرّجل الصبر و يعوّضه بما يثلج صدره عن قهر فقده لعمود نور ثبت أنّه امتهن الظلام بدلا من ينير سماء والديه .. عن دمار أقوى من دمار الموت ..
صراحة لم يفلح استجوابي له بشيء .. فلم يزد شيئا عن مجرّد الصمت و بعينين متحجرتين قال الكثير ..
حاولت استفزاز الأبوة فيه فلم يحرّك ساكنا .. حاولت اتهامه بالاعتداء على شرع الله فتجاوز الأمر بغصّة شديدة .. و بكلمتين كان يرددهما سرا بين شفتيه .. مستغفرا ربّه ..
حاولت اقتياده وهما و خيالا لمنصة الإعدام فلم يردعه الحبل المتدّلي فوقنا و لم يحرّكه الموت و لم يعكّر رجولته و أبوّته سوى صورة ولده التي وضعتها أمامه للتنويه .. علّه يفضح سبب ارتكابه لفعل القتل و لم يصدمني أنّه بصق عليها و لعنه في غيابه و أكمل حرقته بدمعة اعتقدتها في ثانية أنّها سقطت من خلف ذلك السياج الّذي فصله عنّي طوال مدة الاستجواب .. بل كان يبكي بصمت كنت أستشعره في حركة عينه اليمنى و هي تستعيد المسافات بينها و بين ذلك الواد المفصول .. عنوة ..
حاولت التخفيف عنه بضّمة من هواجس خفية فاستنكر علّي مسار المواساة و رمقني بنظرة تحدٍ توشك ان تهلكني كتتمة لقضيته .. و كأنّه كان يساومني على أن لا ادافع عنه .. فهو الرجل الذي فشل أمام الحياة فكيف له بعد ذلك أن يواجهها بوجه شاحب ..
سيدي الرّئيس ..
إنّ موكلي سليم عقليا تماما و أنا أراهن لو أنّ الزمن تراجع قليلا للخلف لأعاد تمثيل جريمته بنفس لغة التصميم التي شهدتها عدالة المحكمة منذ قليل لما اعترف امام الجميع أنّه غير نادم .. و أنّه مستعد لأن ينفّذ قصاصه لألف سنة مقابل وجود آخر لولده المتوفى ..
أبعد هذا نبحث في الأسباب و نشكّك في غرابة القضية .. و نتهمه بالجنون و لو انطلاقا من الفكرة ..
جاء في وثائق الدعوى و بشهادة بعض الحاضرين أنّ الولد كان ذو مزاج هادئ و مسالم .. و أفاد تقرير الطب الشرعي بعد تشريح الجثة أنّ الولد سليم من أيّ مرض عضوي ..
و انّ دمه في ليلة الجريمة كان خاليا من أيّ أثر للمواد المخدّرة أو الكحولية .. و اكد البعض من أصدقائه أنّه كان غامضا في بعض تصرفاته .. غير منسجم مع بعض القضايا التي أسموها هم بالسياسة .. و أنّ أشياءه الخاصة لا زالت محجوزة في إطار تحقيق سرّي ..
لا شيء يبرّر الجريمة صحيح .. لكن ..
ما الداعي لأن تحرّض الرّوح الشريرة في والده أو إن صحّ القول أن يهاجم شيء ما كان ليستيقظ لولا قساوة الموقف .. شيء يشوّه رسم الأبوة و ان يغيّر ملامحها الساذجة إلى حنق و جنون ..
ثبت أنّ الوالد متديّن و يؤدي صلواته في أوقاتها و محبوب عند الناس و سلوكه سوّي جدا .. و معروف بمساعداته الكثيرة لذوي الحاجة .. و انّه قضى نصف حياته خدمة للوطن تقاعد منذ حوالي سنة من سلك الشرطة ..
فكيف ستمحو لحظة مجنونة كلّ هذا و ينسلخ فجأة عن طباعه المألوفة .. ؟ ليس من أجل الانتقام كانتقام .. و لكن لأجل أن يحطّم عائلة بكاملها .. كانت قبل وقت قصير أسرة متماسكة يضرب بها المثل ..
لا شكّ أنّ الموضوع أكبر من ذلك بكثير .. و أنّ الدوافع كانت أكبر من إحساس الأبوة و صلة الرّحم .. هاجسا خفيا حوّلته محض الصدف لحقيقة وجب القصاص منها قبل أن تتقد لتصبح عالة على المجتمع ككل ..
ألا ترون سيدي الرّئيس تلك المرأة الجالسة هناك .. تتكئ على الكرسي و ظهرها مكسور .. و نبضها متوقف إلّا من بعض الأنفاس اللاهثة المكتومة .. المتتابعة في غير انتظام و أخاديد دمعها المرسومة .. عبرت وجهها كأنّها كانت لدهر من المعاناة ..
هي والدته ..
لم تتكلم ..
أيكفينا قهرا لو قلنا أنّ موت ولدها هو السبب الوحيد ..
أيكفينا تكهنا أن فرعها المكسور كان السبب خلف انحناء جذعها ..
حضورها هنا أكبر دليل على ثقتها التامة أنّ زوجها ( والد الضحية ) متهم بمحو العار .. متهّم بقتل الخيانة .. و هي متمسكة بعدالتكم الحكيمة و ترجو أن يعمّ العدل حتّى و إن فقدت فلذة كبدها .. هذا ما نطقت به .. هذه الخدمة الوحيدة التي أسداها لسانها المعقود منذ حلول الكارثة ..
سيدي الرّئيس ..
قد أكون اطلت الحديث .. لكنّ الوصّف الجنائي هنا يجعلني أبحث و أحرّر خطابات طويلة و أناقش أجواء الجريمة و ظروفها منطقيا و فلسفيا .. أحاول ان أسكن في عمق الوجع و أَشرُدَ بين الأفكار المتناقضة و المخاوف علّني أجد ضالتي .. أحاول الرّبط بين مختلف وجهات النظر .. و أُعْمِل عقلي فقط قبل مواد القانون .. و انا الإنسان قبل أن أكون رجل قانون ..
فالجمود العقلي قد يحطّم أكثر مما قد يشيّد .. و الاستنجاد بوثائق جافة لا تفقه في العلاقات الإنسانية المقدّسة شيئا و لا تفكرّ و لا تبحث قد يقودنا لظلم الفكر السليم ..
لذلك أرجو من سيادتكم التريّث و الفهم العميق و التفكير برويّة .. بجدّية إسقاط الحالة، بجدّية الأسباب لا بجديّة رجال القانون .. فلعل ذلك سيدفعنا أخيرا إلى تطبيق القانون في شقّه المخفّف المنطلق لا شعوريا من عمق إنسانيتنا و قد يكون للمحكمة اجتهادها الخص هنا .. بما يثري قوانيننا و يمنحها مرونة خاصة للتعامل مع كلّ جديد أو شاذ يطوّق ساحة الجريمة ..
و أذكّر : ..
أنّي لا أشجّع الجريمة مهما يكن .. انطلاقا من دوافعها الجادة فرغم كلّ شيء أدعو للتروّي و إحكام العقل و محاولة حلّ المسائل بأكثر حكمة و تبصر .. لكن موقفي كدفاع على متهم و انطلاقا من قناعاتي الشخصية ببراءة موكلي ليس من وجهة نظر القانون او المجتمع .. إنّما من وجهة نظر خفية يعلمها هذا الماثل أمامنا .. من عمق سحيق لفكرة أرهقت كتفيه حتّى كادت تشنقه لو لم يسلم بها .. و العبرة هنا بحالته و عمق تأثره لحظة ارتكاب الجريمة ..
قد تكون هذه مرافعة مبدئية و لكم البث في القضية بعد ان تتضح كلّ الجوانب و الملابسات بحيث يصبح معها النطق بالحكم ضروريا لا مجرّد واجب قانوني ..
و لهذا فإنّني ألتمس من عدالتكم فرص أخرى للبحث و التحري .. لاستجلاء الحقيقة كاملة حتى يتسنى للقانون أن يأخذ مجراه و يمارس شفافيته و عدالته غير المجروحة و حتّى لا تتهم المحكمة يوما بخدش في عدالتها ..
حين يستقصي الشارع و العامة و الصحافة و العالم الحقيقة المتخفية وراء تجهم هذا الرجل و تصلّبه و رفضه الإدلاء أو الدفاع عن نفسه أو حتّى السّعي لنيل البراءة ..
أختم مرافعتي عند هذا الحد .. و لي عودة بإذن اللّه في الجلسة القادمة ..
كلّ الشكر .. لهيئتكم .. و تقديري و كامل مواساتي ..